الفساد.. والإرادة السياسية (10)

أحمد يحيى الديلمي

أحمد يحيى الديلمي
الفساد في الجانب السياسي
يكتسب الحديث عن الفساد في هذا الجانب أهمية خاصة لأسباب مختلفة أهمها:
الأول / معنوي: تمثل في :
1 – أن الثقافة بصورها المتعددة تلامس التداعيات التي مست الإنسان ومقومات بنائه وكل ما يحيط بحياته من مؤثرات وعوامل تعيق المواهب وتعرقل الطموح وتجعل المؤشرات المستقبلية في الاتجاه السلبي وتغيب الجانب الإيجابي.
2 – علاقة الموضوع المباشرة بالهوية ببعدها الإيماني وأفقها الوطني وما يتصل بالعملية من اختلالات وسلوكيات متفلتة نتيجة التوجه المغلوط وبناء ذهنيات الشباب بأساليب هلامية وأفكار ضالة جعلت الانغلاق والغلو والتطرف زاداً فكرياً للجيل بفعل عوامل خارجية أهمها الاستهداف من قبل الأشقاء في السعودية والقصد أكبر من ذلك ويعني إيجاد مبررات لاستهداف الدين وتشويه قيمه السامية، وهو ما حدث بالفعل بعد أن توفرت الحاضنة الوطنية وتوارت خلف نزعة الانتصار للدين ، هذا الملمح خطير جداً كشف حالة الانسحاق الذاتي لدى بعض القوى السياسية واستعدادها لتوظيف الدين والتعامل معه بأساليب انتهازية تبرر الأعمال المشبوهة وكل أنواع الفساد بأبعادها السياسية والمادية والأخلاقية ، هذا الفعل كان مدهشاً وغير ملائم للواقع في حقبة من حقب الوطن خاصة عندما وصلت الأمور إلى مرحلة إيجاد نوعين من التعليم وإدارتين مختلفتين الأولى وزارة التربية والتعليم والثانية هيئة المعاهد العلمية التي أعلنت وصايا خاصة على الدين وعبَّرت عن التماهي مع الآخرين وحماية أفكار ضالة تتعارض مع الهوية الثابتة في الإطار اليمني ، بما رافق العملية من بث لأنواع الحقد والكراهية وتعميق الضغائن في نفوس الأطفال ، وكانت العملية تهدف إلى تحويل فصول الدراسة من تلقي العلم إلى متارس للمواجهة والحروب خاصة إذا انتقلت نفس الضغائن والأحقاد إلى نفوس الكبار وأصبحت عاملاً من عوامل الانقسام والتخريب ودمار الهوية الوطنية ، لأن الفكرة اعتمدت على بث سموم الانقسامات المذهبية والطائفية وسعت إلى شيطنة الأطفال في سن مبكر عبر منهج غير منظور شجع الأطفال الصغار على تكفير زملائهم طلبة المدارس واعتبارهم أعداء، دماؤهم وأعراضهم وأموالهم مباحة في إطار تعريف الدور الجهادي الذي ينتظر الأطفال في سن البلوغ استناداً إلى القاعدة الراسخة في نهج الإخوان المسلمين ومفادها (من لم يكن معنا فهو ضدنا ) والأخرى التي تقول (تحرير القدس يبدأ بتحرير العواصم العربية والإسلامية من الفسق والكفر والضلال وكل عوامل الارتداد عن الدين ) وهي القاعدة التي التقت مع منطلقات الفكر الوهابي المنغلق وسمحت بتوظيف فائض أموال النفط لاستهداف المسلمين في المذاهب الأخرى بدعوى الردة والكفر والإلحاد بعد اكتمال عملية الاستحواذ واختزال الإسلام في الدعوة الوهابية ومن اتفق معها مثل حركة الإخوان المسلمين.
وصل هذا الأمر إلى حد الوحشية والانحطاط الإنساني والقتل لذات القتل على يد الجماعات التي تناسلت من نفس التوجه ، وحظيت برعاية واهتمام المسؤولين في السعودية الذين اقتصر دورهم على تمويل هذا الجماعات فكرياً ومادياً ، بالاستناد إلى ثغرات ومرتكزات المفاهيم المغلوطة عن الدين والتي تم إسنادها إلى الوهابية بما هي عليه من الانغلاق والغلو والتطرف ،وهي التي عمَّقت الاختلالات الذهنية لدى الشباب وأوجدت بيئة سياسية حاضنة للإرهاب وأقرت ممارسة الأعمال الوحشية بأبشع أنواع العنف باعتبارها أقرب الطرق المؤدية إلى الجنة ، طالما أن الفاعل ينتصر للدين ويجاهد في سبيل الله ، فكانت أول ثقافة شاذة فكرياً استهانت بحياة البشر واسترخصت النفس البشرية إلى حد الغباء و كانت المدخل لممارسة كل أشكال الفساد والإفساد والظلم والطغيان ، للأسف هذه الظاهرة الخطيرة شوهت الإسلام ومنحت الآخرين الفرصة لاستهدافه بنصوص ثابتة في بعض المناهج المغلوطة ، وهنا تتضح ملامح العلاقة بين المخابرات الغربية وهذه الكيانات ، لأن الأمور تمت بأسلوب ممنهج أمعن في التباكي على الإسلام وبدأ برفع راية الجهاد المقدس لتحرير أفغانستان من الاحتلال الروسي الملحد..
كما نلاحظ تم ربط المهمة ببعد إسلامي لمنحها قدسية الدين وتسهيل استقطاب الشباب المسلم الحائر المتعطش للشهادة في سبيل الله إلى ميادين المواجهة كأهم مدخل للخلاص من بواعث الضياع والاحباط والجوع والبطالة والانتقال إلى نعيم الجنة ، في هذا الجانب لعب الإعلام الغربي والأمريكي دوراً هاماً في تهييج المشاعر وإذكاء الحماس ونقل قصص خرافية عن الإعلام السعودي والخليجي وبعض الدول العربية السائرة في ركاب أمريكا وبريطانيا ، ونُسبت إلى علماء دين تحدثوا فيها عن بطولات خارقة اجترحها المجاهدون الذين سبقوا إلى ميادين القتال في أفغانستان ، ولم يخلُ الخطاب من كل عناصر الإثارة والتشويق لإذكاء الحماس لضمان استدراج أكبر عدد من الشباب بدعوى الالتحاق بميادين الفداء والتضحية لنيل الشهادة، لأن القصد نُصرة الدين وتحرير أفغانستان من الاحتلال السوفيتي الإلحادي الغاشم..
وكي لا يرى البعض فيما أوردت تجنياً على قوى سياسية بذاتها أورد فيما يلي شهادتين مدونتين لديَّ لشابين امتلكا البصيرة وأصبحا قادرين على التمييز بين الحق والباطل بعد العودة من أفغانستان ومشاهدة الوقائع التي حدثت أمام ناظريهما، قال م. ن : ( بعد أن سقط برقع الحياء عن الوجوه التي رافقتنا إلى بيشاور في باكستان عرفت بوضوح شديد أننا مخدوعون وأن التضحيات التي في ظاهرها تحرير أفغانستان ليست إلا أعمالاً غير سوية شيطانية تصب في صالح أمريكا وبريطانيا والموساد الصهيوني الذي لا أستبعد أنه لعب دوراً هاماً في إدارة كل ما حدث خاصة أننا عرفنا بوجود ضباط صهاينة يتولون أعمال تدريب كل الدفع الجديدة التي تأتي من بعض الدول العربية والإسلامية وحتى من أوروبا وأمريكا، كل المعطيات وشواهد الأحداث أكدت أن قطيع الحكام والساسة العرب وأجهزة الإعلام في هذه البلدان كانت مخدوعة مثلنا ، إلا من كانوا على علم بما يجري ويخلصون في خدمة أمريكا والصهاينة ).
وقال ج. ع : (كثيراً ما انتابتني الدهشة وأنا أسمع الإعلام العربي يردد ما تروجه أبواق الإعلام الأمريكية والأوروبية عن الإرهاب وما يمثله من خطر داهم على البشرية بما رافق العملية من إرجاف وتهويل وبث للرعب وإصرار على ربط الظاهرة بالإسلام لاتهامه بالحض على الإرهاب دون أن يعرفوا أننا تلقينا معارف كثيرة كلها مثلت حضاً على الإرهاب ودعت إلى استهداف الآخرين كل ذلك باسم الدين وكأن الجنرال البريطاني أو الأمريكي التي تولى تدريبنا في بيشاور جاء من أجل هذه المهمة وهي أن يفسد العلاقة بين المسلمين بدعوى الانتصار للدين، وانخدع بهؤلاء المدربين الكثير من الشباب الذين انضموا إلى ما سمي بجماعات الإرهاب في زمن متأخر و كان للسعودية الدور الأكبر في ذلك وكنا نصدِّق جميعاً بأنها مخلصة في حماية الدين والدفاع عنه ونصرته ، لا أقول هذا من باب التخمين لكنها حقائق لمستها بنفسي أثناء وجودي في أفغانستان ،فعرفت أن الإرهاب صناعة أمريكية والعنف عقيدة إخوانية ونهج وهابي وإن تعددت المسميات إلا أنها كلها كانت تصب في خدمة أعداء الدين وتلفيق التهم ضد الإسلام والمسلمين ).
الثاني / مادي : تمثل في :
1) توظيف الخطاب الديني لاستقطاب المشاعر عبر التباكي على الشعب الأفغاني لضمان التأثير وجمع أكبر نسبة من التبرعات في النطاق الشعبي ، إضافة إلى استخدام شعارات فضفاضة لاستدرار العواطف واستباق على زيادة الانفاق بسخاء لصالح أفغانستان وكذلك إجبار الشركات ورجال الأعمال والتجار على تقديم تبرعات سخية لدعم المبالغ الكبيرة التي كانت تقدمها السعودية ودول الخليج بقصد تمويل حملات الاستقطاب ونقل الشباب إلى باكستان ، ودفع رواتب الشباب وكبار الضباط الذين يتولون التدريب والتأهيل من أصل بريطاني وأمريكي وإسرائيلي بحسب شهادة الشاب السابق.
2) دلت حقائق كثيرة أن جماعة الإخوان المسلمين استأثرت بتبرعات المواطنين والتجار في عدد من الدول العربية ، وكانت هذه المبالغ سبباً في انتعاش هذا التيار وزيادة قوة حضوره في الواقع ومنحه التأثير في الجانب السياسي على كافة المستويات ، وهذه الدول اليوم تتعرض لمخاض صعب وفي مقدمتها اليمن، لأن الجارة السعودية خلطت الأوراق وحاولت فرض معادلة جديدة من خلال ازدواج الخطاب الديني وعدم اقتصار مفرداته على الدعوة لمناصرة أفغانستان لكنه امتد إلى تحقيق غاية أخرى تمثلت في استهداف الهوية المتجذرة في أعماق وأفئدة اليمنيين بما كانت عليه من التآلف والتسامح والانقياد المتوازي بين أتباع المذاهب الإسلامية المتواجدة في اليمن منذ مئات السنين ومنها الشافعية والزيدية والصوفية ، وكان القصد واضحاً من هذا التوجه ويعني ترجمة رواسب الثأر ورغبات الانتقام المزمنة والمتجذرة في صدور أبناء وأحفاد مؤسس الدولة السعودية ، بعد أن فشلت بشكل ذريع في إحلال الفكر الوهابي كبديل لتلك المذاهب في اليمن.
3) هذا التوجه أكد الدور الخفي والظاهر للسعودية في تفريخ جماعات التشدد والتطرف والغلو الإلهابية المسنود بخطط وبرامج المخابرات الأمريكية والبريطانية، حيث تمت شيطنة الشباب الذي انخدع واستجاب لدعوة الجهاد في افغانستان بصدق وإخلاص مصدره الغيرة على الدين من خلال الخطاب البديل الذي حوَّل الإلحاد والكفر إلى صفة لصيقة بكل مجتمع إسلامي يتعارض مع الفكر الوهابي ، إذ تم تهييج المشاعر باتجاه العداء المطلق للمجتمعات في الدول العربية والإسلامية بدعوى أنها ارتدت عن الدين واعتنقت جاهلية أخطر من الجاهلية الأولى التي أسقطها النبي والمسلمون في أولى سنوات الدعوة.
الملمح واضح الدلالة كشف خبث النوايا الحقيقية للنظام السعودي ، وما قامت به أمريكا من أدوار مجحفة بقصد السيطرة على العالمين العربي والإسلامي والتحكم في مصادر الثروة ، وأن مظلومية الشعب الأفغاني لم تمثل إلا نقطة البداية، إذ تم استغلالها وتوظيفها لخدمة النوايا المبيتة وعلى ضوئها تم استغلال نصوص وأحكام الدين القويم لفرض ما يشبه البابوية على الدين وتأكيد قوة الحضور السياسي والتحكم في مسار القرار العربي والإسلامي ، لا لخدمة السعودية نفسها أو لخدمة الدين ولكن لترجمة الخطط الإجرامية المعدة سلفاً من قبل المخابرات الأمريكية والإسرائيلية ، وهكذا نجد أن كل هذه الأطراف وزعت الأدوار وحددت الغايات سلفاً ، وبعد ذلك مدت الشباب بأفكار ومفاهيم مغلوطة قدست الانغلاق على الذات وعمَّقت الجمود والتطرف ، وكرَّست كل ما يدعو إلى التخلف باعتبارها حقائق ثابتة تترجم روح العقيدة، وما سواها ظلال وبهتان ، واعتبار من يدينون بها كفاراً جهادهم واجب كجهاد الكفار، ويعد جهاداً في سبيل الله ونصرة للدين.
من خلال ما تقدم نلاحظ أن الأحداث المؤلمة و المجازر البشعة في معظم الدول الإسلامية عكست خطورة التوجه وما ترتب عليه من تداعيات قوضت فكرة التوحد وفرضت الخنوع والذل والتبعية المطلقة للإدارة الأمريكية والنتيجة نجنيها اليوم، إذ أصبحت أمريكا قادرة على تحريك الشارع في أي دولة عربية لاستغلال أي ثغرة من الثغرات كما يحدث اليوم في لبنان والعراق والجزائر وإن كانت هذه الدول تئن من الجوع والحرمان والفاقة، وهذا يعود إلى خطأ الأنظمة القائمة فيها وعدم قدرتها على المعالجة “سوء الإدارة” إلا أن العملية حينما تخضع لإرادة أمريكا تفقد كل هذه الصفات وتصبح خدمة لأعداء الأمة وفي المقدمة دولة الكيان الصهيوني ، وهو ما يتطلب التنبه لمثل هذه الاختلالات والتصدي لها قبل أن تستفحل وتتحول إلى أداة من أدوات الأعداء يستخدمونها كما شاؤوا.
التأثيرات في النطاق اليمني :
كما أسلفنا المعركة في اليمن مختلفة تماماً لأنها ارتبطت بجذور العداء السعودي المتجذر في النفوس وأصبحت وسيلة من وسائل التأثير لاستقطاب اليمنيين إلى مجاهل الغواية لضمان تبعية الدولة للنظام السعودي ، وهو ما يجعل وجه المقاربة مختلفاً لأن السعودية سعت إلى إيجاد خارطة مختلفة في الجانب السياسي تبدأ بإسقاط الهوية الدينية وضرب المجتمع اليمني معنوياً ووجدانياً ، فأحدثت بالفعل أكبر شرخ في النفوس وعمَّقت الانقسام وأججت العداوات بأبعادها السياسية والمذهبية والقبلية كلما أقتضى الأمر ذلك، وكلما سعى اليمنيون لامتلاك الإرادة والتفرد بالقرار ضربوا ضرباً أشد وتم استهداف كل شخص يسعى لتحقيق هذه الغاية ، كما حدث للشهيد إبراهيم الحمدي “رحمه الله”.. بعد ذلك ساعدت هشاشة النظام وعدم قدرته على المواجهة الجانب السعودي في تمرير هذه النزوات وفرض حالة خنوع واستسلام لإرادته الذاتية ومصادرة القرار الوطني بكل أبعاده ، وهو ما جعل السعودية تتحكم في مسار الأحداث وتفرض إرادتها في كل صغيرة وكبيرة ، ومن خلال جماعة الإخوان المسلمين الذين تماهوا مع نفس الفكر تم التركيز على التعليم وأدوات بناء الإنسان من خلال رعاية وتمويل ما سُمي بالمعاهد العلمية وبعض المدارس الفقيهة مثل دار الحديث في دماج التي كانت أهم وسيلة لإيجاد جيل منقاد للاقتتال في أي لحظة تسعى إليها السعودية وتحاول من خلالها التأثير على مقومات الحياة في المجتمع اليمني ، وهو ما حدث في أكثر من مرحلة انتهاءً بثورة الربيع العربي التي لم تكن إلا مجرد وسيلة لفرض فكرة معينة وجماعة معينة على الواقع وإن كانت العملية قد أخذت بُعداً تحررياً أظهر القبول بالآخر مرحلياً فقط، بينما كانت النية المبيتة تعني التفرد بكل شيء وزيادة الخضوع للسعودية ولإرادتها الذاتية ، وهي صورة واضحة تتجلى اليوم في العدوان التي تشنه السعودية على اليمن بما جسده من حقد وبغضاء وكراهية لأنه لم يكن إلا رد فعل نزق على المطالبة بامتلاك القرار السيادي وضمان الاستقلال والتفرد بناصية الخيار الوطني كأهم عامل يجعل السعودية تفقد كل حواسها وتتصرف بجنون لكي تكبح أي خطوة تحاول الوصول إلى هذه الغايات.
وبالتالي فإن أي مبادرة لإصلاح الاختلالات في الواقع ستمثل انتصاراً حقيقياً للضمير الاجتماعي والدفاع عن الهوية الوطنية.
البقية في الحلقة القادمة.. والله من وراء القصد..

قد يعجبك ايضا