حتى لا نكون أمة بلا هيبة

 

حسن سعيد الدبعي
لا بد للواحد منا أن يصاب بالأفكل « والأفكل تعني الرجفة القوية الناجمة عن خوف شديد أو برد قارس» عندما يرى كل شيء من حوله يتبدل ويتغير ويتداعى كالجدار القديم، ولعل أخطر ما يواجه المجتمعات البشرية هو التغير السريع في المفاهيم والقيم وفي العادات والتقاليد وفي طرق العيش وأنماطه.. وفي العالم اليوم مجتمعات كثيرة تقاتل من اجل الحفاظ على هويتها وتراثها وتناضل من أجل الابقاء على ما توارثته جيلاً بعد جيل في وجه عولمة متوحشة «أو قل أمركة متوحشة» تجرف في طريقها كل شيء جميل وأصيل..
غير أن التغيير سنَّة من سنن الحياة والتغيير هو قدر البشر والمجتمعات، ففي كل زمن تتغير المفاهيم وتتبدل القيم حتى العادات والتقاليد التي أورثنا إياها أجدادنا وانشأنا عليها أهلنا يتسرب إليها شيء من التبدل لدرجة أنها تأخذ شكلاً آخر واسلوباً آخر، فنحن لا نستطيع اليوم أن ننتف دجاجة مسكينة لنكتب ونرسم بريشها في حين أن الأقلام متوفرة بمختلف الألوان والاحجام، ولا نستطيع أن نمتطي الحمير في تنقلاتنا في حين أن السيارة أو الطائرة أصبحت ضرورة من ضرورات العصر، وليس بمقدورنا أن نقاتل إسرائيل التي تملك ترسانة نووية بالشعر المقفَّى والموزون وبـ»الخيل والليل والبيداء تعرفني..!».
هناك إذن عصر جديد علينا أن نتعامل معه بأسلوب مختلف وجديد.. فالتغيير حاصل رغم أنف الجميع ولكن رحم الله مجتمعاً يتغيَّر باتجاه الأفضل لا باتجاه الأسوأ، فعلى الرغم من أن التغيير الذي تشهده المجتمعات زمناً بعد زمن وعصراً بعد عصر تبقى هناك ثوابت لا تتغير ولا تتبدل، هذه الثوابت موجودة بين البشر وموجودة في الأدب والشعر موجودة في الموسيقى والغناء وموجودة في كل شيء تقريباً.. فمن هذه الثوابت أن الرجل لا يتزوج أو يحب رجلاً وإنما يتزوج ويحب امرأة إلا في البلدان التي تتصدر الحضارة حيث أصدرت بعض دولها قوانين تتيح زواج الأنثى بالأنثى والذكر بالذكر.. ومن هذه الثوابت أيضاً أن المرأة الجميلة سواء وجدت منذ ألف عام أو وجدت في أوائل القرن الواحد والعشرين، والشعر الأصيل يبقى شعراً أصيلاً سواء قيل في العصر الجاهلي أم في مقهاية مدهش أو مقهاية البوري أو مقاهي الرصيف المنتشرة هذه الأيام، واللوحة الرائعة تبقى كذلك سواء وضعها الواسطي الذين زيَّن برسوماته مقامات الحريري أو وضعها بابلو بيكاسو أو وضعها علي الذرحاني، والطرب الأصيل يظل كذلك طرباً أصيلاً على مدى الأزمان والعصور سواء غنَّاه إسحاق الموصلي وزرياب أم غنَّاه محمد عبدالوهاب أم محمد حمود الحارثي.. وإلا فلماذا لا يزال الشاعر الاغريقي هوميروس وهو الذي عاش منذ ثلاثة آلاف عام شاعراً «معاصراً» ولماذا لا زلنا معجبين بملاحمه الشعرية وخاصة الالياذة والأوديسة إيما اعجاب؟ ثم لماذا لا زلنا نعشق المتنبي في كبريائه والمعري في حكمته وأمرؤ القيس في عشقه وابا نواس في خمرياته ومجونه؟ الجواب غاية في البساطة وهو أن هؤلاء التزموا الثوابت ولم يلبطوها ويتنكروا لها.
فالويل لأمة تخرج عن الثوابت في فنها وأدبها وشعرها وفي قيمها وتقاليدها، فهي لا ريب ستفقد اعز ما تملك وهو هويتها الثقافية والحضارية وبمعنى آخر ستفقد هيبتها، فبعد أن ألمت بها الهزائم السياسية والعسكرية فالهزائم لا تزال تحدق بها في فلسطين والعراق إلى سوريا ولبنان وليبيا واليمن وهلم جرا.. فالعرب ذاهبون نحو فقدان هيبتهم وهذا ما يهمنا في الموضوع كله.. ونخشى أن يتعرضوا لهزيمة ثقافية تفقدهم هويتهم وشخصيتهم بل وتفقدهم ما تبقى لهم حتى الآن من أشياء يعتزون بها، فأدبنا لم يعد أدباً وشعرنا لم يعد شعراً وفننا لم يعد فناً حتى جمال النساء لم يعد جمالاً، والسبب في كل ذلك أن الثوابت التي تحدثنا عنها قد طعنت في قلبها ولم يعد أمامنا إلا أن نصلي عليها صلاة الغائب، فشعراء اليوم أو اكثرهم كي لا نظلم الجميع ينتمون إلى كوكب آخر غير كوكب الأرض وهم يستخدمون «الدبش» بدل الكلمات.. فأين الصورة الخلابة التي تدق على أوتار القلب وأين الموسيقى التي تتسرب من بين الأبيات كالنسمات وأين تلك الدلالات والعبارات..؟
ثم أين هي المقالة الأدبية التي تنم عن موهبة وثقافة؟ وأين القصة أو الرواية التي تحفر في أعماق النفس وتكشف أسرارها وخفاياها؟، ثم أين البرامج التلفزيونية التي تنطوي على رسالة ثقافية واجتماعية حيث أصبح التلفزيون أداة لتعميم التفاهة والسقوط؟ وأين الطرب الأصيل والفن الأصيل؟ انظروا إلى القنوات التي تقتحم بيوتنا دون استئذان فتنتهك الحرمات وتنشر السفاهات ومتى كان الطرب نهيقاً والغناء زفيراً وشهيقاً..؟
الحقيقة أن الوضع أصبح مؤسفاً ومقززاً حتى الجمال نفسه بات مصطنعاً ومفبركاً لدراجة أنك إذا أحببت امرأة وأردت أن تأخذها بالأحضان تخشى أن تكون كتلة من «السيليكون» أو من المواد الكيماوية الضارة..
ورحم الله عزيزنا المتنبي القائل «حسن الحضارة مجلوب بتطرية وحسن البداوة حسن غير مجلوب».
لا أحد يرفض التطور والتقدم ومواكبة العصر، غير أن ذلك كله يصبح ضرباً من التخلف ما لم يواكبه تمسك بالثوابت الأصيلة التي تكمن في هويتنا سواء في الأدب والشعر أو في الموسيقى والغناء أو في التلفزيون والمسرح وحتى في تقاليدنا وعاداتنا وفي تعاملاتنا اليومية مع بعضنا البعض، فهذه الثوابت هي ضمير المجتمع.. فهل نصبح مجتمعاً بلا ضمير..؟

قد يعجبك ايضا