أعذب الشعر أصدقه
عبد العزيز البغدادي
أعيَبُ ما في المقولة الشهيرة لدى نقاد الشعر العربي (أعذب الشعر أكذبه) كونها تبدو مشجعة على الكذب بدافع الإدهاش والبحث عن العذوبة في ثناياه وبغرض التنميق والتلفيق، ومعلوم أن الكذب أداة النفاق وبيضة الأخلاق الفاسدة كما أن في المقولة دعوة صريحة إلى الباطل عن طريق قول غير الحق .
فإذا قيل : إن المقصود بأكذبِ الشعر هو المبالغة في المجاز فإن من يعي هذا المعنى إنما هم قلّةْ لأن صرف المعاني من الواضح إلى الغامض أو من الحقيقة إلى المجاز إنما يحضر عند خاصة الخاصة ويغيبُ عن أذهان العامة وذلك والتمادي فيه يولِّدْ التنائي بين العامة والخاصة وهذه حالة تتطور إلى ظهور حالة الاغتراب والفصام التام ، ومن ثم تزيد حالات التنافر ويغيب التماسك الذي تحتاجه المجتمعات كشرط من شروط المتعة للفرد والنهضة للمجتمع والقدرة على المنافسة الشريفة في هذا العالم الذي يعج بالحركة والإبداع والتسابق على امتلاك القوة لتحافظ المجتمعات على بقائها وتكون قادرة على صد محاولات المساس بهذا البقاء والسيادة والعيش بكرامة وبالمقابل نشهد تفنناً في ارتكاب فنون الإرهاب والجريمة المنظمة.
والخلط بين الكذب والمبالغة يبدو جلياً حين يصل إلى الحد غير المقبول ويكون غير مستساغ عند من يرفض الكذب كمبدأ ولا يرى فيه أي عذوبة؛
حين قال المتنبي الذي هو لدى مساحة واسعة من الشعراء والأدباء قامة تعلو كل قامات الشعراء: (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ)
كأنه لم يقل شيئا لشدة المبالغة والفخر لأن مثل هذا الشعر اعتمد على التصريح المطلق بالكذب كشرط للوصول إلى أعذبه؛
بل قد تكون المبالغة في الصدق أكثر عذوبة مثل قول المعري:
(وأعجب مني كيف أخطئ دائماً *على أنني من أعرف الناس بالناسِ) إنها غاية التواضع على عكس ما قال المتنبي؛
وقول المعري أيضاً:
الدهرُ يخطب أهل اللب مُذ عقلوا *ما خاف عياً ولا أزرى به الحصرُ
والغي في كل شيء ليس يعدَمُهُ * باغيه حتى من الأعناب تُعتصرُ
أما المرادُ فَجَمٌ لا يُحِيطُ بهِ * شرحٌ ولكن عُمْر المرءِ مختصرُ
وقول زهير: (ومَهما يكن عند امرءٍ من خليقةٍ * وإن خالها تَخفى على الناسِ تُعلَمِ
أما فقيد اليمن عبد الله البردوني فمن العذوبة قوله:
(هذه كلها بلادي وفيها * كل شيءٍ إلا أنا وبلادي) ؛
وقول طَرَفَةْ ابن العبد:
(لَعُمرك إنّ الموتَ ما أخطأ الفتى * لكا لطِّولِ المُرخَى وثنياهُ باليدِ)
إنها فلسفة الصدق صُبّت في قالب شعري؛
إذاً الموازنة بين الحقيقة والمجاز في اللغة عمل لا يجيده إلا أديب أو شاعر مبدع أو مجتمع شاعري متمرس صافي الذهن نقي الروح له خصائص المجتمع الخلاّق، ومعلوم أن الإبداع صفة يتصف بها الفرد لا المجتمع، إلا أن المجتمعات قد يشترك أفرادها في خصائص ومزايا تجعلهم أقرب إلى الكيان الواحد وكلما متُن وعيهم وزادت روابطهم وتعمقت صلاتهم صاروا أقرب إلى الشخص الاعتباري الواحد، وبهذا التوحد الواعي تصبح المجتمعات أكثر قوة وأكثر قابلية على الخلق والإبداع وغير قابلة للاختراق والتشتيت ومن ثم الاستلاب من أي متدخل في شئونها .
ومن البديهيات أن اللغة أداة تعبير الأفراد والمجتمعات عن حاجاتها ورغباتها وواقعها، ولعل مقولة 🙁 أعذب الشعر أكذبه!) أطلقت حين كان المجتمع العربي وإلى حد كبير مختلف المجتمعات الإنسانية في ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية محدودة الخيال منغلقة على نفسها ليس لعوامل السياسة والأمن وإنما لطبيعة الظروف البدائية وهذا موضوع تأريخي قد تتفاوت المجتمعات في تفاصيله، ولكنه يجب أن يبقى في متناول المؤرخين الباحثين ، أما مجتمعات اليوم فقد قَهَرَت فيه مبتكرات ثورة المعلومات والاتصال عوامل العزلة والانحسار ليصبح الواقع إلى حد بعيد أغرب مما كانت تتخيله المجتمعات القديمة التي استعذبت الكذب لأنه فتح أمامها آفاق التخيُّل وغدت الدعوة إلى الواقعية هي الطريق لالتقاط صور مبدعة أغرب مما كان يتخيله أشعر الشعراء .
أي أننا أصبحنا في غنى عن البحث عن عذوبة الشعر من خلال الجري وراء أحابيل الكذب وصار أعذب الشعرِ هو أصدقُهْ!
لعمرك ما كان للفتى مكانٌ
على الأرض دون التخيُّلِ
وللصدق أنفاسٌ وفيه حلاوةٌ
تداعبها الأرواح في السرِّ والعلنْ