تحيلنا قصته إلى قضيتي الهوية اليمنية والمواقف الدولية تجاه التحول السبتمبري.. الحاج شريف شعفل لـ”الثورة”:حاربت ضد الملكيين وحملت أول جواز جمهوري بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م

 

أتذكر أخبار قصف الإنجليز لمناطق من الضالع ودمت وجبل العود في أربعينيات القرن الماضي
هاجرت إلى أمريكا وشاركت في الحرب الفيتنامية عام 1964م وعملت في مصنع للسيارات 36 عاماً
كان اليمنيون قبل الثورة يهاجرون إلى أمريكا
بجوازات أوروبية أو جنوبية بتوقيع الاحتلال البريطاني
اعتراف كنيدي بـ 26 سبتمبر كان ظاهره إرضاء عبدالناصر وباطنه القفز إلى مستقبل النفط اليمني المؤمل
ناصب آل سعود الجمهورية والوحدة العداء ويقودون اليوم حرباً كونية ضد ثورة التحرر من التبعية

بين ثنايا قصته الأكثر ارتباطاً بهوية النظام الجمهوري ومواقف الدول الكبرى تجاه ثورته الظافرة، تكمن تفاصيل حياة مضمخة بالسفر والمفارقات والمغامرات، فمن المشاركة الفاعلة في معسكرات التدريب بتعز استعدادا للحرب ضد الملكيين، منذ أول أسبوع لميلاد النظام الجمهوري صبيحة 26 سبتمبر 1962م- استعداداً لمعارك الدفاع عن الجمهورية الوليدة من هجمات الملكيين تحت ضغط النفوذ والمال السعودي، إلى نورس مهاجر يحمل الجواز الجمهوري رقم (1) مجتازاً به مطارات العالم وصولا إلى أمريكا، ليبدأ المهاجر الشاب شريف شعفل– المولود بمدينة جبن- محافظة الضالع، في عام1940م– تفاصيل قصة مغامرة أخرى محمولة على ثورة الحماس والشغف بحياة الجندية، ليشارك في معارك الجيش الأمريكي ضد الفيتناميين..
فمن هو شريف شعفل ..؟ وما هي قصة الجواز الجمهوري رقم (1)..؟ وماذا يعني للهوية اليمنية والمهاجرين اليمنيين نحو الغرب..؟ ولماذا تعز هي الجهة التي شهدت صدور أول جواز سفر باسم الجمهورية العربية اليمنية..؟ وماذا تعني هذه المصادفة للعلاقات بين البلدين الأمريكي واليمني ؟ وكيف انتزع جمال عبدالناصر اعتراف الرئيس الأمريكي جون كنيدي بمشروعية التحول اليمني الحر من النظام الملكي إلى الجمهوري، لتكون أمريكا بهذا الاعتراف خارج موقف حليفتها السعودية التي ناصبت الثورة السبتمبرية والتحولات التحررية والوحدوية العداء المطلق..
في هذه المادة سنجيب عن هذه الاسئلة.. لكن قبل ذلك، تقتضي الضرورة الموضوعية تقديم قصة صاحب الجواز الجمهوري رقم 1.. إلى التفاصيل:
الثورة/
محمد محمد إبراهيم

في أربعينيات القرن الماضي كانت اليمن تعرف بالمملكة المتوكلية اليمنية نسبة للمتوكل على الله الإمام يحيى بن حميد الدين- الذي اقام دولته على أعقاب رحيل الأتراك جبرا، واعلان استقلال شمال اليمن في عام 1918م- وفي هذه الحقبة عاش الحاج شريف شعفل طفولته في زمن كانت أخبار الحروب التي شنتها قوات الإنجليز المحتلة لجنوب الوطن على مناطق متعددة من الشمال، وعلى السلطنات التي كانت تتمرد حينا وتدخل تحت الحماية البريطانية حينا آخر، إذ يتذكر شريف إنه كان يسمع في طفولته عن قصف الطائرات الإنجليزية لمناطق في الضالع وشبوة ودمت وجبال العود.. أما التعليم حسب شريف فكان يعتمد في المقام الأول على اهتمام اولياء الأمور وليس على الدولة بمفهومها اليوم، وكانت المدرسة عبارة عن غرفة أو مكان كظل شجرة يجتمع فيه الصغار ويعلمهم -مَن كان يعرف بالفقيه- أبجديات القراءة والكتابة وكانت تسمى هذه الأماكن المخصصة للتعليم بـ “الكتاتيب”.. فيما كان والده واسرته كغيرهم من أسر مديرية جبن يعملون في الزراعة، بل كانوا أهم ملاك الحقول الزراعية الخصبة، كما يتذكر شريف اخبار مقتل الإمام يحيى في عام 1948م، وما تلا ذلك من أحداث في خمسينيات القرن الماضي التي أهمها حركة 55 ومحاولات اغتيال الإمام أحمد في أواخر الخمسينيات، حتى مطلع الستينيات، ولم ينس أجواء الفرح الشعبي والتفاعل الثوري لقيام ثورة الـ 26 من سبتمبر 1962م ، وفي هذا السياق يقول: حين قامت الثورة كان عمري 22 عاماً وقد سمعت كغيري خبر الثورة من الناس ثم من الراديو، حيث سمعنا بالثورة من اذاعة صنعاء واذاعة صوت العرب التي أذاعت بيان الثورة في اليوم الثاني، وكانت البهجة والامل يكسوان وجوه الناس..
ويضيف شريف: بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر انطلقنا كشباب متحمسين لنلبي دعوة قيادة الثورة في صنعاء للتجنيد، والدفاع عن النظام الجمهوري الوليد، فذهبت أنا وبعض ابناء مديرية جبن الى المعسكرات التي تستضيف الشباب المتطوع إلى جانب الجيش النظامي للمشاركة في معارك الحرب ضد الملكيين، بدعوة من الشخصيات الاجتماعية والقبلية في مديرية جبن واتذكر منهم الشيخ علي مسعد موسى والشيخ احمد المعطي، والشيخ محمد حسين علي والشيخ علي موسى حسين، وغيرهم من المشائخ الذين كانوا يعملون بتوجيهات شيخ مشايخ مديرية جبن المناضل الشيخ علي مجلي، وكان قائد فيالق الشباب المجندين من مديرية جبن هو الشيخ عبدالزراق مجلي رحمهم الله جميعاً..
ويواصل شعفل: بدأت الحرب ضد الملكيين من أول اسبوع بعد الثورة، لكني لم استمر معهم سوى أشهر، وما يجب الإشارة اليه هو أن القائد العسكري الشاب عبدالرزاق مجلي ومجموعته خاضوا معارك تاريخية ابتداء من مدينة رداع ثم مدينة ذمار الى فك حصار السبعين يوما على العاصمة صنعاء وبالتحديد في جنوب صنعاء، نقيل يسلح، والحمد لله تحقق النصر للثورة وارتفع علم الجمهورية العربية اليمنية خفاقا في كل مناطق اليمن التي كانت بعضها تحت سيطرة الملكيين وكانت الحرب قد استمرت ثمان سنوات..
الهجرة إلى أمريكا
قبل قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر كان الشاب شريف شعفل وتحديداً في أواخر الخمسينيات، ومطلع الستينيات، قد قرر الهجرة غرباً، للحاق بأخيه علي شعفل الذي هاجر في النصف الثاني من الخمسينيات، وقدم طلباً للحصول على فيزا دخول لأخيه شريف، لكن الثورة السبتمبرية كانت بالنسبة للأخير جديرة بأن يندفع ضمن الجيش الوطني أو الشعبي للدفاع عنها ، وكان حلمه أن يغدو جنديا داخل الوطن، لكن حلمه تقاطع مع رغبته الجامحة في الهجرة، حيث يقول في هذا السياق: كنت أتطلع للبقاء في اليمن، وأن أغدو جنداً في صف الجمهورية، وبحماس كبير التحقت بالتجنيد ومعسكرات التدريب في تعز ضمن الجيش الوطني للدفاع عن النظام الجمهوري، لكن ذلك لم يتم، فقد كان أخي قدّم لي طلب الهجرة قبل الثورة، وفي الوقت الذي كنت قد قضيت في التدريب نحو ثلاثة أشهر، أبلغني أخي علي الذي هاجر ووصل إلى ولاية أوهايو الأمريكية، ليعمل في مصانع الحديد بأن طلب هجرتي -الذي قدمه إلى الجهات المعنية بأمريكا قبيل الثورة- قد تم قبوله، وما علي سوى التوجه إلى القنصل الامريكي في تعز، للدخول إلى امريكا للعمل، وهو ما نفذته فور وصول الخبر إلي، واستلمت فيزا العمل وقطعت أول جواز صادر باسم الجمهورية العربية اليمنية، من محافظة تعز في 3 يناير 1963م.
شعفل.. والحرب الفيتنامِيّة
ظل الحماس الثوري الذي عاشه شريف خلال الثلاثة الأشهر من التدريب العسكري ضمن الجيش الشعبي المناصر للنظام الجمهوري والمشارك في العمليات العسكرية ضد الملكيين، على أوجّه منعكسا في فكره ورؤيته تجاه الجندية، واستعداده النفسي لخوضها، وما أن سمع بإعلان وزارة الدفاع الأمريكية في العام 1964م عن التجنيد ضمن الجيش الأمريكي ومعاركه ضد فيتنام حتى بادر إلى الانضمام مع أعداد كبيرة من العرب واليمنيين المهاجرين في ولايات أمريكا، وفي هذا السياق يستعيد شريف شعفل قصة اندفاعه للتجنيد قائلاً: بعد وصولي نيويورك ثم سافرت ولاية اوهايو لأعمل واعيش مع اخي علي حيث والولاية كانت مشهورة بصناعة الحديد ثم سافرت الى ولاية كاليفورنيا عند أخي الحاج أحمد شعفل وعملت معه في الحقل الزراعي، لم يرق العمل، فما أن سمعت بالإعلان من وسائل الاعلام الأمريكية ومن العامة، عن طلب للشباب الأمريكي – وهم مزيج واسع ومتعدد من المهاجرين الذين باتت لديهم فرص عمل وفرص تؤهلهم للحصول على الجنسية الأمريكية- للانضمام للجيش المشارك في المعارك الشرسة ضد الفيتناميين، فانضممت مع مجموعة من اليمنيين والعرب.
وأستدرك شريف: لكن انتهاء جولة الحرب في تلك الفترة بهزيمة أمريكا هو ما دفع وزارة الدفاع الأمريكية إلى تسريح المجندين على أن يكونوا ضمن الاحتياطي أو من لهم الأولوية في أي تجنيد قادم، لكني قررت عدم الانتظار، بل عدت إلى ولاية ميتشجن لأعمل في مصنع فورد لفترة 36 عاماً ضمن القوة العاملة العربية واليمنية التي توزعت في ميتشجن على ثلاثة مصانع عملاقة لصناعة السيارات هي: مصنع فورد، ومصنع جنرال موتر، ومصنع كرايسلر. واليوم الحمدلله أنا متقاعد.
إحالة تاريخية.. تعز مركز سياسي
ان قصة الجواز الجمهوري رقم واحد الصادر من مدينة تعز بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م بنحو ثلاثة أشهر واسبوع، قضية جوهرية في صلب تاريخ التحول التحرري اليمني بل وجديرة بأن تحيلنا في هذا المقام إلى أهم الأسئلة التاريخية تجاه تعز.. فعلى صعيد حيثيات صدور أول جواز جمهوري من تعز تجدر الإشارة إلى أن تعز كانت مركزاً سياسياً وحاكمياً وجماهيرياً لعوامل عدة، منها ما يتصل بالكثافة السكانية التي تتميز بها المحافظة وكان لها دور في حضور تعز تجاريا وثقافياً، أما سياسياً فقبل الثورة اليمنية كانت تعز عاصمة سياسية ومركز حكم لولي العهد الأمير أحمد ابن يحيى حميد منذ تعيينه في عام 1934م، كما كانت له مركزا حاكميا أثناء إمامته بعد مقتل والده في صنعاء في 17 فبراير 1948م، في ما يعرف بالثورة الدستورية التي بنت خطتها على مسارين الأول اغتيال الامام يحيى في صنعاء والثاني اغتيال ولي عهده في تعز، وفيما نجح المسار الأول، فشل الثاني لتفشل معه الثورة برمتها ليستعيد الإمام أحمد عرش والده في صنعاء، لكنه ما لبث أن عاد إلى تعز ليحكم قصر صالة محولاً تعز إلى عاصمة اليمن السياسية الأولى، وبدا منفتحا على العلاقات الخارجية خصوصا مع مصر، فبعد انتصار ثورة 23 يوليو 1952م سعى الإمام أحمد إلى بناء علاقات قوية مع رجالها بغية التظاهر بالرغبة في الاصلاح أمام الشعب اليمني، وحشد التأييد المصري لابنه البدر في قضية ولاية العهد من جهة أخرى، فوعده قادة الثورة المصرية بالتعاون العسكري، ليصل في مطلع 1953م إلى اليمن أول وفد عسكري مصري برئاسة المقدم كمال عبد الحميد تمحورت مهمته حول تدريب الجيش اليمني في تعز، وفي 23 مارس 1955م شهدت تعز أحداث حركة 55 التي بدأت بتوجه المقدم أحمد الثلايا – قائد حامية تعز- على رأس مجموعة من الضباط لتأديب فلاحي منطقة الحوبان عقب صدامات حدثت بينهم وجنود الحامية، مرورا بصدور أوامر الإمام أحمد بإيقاف المواجهات، وتوجيهه الصريح باعتقال الثلايا الذي أعلن تمرده وأمر رجاله بمحاصرة قصر صالة، والاستيلاء على محطة الإذاعة والتلغراف ومركز الاتصالات اللاسلكية، وإعلان الأمير عبد الله – شقيق الإمام أحمد- المتطلع إلى السلطة تأييد الانقلاب، وتحديد موعد للذهاب إلى الإمام أحمد للتفاوض معه في يوم 28 مارس 1955م، غير أن الحركة فشلت بعد أن أنقذ البدر والده في 5 أبريل 1955م بقدومه على رأس قوات قبلية من حاشد وبكيل، وانتهت بإرسال الأمير عبد الله والأمير العباس إلى حجة وإعدامهما فيها، وإعدام الثلايا وأنصاره من الضباط الثوار في تعز يوم 6 أبريل 1955م.
في سياق متصل بمركزية تعز في قلب تحولات اليمن الثورية وصدور الجواز الجمهوري رقم 1 منها وسفر صاحبه شريف شعفل الى الولايات المتحدة الأمريكية، يذكر أن تعز كانت مركزاً دبلوماسياً لكثير من البعثات والقنصليات ومنها البعثة الأمريكية ففي 16 سبتمبر 1959م جرت فعالية افتتاح أول مفوضية للولايات المتحدة الامريكية، في مدينة تعز، وعُيّن روبرت استوكي قائماً بالأعمال، وكانت هذه الخطوة الدبلوماسية بداية اتفاقيات سياسية يمنية أمريكية، حيث أعقب ذلك في 1960م التوقيع على اتفاقية استثمارية بين اليمن وشركة “جون ميكون كومبان” الأمريكية للتنقيب عن النفط بمنطقة تهامة، لتتسلم الشركة في عام 1961م امتياز التنقيب عن البترول في سهل تهامة والمنطقة المتاخمة له، أما في الثورتين- السبتمبرية والاكتوبرية -فقد شكلت تعز منطقة المدد ومركز الثورة الشعبي والجماهيري حيث كان فيها مركز تدريب الشباب من الشمال والجنوب لمقاومة الاحتلال البريطاني وللدفاع عن النظام الجمهوري.
مفارقات القرن
وبالعودة الى قصة الجواز الجمهوري رقم واحد، إذ حصل الشاب شريف شعفل على أول جواز يحمل اسم الجمهورية العربية اليمنية وذلك عقب التحول السياسي من نظام ملكي الى جمهوري، ليكون هذا الجواز أول وثيقة جمهورية يمنية عربية عابرة للقارات، حيث عبر به شعفل مطارات عدن – القاهرة- نيويورك- ينكستان أوهايو، لكن لم يذكر أنه تعرض لعراقيل أو توقيف، رغم طرحنا السؤال عليه، حول إن كان أحد اعترضه في المطارات، كون هذا الجواز يمثل نظام جديداً لا يزال العالم على توجس منه ولم يصدر بعد اعتراف دولي كبير عدا مواقف كانت تنطوي على المجاملات لنظام مصر القومي الناصري، كونه الداعم الدولي الأهم لثورة 26 سبتمبر 1962م.
ولعل من مفارقات قيم الحروب التي شهدتها اليمن في العصر الحديث هو أن الجواز الجمهوري رقم واحد قد عبر مطارات العالم دون أن يعترضه أحد، قد يرى قائل في المجال الحقوقي أنه جواز مواطن عادي يصدر وصاحبه من عامة الشعب، وليس جوازاً دبلوماسياً يصدر من مظلة نظام سياسي جديد ظهر فجأة في ظل رفض المحيط الاقليمي والدولي له، فهذا منطق كانت تقتضيه قيم الحروب في الزمن الماضي حتى ستينيات القرن العشرين، لكن ما يجري اليوم من عدوان وحصار شامل على اليمن من قبل تحالف كوني سافر، ليس سوى من مفارقات زمن قيم الحروب وخوارق العادات، ففي التحول السبتمبري من النظام الملكي إلى الجمهوري، دعم نظام آل سعود حرب أهلية استمرت 8 سنوات، وفي التحول الوحدوي دعم حرب الانفصال، وفي التحول التحرري من التبعية والارتهان القرار السياسي الذي نادت به ثورة 21 سبتمبر أعلن نظام آل سعود حرباً كونية أشد ضراوة وهو على رأس تحالف مكون من 17 دولة، كما أعلن حصاراً شاملاً، قضى بحرمان 8000 مسن يمني من تحقيق أحلام آخر أعمارهم وهو أداء فريضة الحج كون جوازاتهم صادرة من صنعاء، كما منع حوالى 400 ألف مريض من السفر للعلاج في الخارج، توفى منهم حتى اليوم نحو 24 ألف مريض كان يمكن تفادي وفاتهم بالوصول الى العلاج في الخارج.. وهي مفارقات تستدعي التوقف عندها لتتبع الخطوط الفاصلة بين قيم الحروب في الماضي والحاضر، لتبين قذارة السبل التي تسلكها قوى النفط والاستكبار من أجل مصالحها.
الإحالة التاريخية الأهم في مقام الحديث عن صدور الجواز الجمهوري رقم واحد تقودنا إلى قضية الهجرة اليمنية إلى أمريكا قبل وبعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى المراجع التاريخية للهجرة اليمنية إلى أمريكا، إذ تشير إلى أن أغلب اليمنيين هاجروا إلى أمريكا فرادى وبجوازات غير يمنية، فكان معظمهم يدخلون أمريكا بجوازات أوروبية إما هولندية بحكم العلاقات التجارية القديمة أو بريطانية أو فرنسية، ورغم وجود جوازات ملكية قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر إلا إننا لم نجد معلومة تشير إلى إن أحداً سافر بجواز ملكي، فمعظم الذين سافروا في الأربعينيات والخمسينيات – حسب علمنا المتواضع- سافروا بجوازات يمنية جنوبية بريطانية بحكم سيطرة الإنجليز على عدن.
المواقف الأمريكية من الثورة اليمنية
وعلى صعيد المواقف الأمريكية تجاه ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وفي هذا المقام تجدر بنا الإشارة الى تأصيل الأسس التي بنت عليها الولايات المتحدة الأمريكية علاقاتها مع اليمن قبل وبعد الثورة، ومن المهم التأكيد على أنها في كل الأحوال كانت تنظر إلى اليمن من زاوية المصلحة عبر الحصول على فرص استثمارية وموارد وثروات، وذلك جزء من سياستها في المنطقة العربية عموما والخليج خصوصاً، وهو ما ألمح إليه الاستاذ محمود الجبارات في كتابه “العلاقات اليمنية الأمريكية 1904 – 1948م، تاريخ العلاقات اليمنية الأمريكية على المستويين السياسي والاقتصادي”.. ومن أهم المفارقات التي تضمنها الكتاب هي إن التواصل الرسمي والمحاولات الأمريكية للتقرب من الإمام يحيى كانت قد بدأت في عشرينيات القرن الماضي، حيث كانت أهم الزيارات التي جرت بين الجانبين زيارة رجل الاعمال والدبلوماسي الامريكي تشارلز كرين، يناير 1927م، الذي عرض على الامام يحيى تقديم معونات على نفقته الخاصة في مجال تخطيط الطرق والبحث عن المعادن وتطوير اليمن، وبعدها وقعت الولايات المتحدة الامريكية اتفاق الصداقة والتجارة والملاحة مع اليمن لأول مرة وذلك عقب لقاءات السفير الامريكي في السعودية (وليم إيدي) مع المسؤولين اليمنيين في صنعاء، وشكلت الاتفاقية الخطوة الاولى نحو اقامة علاقات دبلوماسية بين واشنطن وصنعاء، حيث قطع الامام يحيى وعداً بإعطاء حق امتياز التنقيب عن النفط واستخراجه من منطقة تهامة لشركة امريكية ورغم ذلك لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بالإمام كدولة إلا في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، ففي 4 مارس 1946م اعترف الرئيس الامريكي هاري ترومان بالإمام يحيى ملكاً على اليمن استناداً الى اقتراح وزير خارجيته(دين اشيسون)، لتزور صنعاء -بعد شهر من نفس العام- أول بعثة امريكية رسمية برئاسة الكولونيل (وليم اوين) وأجرت لقاء مع الامام يحيى وعقدت معه معاهدة صداقة وتجارة بين البلدين، وفي مايو من نفس العام اقام الامام يحيى علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة الامريكية.
وخلص الجبارات إلى أن الحذر ساد العلاقات بين الجانبين، وذلك بناء على معلومات قدمها البريطانيون للأمريكيين، بأنهم خلصوا إلى رؤى استراتيجية يجب أخذها في الاعتبار في مسار العلاقات السياسية مع اليمن، تفيد بأن طبيعة السياسة اليمنية لا يمكن توقعها في المستقبل”، فشهدت تبعا لذلك- فترة الخمسينيات وحتى مطلع الستينيات وقبيل الثورة السبتمبرية بعام واحد- تطورا ملحوظاً ألقى بظلاله على الموقف الأمريكي الذي بدا وكأنه عملية قفز إلى المستقبل حفاظا على المصالح الوليدة المتمثلة في اتفاقيات التنقيب عن النفط التي تم ابرامها قبل عام من الثورة، لكن الحذر في اعتراف أمريكا بثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م تجسد في السير عبر مسارين: الأول الحرص الأمريكي الضمني الكبير على مصالح أمريكا الاستراتيجية مع السعودية وغيرها من دول الخليج النفطية، والمسار الثاني الحرص الظاهري على السَّلم الإقليمي والدولي في المنطقة، وقد خرج هذا الموقف من القراءة الأمريكية الدقيقة للموقف المصري الداعم للثورة اليمنية والتحول من الملكية إلى الإمامة، في الوقت التي كان فيه الحضور القومي لجمال عبد الناصر مؤثرا في منطقة الشرق الأوسط، وعاملا حاسما في تجذابات المشهد الدولي، وقد تجلى ذلك في خطاب الرئيس الامريكي جون كنيدي الذي وجهه الى الرئيس جمال عبدالناصر في 17 نوفمبر 1962م، حيث أعرب فيه عن قلقه من أن يؤدي الصراع في اليمن إلى تعريض استقرار المنطقة للخطر، مناشداً زعماء الدول المعنية بالصراع بأن يفكروا في المخاطر الكبرى التي يمكن أن تتحقق اذا ما سمحوا للتطورات بأن تمضي دون مراجعة، واقترح خطوات مبدئية لحل الازمة في اليمن، والتي في حال تنفيذها من قبل الاطراف المعنية تبادر الولايات المتحدة بإعلان اعترافها بالجمهورية العربية اليمنية، لترحب الجمهورية العربية اليمنية الوليدة في 9 ديسمبر1962م بمقترحات الرئيس الامريكي جون كنيدي الداعية الى وقف التدخلات الاجنبية في شؤونها، وفي 19 ديسمبر 1962م اعترفت الولايات المتحدة الامريكية بالجمهورية العربية اليمنية، وعين الرئيس كنيدي السفير الزوث با نكر ممثلاً خاصاً له لتنفيذ مشروعه الخاص بحل الازمة في اليمن.

قد يعجبك ايضا