محمد دريب الشريف
احتضنت أرضُ كربلاء معركة أقل ما يُمكن توصيفها به إنها حرب النور والظلام ، النور الذي جاء به جبرائيل واختزله التنزيل ونشره المصطفى محمد بين الأُمم والشعوب ، والظلام الذي انطوت عليه قلوبُ وأفئدةُ الجبابرة والعتاة على تعاقب العصور والدهور ليحول بين الإنسانية ومناهل المعرفة الربانية ومراتع الخير والرفاه والأمن والأمان الذي أراده المعبودُ لعبيده عن طريق أنبيائه ورسله والأوصياء والمصلحين.
الظلام الذي لم ير في الانبياء وحملة الوحي إلا سحراً وأباطيل وشيئاً من أساطير الأولين ، لتستحق به التنكيل والتعزير والصلب على جذوع النخل وقتل القرابة وتعذيب المريدين.
هكذا إذا أردنا أنّ نُوصّف الحربَ التي دارت رحاها بين فئتين اختارت إحداهُما مع قلة العدد وخذلان الناصر أنّ تتلقى سهام الموت وحد الحسوم بصدورٍ ملؤها الإيمان واليقين وقد أرهقها الجوعُ وقيّح شفاهها العطشُ، انتصارا لقيمٍ كادت لتنداس تحت أقدام أحفاد المعاهر وأكلة الأكباد ، والثورة من أجل رسوم الإسلام ومساراته التي رُسِمت بالوحي وحُددت بالتنزيل لتَشُّع نوراً خالداً يُضئ للإنسانيةِ دروبَ الهدايةِ ومسالك الرشاد ، وهي على ماهي عليه من النسبِ الرفيع والشجاعة والإقدام والمكانة الرفيعة بين عشائرهم وقبائلهم والتُقى والورع والزهد والعبادة وصدق القول وخلوص النية ورفقة النبي وصحبته والقتال بين يديه.
وأخرى آثرت الدنيا وزِبرِجُّها وحال الشيطان بينها ونور الهداية واقتفت أثر الفراعنة وجبابرة العصور في قتال الأنبياء والصديقين وقتل ذراريهم واستباح حرماتهم وهم على ماهم عليه من الوحشية ولؤم الطباع والضلال والكفر والجحود والنسب الوضيع المغموز والمكانة الدنيئة الساقطة بين العشائر والقبل.
النور الذي شّعَ من جبين الحسين سيد الشهداء في صحراء نينوى ومن دمه المسكوب على بطحائها ظلماً وعدواناً – ولأنه حفيد المصطفى ووارث علمه ومكانته – لتصطلي منه الأُممُ معاني الفداء والتضحية والاستبسال والنضال والإقدام والعزم على مقارعة الظالمين في كل عصر وزمان.
النّور الذي بفضله أُزيلت حُجْب التمويه عن أعين أجيال المسلمين منذ ذلك اليوم وإلى اليوم وامتدّ خالداً مضيئاً لعشاق السماء مسالك اشلعروج إلى مقام الشهادة ومجاورة النبيين والصديقين ونفذَ إلى بصائر الوالهين وأرباب اليقين ليزيدهم يقيناً وطمأنينة وغشيَ قلوبَ المؤمنين سكينةً وثباتاً في كل معتركٍ جمع حقاً وباطلاً ، وظالماً ومظلوماً ، ودعوةً للاستقامة والصلاح ودعوةً الى الضلال والفساد ، وداع يدعو إلى الدنيا وداع يدعو الى الآخرة.
النّور الذي شّعَ من دماء طفل رضيع ، وشيخ مكدود ، وصحابي جليل لمْ ير في كربلاء إلّا ما رأى في بدرٍ وأحد من عسكرين أحدهما يُمثّل نور الوجود والخلود وآخر يُمثّل ظلام العدم وسوء المنقلب وقتامة المصير والمنتهى ، فأخذ جاهداً بسيفه يُقارع شياطين الظلام ويشُقّ طريقه بدمه وجراحه إلى حياة الأبد وحسن مئاب وهو ينادي بأعلى صوته ” ألا هل وفيت يا ابن رسول الله ”
بواعثُ النّور
لمْ يكن للحسين عليه الصلوات والتحيات قائد ثورة النّور من الخيارات إلّا الخروج ثائراً ومصلحاً ليُسقط دولةَ الظلام والنفاق التي قامت باسم الإسلام ، خصوصاً بعد أن وصل الحال بالمسلمين إلى أن يقوم على أمرهم ويتملك زمامهم رجلٌ مثل يزيد ابن معاوية ، وهو على ما هو عليه من الفجور والسفور وشرب الخمور ومنادمة الشواذ وملاعبة القرود والفهود ، وهذا ما سجله عنه في صفحات التاريخ الكُتّاب الأُمويّون قبل غيرهم ، ومن غريب ما جاء في كتب التاريخ ويذكر أنّه كان له قرد يدعوه أبا قيس ، يُلبسه الحرير ، ويُطّرز لباسه بالذّهب والفضة ، ويُحضره مجالس الشراب ، ويركبه أتانا في السباق ويحرص على أن يراه سابقاً متقدماً على الجياد ومما قاله عنه في شعره:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها
فليس عليها إن سقطت ضمان
ألا من رأى القرد الذي سبقت به
جياد أمير المؤمنين أتان
وكان يُعاتب بل يُعاقب من يتقدم قرده في السباق.
وهذا عبدالله ابن حنظله الغسيل ( رض ) واصفاً حاله موضحاً الصورة والواقعية التي كان عليها بالقول ” والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إن رجلاً ينكح الأُمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاءً حسنا ”
وقد مات بذات الجنب وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين وهو مرض كبدي ينتج عن إدمان الشراب والإفراط في اللذات ولم يختص بمزية محمودة حتى في تلك الصفات والخصال التي تأتي بها المصادفةٌ ولا فضل فيها لاصحابها وإنما عُرف وأُشتهر كما عند بالتهتك والتخلع والالحاد حيث يجزم البعض أن يزيد كان ملحداً ولمْ يكن مسلماً وهذا ما يعضده أقوال يزيد وافعاله منها ما تمثل به عند حضور الرأس المقدس بين يديه ينكث ثنايه بالعصا متشفياً منتشياً مفتخراً:
لعبت هاشمٌ بالملكِ فلا
خبرٌ جاء ولا وحي نزل
إن يكن أحمد قدما مرسلا ً
فلِم القتلُ عليـه قـد أحـل
ونجد القلم يأنف من ذكر اسم هذا المنحرف الذي نشأ جامحاً نحو كل رذيلة ميالاً إلى كل موبقة وفضيحة لمْ يترك كبيرة أو صغيرة من الآثام والجرائم إلا وجاء بها فكان خليعاً مستهتراً ملحداً حاقداً على الإسلام والنبي وأهل بيته.
وارتكب من الجرائم البشعة والمجازر الرهيبة والفظائع المهولة، ما لم ترتكبه طواغيت العصور, فلوّث التاريخ بصحائفه البشعة وجرائمه المنكرة، التي جعلته في الحضيض الأدنى من الغي والضلال والطغيان.
وبرغم مما كُتب في صحائف التاريخ من مآثم وجرائم وذكرها المتقدمون من مؤرخين ومؤلفين وأعلام حديث واجمعوا بكفره وزندقته وفسقه ووحشيته وما لا مجال لحصره من خصال السوء وردي الأفعال إلا أنّك تجد من تحدّر من تلك الشجرة الملعونة أو من اشرأب في قلبه نزعاتها وميولها للجريمة والانحراف والخروج عن سِنخ الإنسانية والجنس البشري وراقت له قسوتها ووحشيتها وجُبلت نفسه على شاكلتها فراح يبرئ ساحة هذا المجرم ويبرر وحشيته حتى شاع في البلدان وسارت الركبان بما تكاد من هوله أن تخر الجبال الرواسي وتتصدع البسيطة وتسقط السماء كسفاً وحجاره (أنّ الحسين قتل بسيف جده لأنه خرج على إمام زمانه يزيد بعد أن تمت البيعة له وكملت شروط الخلافة بإجماع أهل الحل والعقد ولم يظهر منه ما يشينه ويزري به)!!!!
وهذه الكلمات المسمومة الغادرة التي أطلقها ابن عربي لم تكن الأولى فقد دأب بنو امية على لعن الحسين وابيه من على كل منبر ، وكتابهم ومحدثوهم اعتادوا على النيل من ثورة الإمام الحسين والتقليل من شأنها ولمْ تكن الأخيرة، إذ نسج على منوال ضلالها عدد من علماء البلاط ووعاظ السلاطين، ، واقتفوا أثر ابن عربي في غيه وضلالته مثل عبدالمغيث بن زهير الحربي الذي ألف كتاباً في فضائل يزيد بن معاوية!!!!
وجرى في هذا الغي والإسفاف أيضاً محمد السباعي الحفناوي، في كتابه أبو سفيان شيخ الأمويين وانخرط في زمرة الضلالة والانحراف محمد الخضري، الذي أدان جميع الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية واعتبرها خروجاً على الدولة الإسلامية وعاتب الخارجين عتاب المبغض لهم المغرم بمن خرجوا عليه !!!
ولا ننسى الخطّ الوهابي الأموي الذي نشأ على أساس البغض للثورة الحسينية ونصب العداء للعترة المحمدية والدوحة النبوية.
هؤلاء من جملة علماء البلاط الذين سخّروا أقلامهم لتلميع الفسقة وحكام الجور والظلم والاستبداد وانبروا ليُبرّروا ليزيد قتل الحسين وأولاد الحسين وأصحابه متجاهلين الآيات والروايات الشريفة الكثيرة، في وجوب مقارعة الظلم والظالمين، ووجوب الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأن في أذانهم وقراً، وقلوبهم غُلفاً بل طبع الله عليها { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }، { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا }، [ أفضل الجهاد عند الله كلمة الحق في وجه سلطان جائر ] ،[ من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهده مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله]، والحق أنّه لمْ يُخلَق على وجه البسيطة ولن يُخلَق من هو أفسق وأجرم وأجرأ على الله ورسوله وأنكث لعهود الله وأعدى للإنسانية وأبغَضَ لسُنّة رسول الله وأهل بيته من يزيد ابن معاوية.
ومن يتقصى حقائق التّاريخ يجد هذه الشخصية المنحرفة الشاذة على حقيقتها الدموية القذرة نُقطة سوداء وبؤرة رجس ووصمة عار في تاريخ الإنسانية ونطفة خبيثة من شجرة ملعونة على لسان الوحي والنبي ،، وجدت فرصتها للتسلط على رقاب المسلمين على إثر كبوة وعثرة فرسان الإسلام في أول يوم غابت فيه شمس النبوة ،،
كبوة كانت السبب في ما تعانيه أمة القرآن والآذان إلى يوم الناس هذا ، ومهدت الطريق أمام يزيد لقتل الإمام الحسين وأطفاله وسبي نسائه ولكل حاكم ظالم وسلطان جائر ليحكم سيفه في رقاب عبادالله باسم الدين والشريعة وهذا ما دعا الإمام الحسين (ع) للخروج عليه ورفْع راية الرفض والإصلاح وتصحيح مسار الأمة وصرح بهذا الهدف السامي الذي قصده عند خروجه قائلاً: [ إني لم أخرج أشراً و لا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) أُريد أنّ آمر بالمعروف وأنه عن المنكر وأسير بسيرة جدي (ص) وأبي علي بن أبي طالب ]
هذا الهدف النبيل الشريف الذي أختزل معاني القرآن وأختصر دعوات الأنبياء والرسل في كل الأعصار والأمصار، الهدف الذي من أجله أُنزلت الكتب وبُعث الرسل وجاهد في سبيله الأنبياء والأوصياء وقُتِّلوا وشُرِّدوا وأُخرِجّوا من ديارهم وطُرِّدوا من أمصارهم وقُطِعوا عن أرحامهم وأبلوا فيه بلاء حسنا ،،
الهدف الذي بُعث من أجله محمد صلوات الله عليه وحُوصِر من أجله في شعاب مكة وطُرِّد وشُرِّد وعُذِّب وأوذي حتى قال [ ما أوذي نبيٌّ مثلَما أوذيتُ ] وخاض من أجل تحقيقه بدراً وأحد والأحزاب وحُنين وقارع العرب والعجم في 29 غزوة، الهدف الذي خاض من أجله الإمام عليٌ ( ع ) كل حروبه ضد الناكثين والمارقين والقاسطين حتى شُجّ رأسه ولقي الله شهيداً في محرابه يُتمتم بالصلوات والدعوات.
الهدف الذي أخرج الزهراء ( ع ) من خدرها مكلومة مقهورة متنبئة بما سيحدث من فواجع ومصائب بحق البيت النبوي والعترة المحمدية إثر الغدرة التي أزاحتهم عن مناصبهم ومراتبهم التي رتبهم الله فيها مخاطبة القوم بالقول: { ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنّها فيضة النفس ونفثة الغيظ، وخور القناة، وبثّة الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف باقية العار، موسومة بغضب الجبار وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلّع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون.}
الهدف الذي من أجله قُتل الامام الحسن ( ع ) مسموماً وتقطّعت كبده واحشاؤه وهو ينظر إلى أخيه الحسين باكياً وناعياً بالقول ” لا يوم كيومك يا ابا عبدالله ” متنبئا بما سيحُل بالحسين وأبناء الحسين وأصحابه في سبيل هذا الهدف السامي والقضية الإنسانية العادلة.
الهدف الذي من أجله خاضت الحروب وتحمّلت الكروب عترة المصطفى وشجرته النبوية وبذلت في سبيله الدماء والأرواح وما زالت لرسول الله ذرية تدعو إلى القسط والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسير بسيرته وتقتفي أثره وتستنّ بسُنّته وتذود عن حياض الإسلام وقِيمه بدماء النحور وتدافع عنه بأرواحها ضلال المضلين وإفك الأفاكين وعدوان المعتدين.
ملحمة يسجلها فرسان ثورة النور الخالد أما بعد: [ فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا، ] عندما نقف على ملحمة كربلاء ويومها الدماي الذي أحمرّت لهول ما جرى فيه السماءُ وأمطرتَ الأرضَ دماءً عبيطا ، وما سجله التاريخ عنها وعن أبطالها وفرسانها نقف على رجالٍ جاءوا من مدرسة محمد وعلي والحسن والحسين وقطعاً لن تجود الدنيا على أحدٍ بمثلهم،، رجالٌ عرفوا القائد ، وعشقوا الهدف ، وأحبّوا المغامرة ، وتاقت أنفسهم الفناء في سبيل تخليده للأجيال ، لتعمل على تحقيقه ، أو تموت دونه ،،
لأنّ ما تعلمته في مدرسة أهل البيت عليهم السلام هو : أنّ الموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين وأنّ الموت سعادة والحياة مع الظالمين شقاء وبرم.
تعلمت في مدرسة أهل البيت أنّ الإنسان إذا خُيّر بين دينه وموته فاليختار الدين ويخوض غمار الموت طالما وهو في سلامةٍ من دينه ولا يُبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه تعلمت في مدرسة أهل البيت إِنَّ اَلْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لاَ يَفُوتُهُ اَلْمُقِيمُ وَ لاَ يُعْجِزُهُ اَلْهَارِبُ وإِنَّ أَكْرَمَ اَلْمَوْتِ اَلْقَتْلُ ومن لا يقتل يمت ولَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَن مِنْ مِيتَةٍ عَلَى اَلْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اَللَّهِ وأنّ الحق اذا لمْ يُعمل وبه والباطل اذا لم يتناها عنه فرغبة المؤمن في لقاء الله محقا وأنّ الموت إلا قنطرة تَعبُر بالمؤمنين من البؤس والضراء إلى النعيم الدائم والجنان الخالدة، وإنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بنون وَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَبِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَداً حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ.
رجالٌ أبت أنفسهم حياة الذل والعبودية يسوسهم الفجرة ويتسلط على رقابهم الأنذال ويأتمِرون لمن لا يأتمر بأمر الله ولا ينتهي بنهيه ويعمل فيهم بسنة الفراعنة وسيرة عبدة الأوثان.
فكان خلود أرواحهم في ضيافة عزيزٍ مقتدر ، في الملكوت الأعلى عند ربِّ الشُهداء والنبيين وخلود مآثرهم في صفحات بيضاء ناصعة في تاريخ البشرية يستقي منها كل من رام الفخار وينتهل من ريّانها كل من عشق الخلود وتاقت نفسه مقامات الكرام ومكانة المخلصين فكان منهم علي بن الحسين الذي أتى على أبيه وقد علمَ أنهم مُخيّرون بين الموت والتسليم فسأل أباه:
ألسنا على الحق يا أبتي؟
قال: بلى ، والذي يرجع إليه العباد.
فقال الفتى: يا أبة فإذن لا نبالي.
والقاسم بن الحسن ( ع ) عندما سأله عمه الحسين: كيف تجد الموت يابني؟
فقال له: ” في نصرتك يا عماه أحلى من العسل ”
وهكذا لا يُبالون بما يلقون، ما علموا أنهم قائمون بالحق وعليه يموتون فجمعهم الإمام الحسين مرة بعد أُخرى وهو يقول لهم: ” لقد بررتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا فهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ”
ويأتيه الجواب من : بُرير بن خُضير الهمداني اليماني ( رض ): ” والله يابن رسول الله لقد منَّ اللهُ بك علينا أن نقاتل بين يديك وتُقطّع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم الحساب ”
ويأتيه الجواب من : زُهير بن القين القحطاني اليماني ( رض ): ” لقد سمعنا- هدانا اللهُ بك يابن رسول الله- مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ، ووالله لوددتُ أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أُقتل هكذا ألف مرة ويدفع الله بذلك الفشل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك “.
ويأتيه الجواب من : هلال بن نافع المذحجي اليماني ( رض ): ” سر بنا يابن رسول الله راشداً معافا، مشرقاً إن شئت وإن شئت مغربا، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك”.
ويأتيه الجواب من : مسلم بن عوسجه الأسدي التهامي ( رض ): ” نحنُ نخليك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك العدو !؟ وبما نعتذر إلى الله في اداء حقك؟ لاوالله لا يراني الله أفعل ذلك أبدا حتى أُكسّر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولولم يكن لي سلاح أقاتلهم به أقذفهم بالحجارة ولن أفارقك حتى أقتل دونك “.
ويأتيه الجواب من : سعيد بن عبدالله الحنفي ( رض ): ” لا والله يابن رسول الله لا نخليك أبدا حتى يعلم الله انا حفظنا فيك وصية رسوله محمد ولو علمت أني أُقتل فيك ثم أحيى ثم أُحرق حيا ثم أُذرى يُفعل بي ذلك سبعين مره ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك فكيف وإنما هي قتلة واحدة ثم أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا “.
ويأتيه الجواب من : بشير بن عمرو الحضرمي اليماني ( رض): ” أكلتني السباع حياً ان فارقتك يا اباعبدالله “.
ويأتيه الجواب من : جون بن حوي مولى أبي ذرالغفاري( رض ): ” أنا في الرخاء الحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟! لاوالله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم”.
ويأتيه الجواب من الحر بين يزيد الرياحي التميمي ( رض ): ” إني أُخيّر نفسي بين النار والجنه ووالله لن أختار على الجنة شيئاً ولو أُحرقت”.
وهكذا سطروا أروع ملاحم الفداء ، وأنصع صور التضحية والاستبسال ، وخاضوا عباب الموت بهذه النفوس الأبية ، والقلوب الشكيمة والأنوف الحمية ،، بعزم يفل السيوف ويثني الرماح ، وبشجاعة وحماس وإقدام لم يُسجّل في التاريخ ما يُضاهيها حتى أُثخنوا بالجراح وهدَّ حيلهم العطش وافترس بطونهم الجوع وتناولتهم السيوف قطعاً وتمزيقاً ، والرماحُ تنال من نحورهم والظهور وعجزت قوائمهم على النهوض والاستمرار في طعان الجائرين ليتهاذوا على الثرى واحداً بعد آخر تفيض أرواحهم الطاهرة إلى لبارئها وقد أدّوا واجبهم المقدس وأوفوا الذمام واستوفوا أجور الصابرين.
صالوا وجالوا وأدّوا حق قائدهم
في موطنٍ عقَّ فيه الوالدَ الولدُ
كُل ذلك في سبيل الهدف النبيل والغاية السامية وتخليد الثورات وإحياء القيم والمبادئ الإنسانية والدفاع عن الدين الذي أُريد له الاندثار ولتعاليمه الاندراس
لؤم الطباع وخستها والمآثم المخزية
في خضم تلك المصائب والفواجع نضحَ كل إناء بما فيه ، وطفحت في معسكر يزيد طبائعُ اللؤم ، إذ لمْ يكن في معسكره رجل يُعينه على الإمام الحسين إلا وهو طامعٌ في مغنم ، مُستميت في طَمعه استماتة من يهدر الحرمات ولا يأبه بشيء في سبيل الحطام ، وكانو شرذمة جلادين ، صعاليك ، مبتذلين ، وكلاب طراد انطوت ضمائرهم على الخسة والدناءة وذبول الهمة ، ولمْ يخل أحد قادتهم من غلظةٍ في الطبع على غير ضرورةٍ ولا استفزاز ، ولمْ تخل حتى خلائقهم البدنية من المسخ والتشوه ، وصدورُ أمثالهم تمتلئ بالحقد على من كان سويا في الخَلْق حسن الأحدوثة ، وكان منهم شِمر بن ذي الجوشن وقد كان أبرص كريه المنظر قبيح الصورة مُسمّم الطبيعة في صورة إنسان..
وعبيدالله ابن زياد مُتهم النسب في قريش ، لأن أباه زياد كان مجهول النسب ، فكانوا يسمونه زياد ابن أبيه ثم ألحقه معاوية بأبيه سفيان مخالفاً قول النبي ” الولد للفراش وللعاهر الحجر ” وكانت أم عبيدالله جارية مجوسية تدعى مرجانة فكانوا يعيرونه بها وينسبونه إليها ، ومن عوارض المسخ التي كانت فيه ولها في نفوس العرب دخلة تورث المهانة والضغن ، أنّه كان ألكن اللسان لا يُقيم نطاق الحروف العربية، ومما يُقال عنه.. أراد مرة أنّ يقول أِشهروا سيوفَكم فقال ‘ افتحوا سيوفَكم’!! فهجاه يزيد بن مفرغ قائلا:
ويوم فتحت سيفك من بعيدٍ
أضعتَ وكل أمرك للضياع
ولمْ يكن أسهل عليه من قطع الأيدي والأرجُل والأمر بالقتل في ساعة الغضب لظنةٍ ولغير ظنةٍ..
وقال عنه مسلم بن عقيل عليه السلام ” ويقتُل النفس التي حرَّم الله قتلها على الغضب والعداوة وسوء الظن وهو يلعب كأنه لم يصنع شيئا “..
ومن هذا القبيل عمر بن سعد بن ابي وقاص ، وهو الذي ساق نساء الحسين بعد استشهاده على طريق جثث القتلى التي لمْ تزل مطروحة بالعراء إمعاناً في أذيتهم وتشفياً بمصابهم وفاجعتهم..
وروماً للاختصار في وصف هذه الطغمة الخبيثة أنّ الجبن والخور وغمز النسب ولؤم الطباع هو أشرف ما فيهم من صفات الرذيلة وخصال السوء، فقد كان عبدالله ابن أبي حصين الأزدي ينادي بأعلى صوته : يا حسين هل ترى الماء وكأنه كَبِدَ السماء وبطون الحيات ؟ والله لن تذوقوا منه قطرة حتى تموتوا عطشا..
ورأى الإمام الحسين ولده عبدالله الرضيع يتلوى من ألمه وعطشه ، وقد بُح صوته من البكاء فحمله على يده إلى القوم وصاح فيهم، ” أتقوا الله في الطفل إن لم تتقوا الله فينا ” فأوتر حرملة بن كاهل الأسدي قوسه ورمى الطفل بسهمٍ وهو يصيح ليسمعه العسكران ” خُذ واسقه هذا ” فشجَّ السهمُ عُنقَ الرضيع من الوريد إلى الوريد وجعل الإمام يتلقى الدم بيديه فامتلأتا وتوجه به إلى السماء وقد شَخص ببصره إليها وهو يقول ” إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير منه وانتقم لنا من القوم الظالمين”..
وهذا ما يدفعنا للقول إنها حرب بين النّور والظلام بل حرب بين أشرف ما في الإنسان وأوضع ما فيه، فبينما كان الرجل من أصحاب الحسين ينهض من بين الصرعى يتهادى بجسمٍ مُدمى بالجراح ومُثقل بالرماح ليجود بالنفس الأخير في سبيل إيمانه إذا بالآخرين يقترفون أسوأ المآثم وأخسَّ ما في الضعة والعار ، من أجل غنيمة هينة لا تسمن ولا تغني من جوع فلو كان كل ما في معسكر الإمام الحسين ذهباً وفضة لما أغنى عنهم شيئاً وهم قُرابة اثني عشر ألفاً ولكن الخِسّة ولؤم الطبع ووحشية الضمير هي التي تحملهم على ذلك وجُلّ همهم هو الأسلاب فطلبوها حيث وجدوا ما لا يسمن ولا يغني وهرعوا إلى النساء من بيت رسول الله ينازِعونَهُنَّ الحُلي، لا يردعهم عن حرمات رسول الله وازع من دين ولا مروءة ، وانقلبوا إلى جثة الإمام يتخاطفون ما عليها من كساءٍ وعباء تخللتها الطعون ، حتى كادوا ليتركوها على الأرض عارية لولا سراويل لبسها الإمام وقد تعّضمد تمزيقها ليتركوها على جسده ولا يسلبوها.
ثم ندبوا مجموعة من الفرسان يُوطئون جثةَ الامام الحسين الخيل كما أمرهم ابن زياد فوطئوها مقبلين ومدبرين حتى رضَّوا صدره وظهره..
وقَتلوا في كربلاء كل كبيرٍ وصغيرٍ من ذرية النبي الأكرم، ولم ينج من ذكورهم غير زين العابدين علي عليه السلام، لأنه كان مريضاً يتوقعون له الموت هامة اليوم أو غد، وفي ذلك يقول سراقة الباهلي:
عين جودي بعبرةٍ وعويل
واندُبي ما ندبت آل الرسول
سبعة منهم لصلب علي
قد أُبيدوا وسبعة لعقيل
هَجَعت حينها الأصوات ، وحُبست الأنفاس ، بعد أن قُطع دابر صليل السيوف ، وخَذف الرماح ، لتنقشع الحربُ عن رمقٍ واحد من الحياة باقٍ في رجلٍ طعينٍ مُثخن بالجراح تركوه ولمْ يُجهزوا عليه لظنهم موته ذلك هو سويد بن أبي مُطاع الأنصاري اليماني ( رض ) فأبى الله لهذا الرمق الضعيف أن يُفارق الدنيا بغير فضيلة يُتمم بها فضائل يومه فبلغت صيحتهم مسمعه الذي أثقله نزاع الروح وأوشك أن يجهل ما يسمع من تناديهم بمصرع الحسين فلم يخطُر له أن يسكن لينجو، فالتمس سيفه فإذا به بين أيديهم قد سلبوه فوقعت يده على عمودٍ لا غناء به مع السيوف والرماح، ولكنه قنع به وغالب الوجع والموت ووثب من فوره وثبة المستميت الذي لا يُبالي بما أصابه أو وقع عليه فتولاهم الذعر وشُلت أيديهم وانطلق مثخناً فيهم القتل والجراح حتى تعاون على قتله اثنان ليلتحق بموكب النّور وركاب الخالدين..
وبقيت الجثث منبوذة في العراء تسفي عليها الرياحُ حتى خرج لها جماعة من بني أسد ليلاً كانوا ينزلون بتلك الناحية عندما أمِنوا من العيون ‘ وسروا مع القمراء إلى حيث طَلَعت بهم على منظرٍ لا يطلَّع على مثله شرف ولا وحشة في الآباد بعد الآباد ، فحفروا القبور وصلّوا على الجثث ودفنوها ثم غادروها هناك في ذمة من لا يعزُب عنه مثقال ذرة..
وعليه فقد كانوا في عدوانهم ذاك ظلاماً مطبقا وقوة من عالم الظلام والقتام تكافح قوة من عالم النّور والضياء..
وللنّور أن يستمر ويشُّع في الأرجاء ويعُمَّ الخافقين ويسكن القلوب الطاهرة والأرواح المطهرة ما تعاقب الليل والنهار والظلام له قلوب الظالمين والأشباح من مسوخ البشرية وشياطينها وشراذمٌ جُمعت من كل نحلةٍ منحرفةٍ في كل عصرٍ وزمان يُحفزها الخبث وتدفعُها الظلامية ورجس الطّوية ولؤم الطباع لتطفئ نور الله، ويأبى الله إلا أن يُقيض لهم من عباده المخلصين وأوليائه النورانيين من يقارعونهم بقوته ويدمغون باطلهم بحجته ويقتلون جبروتهم بسيف سطوته ويقمعونهم بإذنه وبأسه ويقشعون ظلامهم الدامس بنور البصيرة وضياء الوجدان المستنيرة بنوره الوهاج الذي يملأ القلوب ويغشيها سكينة وثباتا في معركة الحق والباطل والنّور والظلام..
رسالة النور ( ع ) الخالدة
أرسلَ يزيد إلى واليه في المدينة الوليد ابن ابي سفيان وذاك بعد هلاك أبيه معاوية وتربعه على العرش:
( إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن عليّ، وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضرب عنقيهما وابعث إليّ برأسيهما، وخذ النّاس بالبيعة، فمَنْ امتنع فانفذ فيه الحكم )
وعلى إثر ذلك أرسل الوليد إلى الحسين (عليه السّلام) يدعوه إليه ليلاً، فجاء رّسول الوليد إلى الإمام وهو في المسجد، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين النّاس، وجال في خاطر الحسين (ع) أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك، ويأخذ منه البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشّام، فاستدعى الحسين (ع) إخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه وقال لهم” إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه”..
ودخل الإمام الحسين على الوليد وكان مروان ابن الحكم- الطليق ابن الطليق – في حضرته وقرأوا عليه كتاب يزيد وما يطلبه منه
ثم احتدم النقاش بين الإمام (عليه السّلام) وبين مروان حتّى أعلن (عليه السّلام) رأيه لمروان بصراحة، قائلاً: “إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، وعلى الإسلام السّلام إذ قد بليت الاُمّة براع مثل يزيد!… وإني سمعت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، فوالله، لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به”..
و هكذا أعلن الإمام الحسين في وجوه الطغاة رفضه القاطع وموقفه الإيماني والإنساني من بيعة الحاكم الظالم وسلطان الجورة وزأَرَ بصوته المجلجل وصيحته المدوية في رواق قصور البغي والطغيان صارخا بشعار الرفض والبراءة منتفضاً على حكومات الفساد وثائراً من أجل كرامة الإنسان وعزة الدين الحنيف ، وبهذه الكلمات النورانية أبتدأ مشواره الثوري المناهض ودشن مشروع التصحيح والإصلاح في أمة جده المصطفى ليسنَّ بذلك الخروج على العتاولة وسلاطين الجور وليوصل رسالته “النور” إلى كل إنسانٍ في كل جيلٍ وإلى يوم القيامة : إنّ لكل عصرٍ حسين ولكل زمانٍ “يزيد” وإنّ مثل الحسين لا يبايع ولا يوالي ولا يداهن ولا يخضع لمن كان مثل يزيد.
وإذا تأملنا في كلمات الإمام الحسين عليه السلام نجد أنها حقاً رسالة تستحق التنويه والتخليد ، وأن تكون شعاراً لكل حرٍ ، وفاضلٍ ، وماجدٍ من بني الإنسان ، إذ وقّع عليها بدمه الزكي الطاهر ، وهذه الرسالة لنا ، ولمن قبلنا ، ولمن بعدنا ، وإلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها ، وخصوصاً لمن هم في خط الحسين ودربه ونهجه ، ومن أشرأبت قلوبهم حبه وبغض قتلته وقتلة أبنائه وأصحابه..
رسالة تكشف خداع المتأسلمين في كل عصر ، ومن يجعلون من الدين ذريعة لجلوسهم ، وتقاعسهم ، عن نُصرة الحق وأهله ، والدفاع عن الحقوق والمظلوميات، وعن المظلومين والمستضعفين ، ويمدون أيديهم للحكام وسلاطين الجور طمعاً فيما عندهم من حطام وخوفاً من سطوتهم وجبروتهم..
رسالة تمثل الحُجَّة الدامغة لنا، وعلينا كمسلمين والمقياس الإيماني والمعيار الإسلامي الثابت لإيماننا وما عليه قلوبنا من اليقين والتصديق برسالة ربَّ العالمين، فإما حسينيون ولا نبايع مثل يزيد ولا نخضع له ولا نواليه ولا ندين له إلا بما دان الإمام الحسين ليزيد زمانه ، وإما متقاعسون متخاذلون مداهنون للظلمة والطغاة من أمراء وسلاطين عصرنا ، وبهذا نخرج عن ربقة الدين ونُعطّل في حياتنا شريعة رب العالمين..
“فمثلي لا يبايع مثله” ، لكل عصر ولكل جيل وإلى يوم القيامة ولا أحد مستثنى من العناية بهذه الصرخة وهذا النداء الحسيني ، ومراد الإمام ( ع ) أن يُخلّضدها ويورثها لأجيال الإسلام ، إنّ مثل يزيد لا يبايع ولا تجوز موالاته ولا الوقوف معه، وإنما الواجب الثورة عليه والوقوف بوجه جبروته، وتحديه ومحاربته واجب ديني مقدس بنص القرآن والسنة النبوية المطهرة ومن أبى أدخله الله مدخله وحشره في زمرته.
مَنْ المنتصر والظافر ؟
يُقال إنّ الامام الحسين عليه السلام قد خسر المعركة وانهزم بحسب معاييرنا الدنيوية ، وإن يزيد قد ربحها وظفر بما ابتغاه من دماء العترة النبوية واستباحة حرمات الرسول – ثأراً لبدر وأحد على حد زعمه – وإنّه بقتله الإمام الحسين قد هيأ لنفسه ولأبنائه الحكومة والسلطة بعد تصفية خصومه السياسيين، وهذه هي النتيجة بحساب الربح والخسارة الآنية والجمع والطرح في دفاتر تجار أسواق العاجلة، ولكن في الحقيقة أنّه حتى بهذا الحساب نجد يزيد هو الخاسر والإمام الحسين هو الرابح، إذ كان هدف يزيد معلوماً واضحاً مشخصاً وهو – إضافة الى الثأر لقتلى المشركين في بدر – السلطة التي كان يطمح ليعمر على هرمها ويورثها لمن بعده من أبنائه ، والنتيجة أنّ الله أهلكه وعجَّل بروحه إلى سقر وبئس المستقر بعد مقتل الحسين بثمانية أشهر وقيل ثلاث سنوات.. وأشرف ما قيل عن موته أنه سكر ليلة وقام يرقص ووقع على رأسه فتناثر دماغه وقد كان مصاباً بذات الجنب وهذا من جهة سوء المنلقب وحرمانه من الهدف الأول ،والهدف الثاني لم يتحقق أيضاً إذ لم يتول أحد من أبنائه من بعده بل قُطع عقبه ولم تنسب إليه ذرية تذكر في معمورة العرب ولا العجم ولم تُعمّر دولة الأمويين بعمر رجل واحد ، هذا من الناحية الدنيا وأما الأخرة فقد خسرها الخسران المبين وحاق به غضب الله وسخطه ولا يشك أحد في عذابه وهوانه في جحيم الجبار وأليم عقابه..
والحسين فاز بالرضوان والجنان ، وعاش حياً خالدا في قلوب الأطهار ، يتغنى ببطولاته الأحرار ، ويستقي من عذب مناهل مبادئ ثورته وعظيم تضحياته الثوار ، ولم يزل نوراً خالداً وقبساً وهَّاجاً تخافه ملوك الظلام ، وسلاطين البغي ، وترتعد منه فرائص الجبابرة وأرباب الطغيان في كل زمان ومكان ، وتسقط بفضل شعاراته وهتافاته التي أطلقها في يوم كربلاء دول ، وتبنى حكومات ، وتستمد منه الشعوب شرعية ثوراتها والعزم والإرادة والقوة والصلابة والطاقة في مقارعة الظالمين..
خسر الحسين معركته في نظر البعض ؛ لكنه لم يخسر مبدأه ودينه ومكانته وإمامته وأمانته وآخرته وقلوب المليارات من المحبين من مسلمين وغير مسلمين على امتداد التاريخ وتوالي السنين التي بيننا وبينه.
ولكن هل خسر معركته حقا ؟!
وهل انتهت تلك المعركة من أجل أن نحكُم من الخاسر فيها ومن الرابح ؟!
في الواقع لم يخسر معركته ، إذ لم تنته بعد وما زالت مُمتدة إلى جيلنا يُشاركه فيها كل الثائرين من أجل القيم الإنسانية ، ودعاة الحرية والإصلاح ، والنافضين غبار الذل والضيم والعبودية وقيود الرق والتبعية التي يعترشها العمى والحمق ويساق إليها الناس بمقامع جلاوزة الحكام وسياط جلاديهم..
لم تنته بعد ، وكيف ذاك ! وهي باقية ما بقي هاتف يهتف للصلاه ، إذ أنّ الإسلام محمدي الوجود حُسيني البقاء ولن تنتهي إلا بنهاية الظلام وأشباحه وسقوط عروش الظالمين وزوال ممالكهم وقيام دولة الحق والعدل التي وعد الله بها عباده المؤمنين في محكم كتابه الكريم:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.