صراع مشاريع التقسيم في اليمن
محمد ناجي أحمد
يقول الشاعر:
واليوم يا حيدان خلي الهنجمة
وانته قدك عروة مع مولى حَباب
المعركة في عدن والمحافظات الجنوبية لبست بين وحدويين وانفصاليين ،المعركة داخل الوعي الانفصالي بأبعاده الهوياتية ،وهو مشروع تمت مراكمته باسم الشرعية وداخلها. أي أنها بين مشروع التشطير إلى دولتين وهو كارثة وبين مشروع الدويلات وهو الأسوأ لأنه يعلي من الانقسامات العمودية للمجتمع كي يسيج حدوده المناطقية عن طريق الثارات الاجتماعية …
تسع سنوات من الإنهاك والنزيف المتواصل للوطن اليمني وقواه المحتربة، في كر وفر مضرج بالدم اليمني وسحل وطرد المستضعفين الذين ضاقت بهم الأرض لتتلقفهم ماكينة الحرب ،فرارا من الموت جوعا يموتون بأجساد مثخنة بالرصاص.
متاهة عبثية ،وموت مجاني ؛ومفارقات هزلية باكية…
يموت الأب في الستينيات ذودا عن جمهوريته ، ويموت الأحفاد دفاعا عن كيانات وظيفية وحدود القصور المترفة ،والذهنيات المتخمة بالخيانات!
يتم تعميد العصبيات ما قبل الوطنية بالثارات المناطقية ، لتكون الأخاديد محفورة بالجثث ؛فتتسع المسافات بين اليمنيين ، ويكون المصير اليمني محكوما بإرادة خارجية ، يتلهى ويعبث به في مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات والإعلام المقروء-إن شاء أقامه صوريا أو شاء أسقطه في الفوضى والاقتتال …
مصير وطن يعبث به عقل بلا عقال ،يتحرك وفقا لسياط راعي البقر …
بهذا يكون اليمنيون والوطن اليمني أسير قوى الغرب بوكالة خليجية…
الغاية هي أن يكون الجميع ضعيفا ،يتم تفعيله بمنشطات خليجية سعودية قطرية إماراتية، وكسره بمثبطات ذات القوى. فمتى يكون الوطن بوصلتنا والوطنية الوحدوية اليمنية هويتنا الجامعة…
كان تقسيم العثمانيين لليمن إلى ولايتين هدفه «تسهيل مهمة حكمهم لليمن، وأبلغ دليل على هذا أنه أثناء الانتفاضة الكبرى التي قادها الزعيم المطهر شرف الدين لجأ العثمانيون إلى تقسيم اليمن إلى ولايتين، كما جئنا على ذكرها ،الغاية من وراء هذا التقسيم الإداري وغيره هي تسهيل مهمة حكم اليمن ،والقضاء على الانتفاضات المتكررة»ص64-الحركات السياسية والاجتماعية في اليمن –صادق عبده علي –دار الكتاب الحديث –بيروت 1412هـ-1992م.
فكل تقسيم لليمن هو وسيلة استعمارية للسيطرة ،والقضاء على كل رد فعل شعبي ضد المحتل ،فحين يتم تفكيك اليمن تفكك قواه المناهضة لكل استعمار واحتلال. فهذا ليس اختراعا للتحالف الذي تقوده السعودية بشراكة إماراتية ،فلقد سار على هذا النهج كل غاز ومحتل مرَّ على اليمن وأراد أن يمكث فيها ويطوع أهلها لمصالحه .فلقد «سعت بريطانيا إلى استفزاز المشاعر الوطنية بهدف إضعافها ،أو إنهائها إن أمكن الأمر .ليس بمحاولة إقامة المشاريع الاتحادية المزيفة ،بل أيضا بتشجيع بريطانيا للروح الانفصالية عند الناس ،أو في خلق التناحر السياسي بين الأحزاب ،مما يعني أن بريطانيا حاولت تكريس الانفصالية كأحد المبادئ الأساسية الاستعمارية –الجديدة القديمة «ص212-213-الحركات السياسية والاجتماعية في اليمن-مرجع سبق ذكره.
من قوانين الجغرافيا اليمنية وجوهر التركيبة الاجتماعية لليمنيين ،وبديهيات المنافع المتداخلة والحاجات الحياتية لليمنيين –فإن الوحدة اليمنية ليست ترفا بل مصير ومسار اجتماعي لهذه الجغرافيا ،التي تشتعل بالحروب تاريخيا حين نسقط في حضيض الدويلات والانقسامات السياسية ،وتستقر مع وحدة اليمن واليمنيين ،ويظل استقرار الأقطار نسبيا لا يطفئ قلاقلها بشكل نهائي إلاَّ بوحدة الوطن العربي الكبير،الكفيل بإطفاء كل الأمراض المناطقية والطائفية والجهوية ،ذلك أن الوجود القطري يظل عاجزا عن توفير متطلبات وشروط التنمية ،وتوفير الرفاهية للإنسان العربي ،وتحقيق فرص أكثر وأكبر للنهوض الاقتصادي والثقافي والاجتماعي ،ولهذا كان موقف الإمام يحيى حميد الدين من الثورة العربية الكبرى 1916-1918م موقف المؤيد لها .
من مؤشرات سقوط اليسار اليمني في حضيض التفكير والنزعات الجهوية والمناطقية والطائفية والمذهبية هو منطلقاته المبنية على زيف الوعي ،حين يفسرون كل حرب وصراع سياسي في اليمن على أنه حرب (الشمال ضد الجنوب)!هكذا وصفوا حرب 1994م ،باستسهال جهوي بدلا من فهم دوافع وجذور تلك الحرب بأنها انعكاس طبيعي لتركيبة السلطة الشمولية ،والمحاصصات والاحتكار للأمر والثروة في إطار لا يتسع للشعب وبناء المؤسسات ،وإنما ظل حكرا على مكونات السلطة التي تشاركت في نهب الوطن ،والنظر إليه على أنه غنيمة لأطراف معنية .
اليوم وفي ظل الصراع في المحافظات الجنوبية ،وداخل مكونات سلطة (الشرعية)نجد الحزب الاشتراكي ومنظماته في المحافظات الجنوبية ،وما نشره الأمين العام للحزب ،الأستاذ عبد الرحمن السقاف في مواقع التواصل الاجتماعي ،وتوصيفه لذلك الصراع بأنه (حرب الشمال الثالثة ضد الجنوب ) مذكرا بحرب 1994 وحرب 2015م ،زاعما أنها جميعا حروب الشمال ضد الجنوب!
هذه المغالطات القصدية تحرف جوهر الصراع على السلطة ،لتحيله إلى صراع شمالي جنوبي ،فيكون الضحية في كل حرب هم بسطاء الناس ،الباعة في البسطات والمهمشون والجنود وصغار التجار والموظفين الخ.
بهذا المنطق المغلوط والمصر على هذا التحريف تكون الحروب التي قادها الرئيس علي عبد الله صالح وأنصار الله والتجمع اليمني للإصلاح حروبا شمالية ضد الجنوب ،ووفقا لهذا الوعي المأزوم واستمراره على الاستسهال غير البريء في قولبة كل صراع بأنه صراع شمالي جنوبي ،وإن تغير قادة هذه الصراعات ،وتغيرت الأيديولوجيات!
إن مصير اليمن في نهاية هذا النزيف للجسد اليمني سيكون الوحدة سلما أو حربا ،فهذا مصير حتمي لا يخضع للترضيات والمجاملات الشخصية والحزبية ،إنه جوهر القضية اليمنية ،شاء من شاء وأبى من أبى.
فكل من يرى أن هناك (قضية عادلة للجنوب )يساهم في تزييف الوعي ،وينطلق في الأساس بوعي أو بغير وعي من منطق جهوي انفصالي.فمن منطلق الوحدة هناك قضية واحدة عادلة ،هي قضية النهوض بالإنسان اليمني ،بشراكة شعبية واسعة للحكم ،وتنمية اقتصادية ترتكز على نظريات اقتصادية اجتماعية ،تحقق العدالة والنمو في معدلات الإنتاج وتوسيع فرص العمل في آن ،دون ذلك سنظل في متاهات قاتلة وهويات طاردة.
وكما كان سلاطين ومشايخ (المحميات التسع)المحميات الغربية، وسلاطين المحميات الشرقية،القعيطية والكثيرية والواحدية –يتنافسون ويسارعون في إعلان ولائهم المطلق ،ويتصارعون في ما بينهم لإثبات ولائهم وإخلاصهم لبريطانيا.
وهو ما يماثل حال أمراء الحروب في أيامنا هذه من تكالب على تقديم الولاء والرضوخ والانصياع للتحالف الذي تقوده السعودية ،وللإمارات التي تنفذ استراتيجية هذا التحالف،من حيث دعم مسار تشطيري على أساس شمالي جنوبي ،ثم تتراجع إلى الخلف ليتصدر المشهد الدور السعودي في إسقاط خيار الاستعمار التشطيري ،لتحل محله مشروع الدويلات ،فمع هذه الجزر المحتربة يستمر النزيف اليمني،وتتعمد هذه الفوضى بالكثير من الرواسب الاجتماعية الثأرية ،الذي يدوم في الذاكرة الجمعية ،وهو باعتقادي من ضمن المقاصد الاستعمارية الذي يستمر تحالف السعودية بإنجازه في اليمن!