أصبحت الهجمات العدوانية التي شنها الکيان الإسرائيلي على مواقع الحشد الشعبي في الأراضي العراقية، محور النقاش السياسي في هذا البلد خلال الأيام القليلة الماضية.
وكانت هذه الهجمات التي نُفِّذت بضوء أخضر من الولايات المتحدة، تهدف في الغالب إلى تصوير الحشد الشعبي بأنها قوة خالقة للأزمات المخلة باستقرار العراق، وبالتالي إضعاف مکانة هذه القوات باعتبارها جزءاً من بنية القوات المسلحة العراقية، لدی الرأي العام وكذلك حكومة “عادل عبدالمهدي”.
مع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، إلى أي مدى أدت الغارات الجوية الإسرائيلية إلى النتائج والأهداف المرجوة لهذا الکيان والولايات المتحدة؟
الحجة الرئيسية لهذا المقال هي أن هذه الهجمات لم تسفر عن النتائج المقصودة لهذه الجهات الفاعلة فحسب، بل كانت لها نتائج معکوسة تماماً علی أرض الواقع.
المستوى الأول من النتائج المناقضة لتوقعات الولايات المتحدة والکيان الإسرائيلي، يرتبط بلقاء رؤساء السلطات الثلاث في العراق مع بعض قادة هيئة الحشد الشعبي، حيث التقى الرئيس العراقي “برهم صالح” ورئيس الوزراء “عادل عبدالمهدي” ورئيس البرلمان “محمد الحلبوسي” في 27 أغسطس 2019م، بعدد من كبار المسؤولين في هيئة الحشد الشعبي في بغداد عاصمة البلاد. وفي الاجتماع، أدان الرؤساء الثلاثة العدوان الإسرائيلي معتبرين إياه انتهاكاً للسيادة العراقية.
في الواقع، إن المجتمع السياسي (السياسيون) والمواطنون العراقيون بعد زوال داعش، الذي كان الهدف الرئيسي من تشكيل الحشد الشعبي بناءً علی فتوى آية الله السيستاني، لم يدرکوا ضرورة استمرار وجود قوات الحشد الشعبي لحماية السيادة والأمن القومي کما ينبغي، کذلك لم تكن التهديدات الإسرائيلية للمجتمع العراقي ملحوظةً بشکل جيد، لكن يبدو الآن أنه بعد انتهاء داعش، أظهرت الهجمات الإسرائيلية على قوات الحشد أن هذه القوات تساهم في الاستقرار والأمن في العراق، وأن واشنطن وتل أبيب هما من يخلق حالةً من عدم الاستقرار في هذا البلد.
وفي الحقيقة، إن القضية هي أن الکيان الإسرائيلي ليس غير مبال بالتطورات التي تحدث في العراق، لذلك، يمكن اعتبار لقاء قادة السلطات الثلاث بقادة الحشد الشعبي، نوعًا من الاعتماد على هذه القوة التي تعد أحد عوامل القوة العراقية وتحقيق مبدأ الردع.
وعلى مستوى آخر، أثار إنتهاك الکيان الإسرائيلي للمجال الجوي العراقي، مسألة الوجود الأمريكي المثير للجدل في العراق تحت ذريعة الحفاظ على أمن هذا البلد، وجعلها في صدارة النقاشات السياسية والرأي العام مرةً أخری.
ووفقًا للاتفاقية الأمنية التي تم توقيعها بين بغداد وواشنطن في عام 2009م، التزمت الولايات المتحدة بتوفير أمن العراق، بالإضافة إلى مواجهة التهديدات الموجودة في البيئة الأمنية لهذا البلد، مع ذلك، فإن الوثائق الحالية المرتبطة بالغارات الجوية الإسرائيلية ضد قوات الحشد الشعبي، تدل على أن الولايات المتحدة لم تدافع عن المجال الجوي والسيادة الوطنية العراقية فحسب، بل كانت جزءًا من الحدث نفسه.
وبالنسبة إلی الساسة العراقيين، فإن أمريكا في الوضع الجديد ليس فقط لا تلعب دور حارس الأمن، بل هي جزء من الأزمة والتهديد الأمني الذي يتعرض له هذا البلد، وإضافةً إلى ذلك، أصبح من الواضح الآن أن واشنطن لها دور لا يمكن إنكاره في تجهيز وإعادة تنظيم قوات داعش.
وتسعى إدارة ترامب إلى تحقيق هدفين أساسيين من وراء هذا الإجراء. أحدهما هو تقليل نفوذ ودور إيران في هذا البلد، عن طريق تهديد القوات المقربة من المقاومة في العراق، والآخر هو توفير الأرضية لاستمرار الوجود الأمريكي في العراق من خلال خلق حالة من انعدام الأمن والأزمات في العراق.
الخبراء الاستراتيجيون في الإدارة الأمريكية يخططون بكل طريقة ممكنة للحفاظ على وجودهم في بغداد وإربيل، كأحد أهم المراكز الجيواستراتيجية في غرب آسيا. ولکن على عكس أجندة واشنطن هذه، فإن مسار الأحداث لا يجري وفق ما تشتهيه إدارة ترامب ومستشاروه، والأغلبية الساحقة من التيارات السياسية العراقية تريد خروج القوات الأمريكية من بلدهم.
أما المستوى الآخر لفشل الاستراتيجية الأمريكية والکيان الإسرائيلي في العراق، فيتمثل في توسُّع نطاق انعدام الثقة بالولايات المتحدة بشأن تقديم المساعدة اللوجستية والعسكرية للعراقيين.
لقد كان العراق وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، المحور الرئيسي للأزمة في منطقة غرب آسيا، وكان في أمس الحاجة إلى المعدات العسكرية والدعم اللوجستي لمواجهة أكبر التنظيمات الإرهابية وأكثرها رعباً في التاريخ أي داعش، ولكن على عكس توقعات رجال الدولة العراقيين، کان موقف واشنطن في فترة ما بعد الحرب علی داعش مخالفاً للدعم العسكري للجيش العراقي في مجال التدريب وتقديم الأسلحة، وحتى بيع المعدات العسكرية الحديثة والثقيلة.
ومن ناحية أخرى، قامت إدارة ترامب بتصدير جميع أنواع المعدات العسكرية والأسلحة بسخاء، إلى الدول التي تقف في الخندق المقابل لمحور المقاومة مثل السعودية والإمارات والبحرين، على سبيل المثال، منذ عام 2017م حتی الآن، وقعت الحكومة السعودية عقوداً لشراء الأسلحة بأكثر من 200 مليار دولار، وبهذا، فقد المسؤولون العراقيون الآن ثقتهم بالدعم الأمريكي ولن يكونوا مستعدين لوضع كل بيضهم في السلة الأمريکية كما الماضي.
وفي هذا السياق، تعد روسيا واحدة من أقوى الدول في مجال مبيعات الأسلحة العسكرية المتقدمة، ويمکن للعراق ومن أجل التعامل مع الهجمات المماثلة للکيان الإسرائيلي في المستقبل، شراء منظومة إس 400 للدفاع الجوي من هذا البلد، وهي أكثر كفاءةً بكثير من المنظومات الغربية المماثلة.