حزب العدالة التركي وأمريكا
عبدالرحمن مراد
تقول بعض الكتابات أن الهدف من إنشاء حزب العدالة التركي -وهو مصنف حزبا أمريكيا بوجه تركي في نظرهم- القضاء على مختلف التقدميين واليساريين والاشتراكيين والثوار في الداخل التركي الذين يُطالبون منذ عشرات السنين بخروج تركيا من حلف الناتو، والتوجه صوب علاقات مع روسيا وإيران وسورية والعراق في ما اطلق عليه المثقفون الأتراك بالحلف “الأوراسي” ويطالبون بالتخلص من إرث الكمالية، أو ما سماه الكثير من الكتاب “تصفية الجمهورية الأولى” العلمانية، إضافةً لتلبية متطلبات الرأسمال الضخم، والمطلوب لهذه الغاية ليس نظاماً كريهاً كالنظام السعودي، بل “أسلمة” منخفضة الكثافة؛ تُقرب تركيا من العالم الاسلامي، وتُساهم في جعلها زعيمةً عليه، بعد أن أبعدتها عنه العلمانية الكمالية دون أن تحقق “أوروبيتها”، ومن ثم تسهيل بسط السيطرة الأمريكية على المنطقة عبر تركيا، لكن الذي أفرزه هذا المشروع -كما يقول الكتاب- أنه كما كانت تركيا ضحية استراتيجية “الحزام الأخضر” التي طبقها الناتو في مرحلة الحرب الباردة، يُرادُ لها اليوم أن تكون أيضاً ضحية “الإسلام المعتدل” في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، مستغلةً رجالاً مهووسين بالسلطة حتى ولو تمّ تدمير تركيا بكاملها.
فقد كان رجب طيب أردوغان وحزبه، يدركون عدم قدرتهم على البقاء في السلطة إذا فقدوا الدعم الأمريكي الذي يُعتبر أهم مصادر سلطتهم، وعندما كان أردوغان يتجاوز الحدود المرسومة له وينتهك الاتفاقيات التي تمّ وضعها، تكون ردود فعل المحافظين الجدد عنيفة – كما حصل عام 2006م مثلاً – ما جعله وحزبه يعيشون حالة كبيرة من الذعر اضطرت بأحد مؤسسي الحزب “جنيد زابسو “ليقول للأمريكيين: “نحن بحاجة إليكم، وأنتم بحاجة لحزب العدالة والتنمية في فترةٍ أخرى، ولهذا السبب استخدموا رئيس الوزراء أردوغان قبل أن تكنسوه إلى أسفل الصرف الصحي”.
فالإدارة الأمريكية عملت على حزب العدالة والتنمية كمشروع باعتباره واحداً من القوى الحاملة للسياسة التي تنتهجها في تركيا والمنطقة، وهي أحياناً تؤدبه لكي يصبح أداة مناسبة على المدى الطويل، والاتفاق يبقى قائماً بينهما لتحويل نظام الجمهورية في تركيا إلى نظام “إسلامي معتدل”؛ لأنه الوحيد الذي يقوم بحماية المصالح الأمريكية في المنطقة على أكمل وجه.
وصعود نجم حزب العدالة والتنمية – كما يذهب الى ذلك بعض الكتاب – كان بسبب أن الطبقة السياسية القديمة في تركيا؛ لم تستطع تلبية الاحتياجات الإقليمية والعالمية للمعسكر المسيطر بما يتناسب مع الحجم الذي وصلت إليه تركيا في المرحلة الجديدة التي دخل إليها العالم، بعد أن عجزت عن إعادة هيكلة نفسها، فكان انتحارها الجماعي الذي استغلته “الأردوغانية” لصعودها إضافة للتآمر والغدر الذي مارسته حتى مع أقرب حلفائها بمن فيهم جماعة فتح الله غولن. ومن ثم كان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسعى طول الوقت لتقوية هذا الحزب عند كل هزة تكاد أن تطيح به كما حصل في مظاهرات حديقة غيزي العارمة أو ساحة تقسيم في كل من أنقرة واسطنبول، وكما حدث في الانقلاب الذي كان مبرراً لتصفية الخصوم؛ لأن الهدف كان دائماً تحويل تركيا لتكون دولة فرعية إمبريالية عبر ترجمة مصطلح “مشروع الشرق الأوسط الكبير” إلى مصطلح “العثمانية الجديدة”، هذا المصطلح الذي أنهك عند البوابة السورية، فالثنائي أردوغان/ أوغلو المحدودين بالتعليم الديني المحافظ والضيق، قد فهما ولو متأخرين أن الموضوع ليس بهذه السهولة، فهناك عراقيل كثيرة تقف أمام لعب تركيا دور الوكيل في سورية أو غير سوريا، منها علاقات أردوغان مع الرأسمال الروسي، وارتباط تركيا بالغاز الطبيعي الروسي والإيراني، إضافة إلى أن تدخلهما العسكري في سورية كان من الممكن لهكذا حماقة أن تُشعل حرباً كونية.
اليوم تركيا “الاردوغانية” تفقد بلدية اسطنبول في صراع انتخابي مرير تكرر مرتين أملا في عودة الزمام المنفلت من اليد “الأردوغانية ” لكن ظل منفلتاً وهي رسالة جديدة للعودة للمسار الذي قد يبدو للبيت الأبيض خروجاً عن النص أو مخالفة للسياق العام أو قفزاً غير محمود العواقب عن الدور المناط بتركيا، ولذلك حاول أردوغان سحب صلاحيات منح الرخص للشركات من بلدية المدينة التي خرجت الى يد معارضيه ولن ينجح في ذلك لكون الإجراء غير قانوني.
وبالعودة بالذاكرة قليلاً إلى الوراء ندرك كيف فشل تسويق مصطلح العثمانية الجديدة بعد أن أجتمع لفيف غير قليل من تنظيم الإخوان في تركيا وقيام رموزهم بمبايعة رجب طيب أردوغان خليفة للمسلمين وما يزال هذا التوجه سائدا في الخطاب الاعلامي لبعض فصائل الاخوان في بعض الأقطار.
وتركيا اليوم تقوم بدور حيوي وفاعل فهي تتواجد في جزيرة سواكن السودانية المطلة على البحر الأحمر وهي تكثف من حضورها في قطر ولها تواجدها في العراق وفي سوريا وما كان لها أن تلعب دوراً حيوياً وفاعلاً دون أن تثير سؤالاً ولو عابراً في الخطاب السياسي أو الإعلامي لو لم يكن هذا التحرك الفاعل يحظى بمباركة البيت الأبيض للقيام بدوره المرسوم، فالقضية تأتي في سياق مشروع كبير سوف نستبين علاماته في القريب العاجل، ولعل الواقع يبعث إشاراته اليوم لكن ثمة مكابر جبل على الجدل وطمس الحقائق يحاول حجب الشمس وهي ساطعة في كبد السماء .
غداً سوف يتحدث التاريخ عن حركة الإخوان التي كانت يداً ضاربة في تنفيذ أهداف الدراسات والاستراتيجيات الرامية إلى تفتيت الأمة العربية والإسلامية تدريجياً على أسس ما قبل الأمة والدولة الوطنية تسهيلاً للسيطرة عليها.
فأمريكا وصلت إلى مرحلة شيخوخة نظامها الرأسمالي الذي أصبح عاجزاً عن توفير احتياجات امبراطوريته، ولكي تواصل هيمنتها على العالم يجب أن تبقى مسيطرة على الموارد والمنافذ وخطوط الملاحة، وما لم تتشرذم الأمم وتتفاقم أزمتها البنيوية فلن تستطيع أمريكا الاستمرار في إدارة العالم.