الثورة / وكالات
أعادت «مليونية 30 يونيو» بدعوة من «تجمّع المهنيين السودانيين»، الذي قاد الاحتجاجات ضد الرئيس المعزول عمر البشير منذ ديسمبر 2018، المشهد في البلاد إلى نقطة البداية أمس. هذه المرة ضد «المجلس العسكري» الذي يسعى إلى كسر الثنائية بينه وبين قوى «إعلان الحرية والتغيير»، وفرض مرحلة انتقالية من طرف واحد، عبر التوافق مع قوى شاركت وظلت تدافع عن النظام البائد حتى سقوطه، بالإضافة إلى حركات مسلحة وقبائل، في إطار مبادرات إقليمية من سبيل التي قدمها جنوب السودان، للالتفاف على الوساطة المشتركة ــ الإثيوبية والإفريقية ــ المدعومة دولياً، ولا سيما أميركياً وأوروبياً.
ليس توجه المحتجين إلى القصر الجمهوري، ونزول المظاهرات في مختلف مدن البلاد، في الشمال والجنوب والشرق والغرب، والاستخدام المفرط للقوة، وحدها مظاهر العودة إلى مرحلة يفترض أن الجيش طواها بالانقلاب على البشير في 11 أبريل، لكن بدت أيضاً في محاولة العسكر احتواء الموقف بالدعوة إلى «اتفاق عاجل وشامل» مع «الحرية والتغيير» من جهة، وشدّ عصب قادة المعارضة بتبني «المليونية» بعدما سعى بعضهم في الأوان الأخير إلى التغريد خارج سرب «الحرية والتغيير»، مثل زعيم حزب «الأمة القومي» الصادق المهدي.
يقول القيادي في «الحرية والتغيير» أحمد ربيع، إن الحشود المليونية «كانت استفتاءً حقيقياً لمطالب الشعب في تكوين سلطة مدنية وتسليمها لقوى الحرية والتغيير»، في ظل سعي المجلس ـــ كما دأب البشير ـــ إلى إقصاء قادة الاحتجاجات بتكوين حاضنة سياسية من قوى تقليدية وإشراكها في السلطة تارةً، أو الدعوة إلى حوار سياسي ينتهي بوعود تبقى حبراً على ورق تارة أخرى. لكن الرسالة هذه المرة تبدو أقوى، في ظل تهديد المتظاهرين، وعسكرة العاصمة بسيارات الجيش وقوات «الدعم السريع» وعناصر الشرطة، وإغلاق الطرقات والجسور، وقطع خدمة الإنترنت. المسيرات أمس، وفق القيادي في حزب «البعث العربي الاشتراكي»، عضو «الحرية والتغيير»، محمد ضياء الدين، «رسالة واضحة إلى العسكر بأن لا خيار غير تسليم الحكم لسلطة مدنية»، وهو الأمر الذي أكده القيادي في «الحزب الشيوعي السوداني» عضو التحالف المعارض، صديق يوسف، الذي قال إن «الشباب خرجوا وفاءً للشهداء وتأكيداً لرغبتهم في إقامة سلطة مدنية»، لكنه أشار إلى أن «العسكري» لا يزال ماضياً في استخدام القوة المفرطة. وذكر يوسف أن «بعض المواكب التي انطلقت في العاصمة وبعض الولايات قوبلت بإطلاق الغاز المسيل للدموع من الأجهزة الأمنية»، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، في وقت استبق فيه العسكر ممارسات القمع قبل «المليونية» بالقول إن «الحرية والتغيير» مسؤولة عن «أي روح تزهق في المسيرة».
أياً يكن، أعادت مليونية الأحد الزخم إلى ورقة الشارع التي حاول «العسكري» إحراقها بمجزرة فضّ اعتصام القيادة العامة مطلع الشهر الماضي، حين قتل فيها، وفي الحملة التي تلتها، أكثر من مئة معتصم. كذلك فرضت على بعض قادة الاحتجاج التماشي مع رغبة الشارع المليء بالشباب غير المنتمي كما يؤكد مسؤولون في قوى «الحرية والتغيير». ومن هؤلاء (القادة) الصادق المهدي، المنضوي في التحالف المعارض، الذي كان قد رفض المسيرة حين دعا إليها «تجمع المهنيين»، باعتبار أنها تستبق موقف «العسكري» من المبادرة المشتركة. إذ أكد نائب رئيس «الأمة القومي»، اللواء فضل الله برمة ناصر، في تصريحات صحفية، أن «قوى الحرية والتغيير تناست خلافاتها من أجل التوصل إلى رؤية تقود إلى حلول يتجاوز عبرها السودان صعوبات الماضي».
وكما أجبرت المسيرة المليونية السابقة (الشهر الماضي) «العسكري» على استئناف المفاوضات ثنائياً مع تحالف «الحرية والتغيير» في الجولة الثانية، بناءً على «وثيقة دستورية» قدمتها على إثرها، تُبيّن رؤية الحراك للمرحلة الانتقالية، دفعت مسيرة أمس، الأكبر منذ بدء الاحتجاجات، المجلس إلى الدعوة لاستئناف المفاوضات، كما بدا في رده على المبادرة المشتركة الإثيوبية ـــ الإفريقية المقدمة قبل أيام، لكنه كما أعلن رئيس اللجنة السياسية، المتحدث الرسمي باسم المجلس، شمس الدين كباشي، طلب أن تكون على أساس مقترح «الاتحاد الإفريقي» الذي ينص على إلغاء الاتفاقات السابقة تماماً (وهي اتفاق حول «المجلس التشريعي»، تحصل فيه قوى «الحرية والتغيير» على الأغلبية بنسبة 67%، وآخر حول مدة المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات)، على أن تحصل قوى «الحرية والتغيير» على 50% من الحكومة والبرلمان الانتقاليين. أما عن «المجلس السيادي»، فتقترح أن يضم سبعة مدنيين وسبعة عسكريين آخرين، على أن يجري التوافق على شخصية مدنية ثامنة لترأس هذا التشكيل الذي يمثل رأس الدولة.
وليس معلوماً موقف «الحرية والتغيير» من «الإفريقية» بعدما وافق على «الإثيوبية» ثم «المشتركة»، لكن ذلك قد يتضح مع نيات المجلس، سواء بالعودة إلى المفاوضات، لخفض احتقان الشارع وفتح صفحة جديدة من المماطلة في تسليم السلطة، أو بالتراجع عن المبادرات التي تسمح بتوسيع مروحة التفاوض، من سبيل مبادرة جوبا، المدعومة مصرياً، التي تطالب بإشراك الحركات المسلحة في المرحلة الانتقالية بعد إبرام اتفاق «سلام». ويبدو الاحتمال الأول الأرجح بالنظر إلى وعد رئيس المجلس، عبد الفتاح البرهان، أول من أمس، خلال مهرجان شبابي، قال فيه إنهم سيصلون إلى «اتفاق سريع» مع «قوى الحرية والتغيير والأحزاب السياسية الثانية»، ما يعني أنه لا يزال مصراً على إشراك القوى السياسية الخارجة عن «إعلان الحرية والتغيير»، من سبيل تحالف «تنسيقية القوى الوطنية» الذي يضم سبع كتل سياسية داخلها 21 حزباً، و«الحزب الأهلي السوداني» الذي وحد زعماء الإدارات الأهلية في كيان سياسي، بمباركة نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، الذي أحلَّهم أخيراً محل «المجلس التشريعي»، لتفويض «العسكري» تشكيل الحكومة، بالإضافة إلى الحركات المسلحة التي شكل المجلس «لجنة عليا» بقيادة الأخير للتواصل معها في إطار مبادرة جوبا.