سجع المنثور .. وضوح الأسلوب والبعد عن الغموض

خليل المعلمي

تكمن أهمية التراث باعتباره الهوية المادية والضمنية التي يتركها الأسلاف للمجتمعات، وبه يتم التمييز بين مجتمع وآخر، وبهذا فإن تحقيق كتب التراث من أهم الأعمال الثقافية التنويرية التي توطِّن ثقافة الأمة وتاريخها بين أوساط الأجيال الحاضرة والتعريف بالحضارة العربية الإسلامية، وتاريخ اللغة والثقافة العربية.
وهناك الكثير من الأعلام الذين أثروا العربية بالكثير من المؤلفات المتنوعة في مختلف الفنون والمعارف الذين يستحقون تحقيق مؤلفاتهم وإعادة طباعتها والاهتمام بها، ومنهم “أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري”، الذي عاش خلال الفترة (350 – 429)هـ، كما يعتبر علماً من أعلام التراث العربي الإسلامي، فقد أحب العرب وأحب اللغة العربية، ومن أهم مؤلفاته “يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر”، “فقه اللغة وسر العربية”، “ثمار القلوب في المضاف والمنسوب”، “التمثيل والمحاضرة”، “الاقتباس من القرآن الكريم” و”الكناية والتعريض” وغيرها من كتبه المشهورة.
سجع المنثور
ولتعريف الأجيال الحالية المُحِبة للغة العربية بمؤلفات أبو منصور الثعالبي وجهوده العلمية يقدم لنا الدكتور أسامه البحيري دراسة وتحقيقاً لكتاب مهم من كتب الثعالبي التي لم تنشر من قبل وهو كتاب “سجع المنثور”.
وقد قسَّم الدكتور البحيري الكتاب إلى قسمين استعرض في القسم الأول حياة الثعالبي ومؤلفاته، وأصله ونسبه، فهو أبو منصور عبدالملك بن محمد بن أسماعيل الثعالبي النيسابوري، وقد اختلف المؤرخون في أصله هل هو عربي أم لا، إلا أن الكثيرين رجحوا أن أصله عربي.
ولد الثعالبي في نيسابور سنة 350هـ في أسرة فقيرة تشتغل بخياطة جلود الثعالب وعمل الفراء منها، ويبدو أنه قد انخرط في مهنة أسرته في بداية حياته، ومن ثم دفعت به أسرته إلى أحد كتاتيب نيسابور ليتأدب فيه ويتلقى مبادئ العلوم العربية والمعارف العامة، ولمَّا أنهي دراسته فارق مهنة أسرته، واشتغل بالتأديب وتعليم الصبيان ووجَّه نظره إلى الاستزادة من المعارف ولازم عدداً كبيراً من العلماء والأدباء والكتّاب وصحبهم فترات طويلة فتوسعت مداركه ونما محفوظه الأدبي واللغوي.
رحل الثعالبي إلى مدينة بخارى عاصمة الدولة السامانية، وقد استفاد من هذه الرحلة زاداً علمياً وفيراً، التقى بعلمائها وأدبائها، وأقام معهم علاقات وثيقة، وأورد ما أفاده من علمهم وأشعارهم في مؤلفاته المختلفة.
مؤلفات الثعالبي
يقول الدكتور أسامة البحيري إن الثعالبي قد عاش ما يقارب الثمانين عاماً، قضى معظمها في الدرس والتحصيل والترحال والتأليف، ورزق بسطة في تصنيف الكتب حتى تجاوز عددها مائة كتاب في العلوم اللغوية والأدبية والتاريخية والمعارف العامة، وقد خلَّف الثعالبي مؤلفات مهمة كان لها أثر كبير في ميدان التأليف العربي، مثل موسوعته الشعرية الشهيرة “يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر” التي ترجم فيها لمعظم البلاد الإسلامية ومن نبغ فيها من شعراء العروبة من الأندلس غرباً حتى أقصى الشرق من أقاليم إيران وما وراء النهر، وأصبح منهجه في “اليتيمة” و”تتمة اليتيمة” رائداً لكثير من المؤلفين الذين نسجوا على منواله.
وأشار المؤلف إلى أن الثعالبي قد تنبه إلى فائدة التخصص وأهميته في إضفاء المنهجية العلمية على مؤلفاته، فجاء معظمها موسوما بهذه الصفة المنهجية، كل كتاب يعالج موضوعاً محدداً مستقلاً، لا يستطرد إلى موضوع آخر إلاّ نادراً، كالكناية والتعريض وسجع المنثور وأجناس التجنيس والاقتباس من القرآن الكريم.
وأضاف: تميزت مؤلفات الثعالبي في مجملها بصغر الحجم، ووضوح الأسلوب وسهولة التراكيب والبعد عن الغموض والتعقيد، فكُتِبَ لها الذيوع والانتشار والشهرة المدوية في جميع الأقطار بين الخاصة والعامة على السواء.
وتطرق المؤلف إلى شهرة الثعالبي لدى المؤرخين العرب ولدى المستشرقين الأوروبيين، كما ازداد محققو كتب الثعالبي في العصر الحديث، واختتم القسم الأول من الكتاب بقائمة لمؤلفات الثعالبي المطبوعة منها والمخطوطة والمفقودة وآراء العلماء فيه وثنائهم وإعجابهم به.
تحقيق الكتاب
يتضمن القسم الثاني من الكتاب تحقيقاً لكتاب “سجع المنثور” الذي يقع في خمسة عشر باباً حسب تقسيم الثعالبي له، ويقول المؤلف إن الثعالبي قد قسَّم الباب الواحد إلى عدة فقرات تتكون كل فقرة من جمل نثرية مسجوعة، وختم كل فقرة بأبيات من الشعر تناسبها في المعنى وتكون بمثابة القفل لها.
وقد لخصَّ لنا الدكتور أسامة البحيري عدداً من النقاط الهامة في هذا الكتاب المحقق أوردها في التالي:
إن معظم مادة الكتاب مجموعة من المؤلفات التي سبقت الثعالبي، وقد صرح بذلك بنفسه في المقدمة، حيث قال: “جمعتها على اختصارها من كتب شتى لتعرفها، وألَّفتها بعد تفريقها لتحفظها وتعيها”.
يغلب على الثعالبي التأثر بكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وأورد فقرات كثيرة من رسائل البلغاء ومن كتبه الأخرى، وقد خصص الثعالبي باباً جعل عنوانه “باب السجع بـ”من” للفقرات المسجوعة المبدوءة بـ”من”.
تتمثل أهمية الكتاب في احتوائه على أمثلة جيدة للسجع البليغ والجُمل والفقرات المسجوعة منتقاة بعناية بالغة من أحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكلام الفصحاء، ورسائل البلغاء ولذلك يعد نموذجاً تطبيقياً جيداً، يمكن من خلاله دراسة السجع دراسة منهجية توضح أنواعه وأغراضه البلاغية والجمالية.
يحتوي الكتاب على خمسة وثمانين مثلاً عربياً ومولداً، وقد وفّق الثعالبي بينها فجاءت مسجوعة سجعاً رائعاً منسجماً، كما يضم شواهد شعرية تزيد على مائة وخمسين بيتاً بعضها لم يرد في الدواوين المطبوعة.
يعد كتاب “سجع المنثور” مزجاً ماهراً بين الكتابة الإبداعية الفنية وبين الكتابة الوظيفية التطبيقية، حيث جمع الثعالبي مادة كتابه من كتب المؤلفين ورسائل البلغاء السابقين عليه والمعاصرين له، وألَّف بينها عن طريق السجع لتبدو منسجمة، سهلة الحفظ، كثيرة الدوران على الألسنة، حاضرة في أذهان من يريد توظيفيها من فقرات رسائله من الكتّاب المبتدئين.
وللكتاب مخطوطة فريدة أصلها موجود في مكتبة أحمد الثالث بتركيا، كما توجد نسخة مصورة منها في معهد إحياء المخطوطات العربية في القاهرة، وهي التي اعتمد عليها المحقق في تحقيق الكتاب.

قد يعجبك ايضا