
للمكان ذاكرته التي تظل شاهدة على عصر من العصور وحدث من الأحداث التي كانت نقطة تحول في تاريخ رقعة جغرافية بما ومن عليها تدور الأحداث في مسرح ليس إلا (مكان) يظل شاهدا يروي كل ما دار هناك .
صنعاء المكان والمسرح الذي شهد ولادة يوم السادس والعشرين من سبتمبر كان لا بد من حيز في هذه المدينة يمثل نقطة الضوء الأولى التي ما لبثت أن أشعت أنوارها لتنذر بزوال ليل ظل يجثم على صدر الوطن عقودا من الزمان.
من ذلك المكان القابع في قلب صنعاء والمسمى »دار البشائر« انطلقت أول شرارة في تلك الليلة الوضاءة..
دار البشائر هو القصر الذي اتخذه الإمام البدر مقرا لإقامته ويقع إلى الغرب من ميدان التحرير في بداية شارع البونية الممتد من غرب ميدان التحرير إلى منطقة القاع عبر حارة البونية وهو أحد قصور الإمامة التي لا تزال شاهدة على عصرهم إلى يومنا هذا ومنها في صنعاء:
– دار البشائر- دار الشكر – دار السعادة – دار الحمد- دار الوصول- دار الحجر… وغيرها.
إلا أن أهم تلك القصور على الإطلاق هو دار البشائر وذلك لكونه المسرح الذي دارت فيه أحداث ليلة السادس والعشرين من سبتمبر الفارقة والتي كانت بمثابة أولى الخطى لطي سجل حكم الإمامة والإيذان بعصر جديد هو العصر الجمهوري.
البيعة
بعد إعلان وفاة الإمام أحمد رسميا في التاسع عشر من سبتمبر 1962 وإعلان البدر إماماٍ خلفا لأبيه في صنعاء واتخاذه من دار البشائر قصرا له منه يدير شؤون الدولة ويجتمع فيه بوزرائه ومستشاريه وقد توافد الكثير من مشائخ القبائل إلى صنعاء بهدف مبايعة الإمام الجديد وقبل توجههم إلى دار البشاير عقدوا اجتماعا موسعا تم فيه تحرير صيغة المبايعة مشفوعة بمطالب عامة لبناء المدارس والمستشفيات وتحسين أحوال البلاد في مختلف المجالات حيث التقوا في القصر بوزير الخارجية حسن إبراهيم الذي كان البدر قد كلفه باستقبال الناس واستلام البيعة منهم.
آخر اجتماع
كان ديوان المواجهة في دار البشاير هو المكان الذي يجتمع فيه البدر بوزرائه وقد كان آخر اجتماع له بهم هو الاجتماع الذي سبق انطلاق الثورة بساعات قليلة مساء الأربعاء الموافق 25 سبتمبر حيث كان البدر قد تلقى إنذارا من مؤامرة تحاك للإطاحة به وقد أورد ذلك سلطان ناجي في كتابه التاريخ العسكري لليمن 1839 – 1969 يقول: «كما يؤكد دانا شميث في كتابه «اليمن ذي أنون وور» «اليمن :الحرب المجهولة» ـ وقد استقى معلوماته من الجانبين الملكي والجمهوري ـ فإن السفير المصري في صنعاء آنذاك عبدالواحد الممسك بخيوط المجموعات الأربع كان هو الذي حذر البدر من وقوع الانقلاب قبل 24 ساعة من وقوعه الفعلي ! وكان البدر قد سبق أن حْذر تلغرافياٍ من قبل سفيره في لندن أحمد محمد الشامي وعندما وصل التلغراف إلى سكرتيره الخاص عبدالله الضبي تظاهر أنه لم يستطع أن يفك شفرته.
أما التحذير الثاني فقد جاءه من محمد عبدالله الشامي فقد أخبره البدر أنه قد استلم تقارير تقول أن بعض ضباط الجيش كانوا يعدون العدة لقتله.
إلا أن أهم تحذير جاءه قبل يوم فقط من عبدالواحد الذي قال إن معلوماته من المخابرات المصرية.. وقد حذر عبدالواحد الإمام من عبدالله السلال و15 ضابطاٍ بما فيهم علي عبدالمغني.
ولما أخبر البدر السلال بالأمر أكد له أنه ليس مشتركاٍ بأية خطة ضده.. فبالفعل لم يكن في منظمة علي عبدالمغني وإن كان يعرف عن وجودها ولكن ليس توقيتها. وحتى يزيل مخاوف البدر فقد طمأنه أنه لا يعتقد بصحة تآمر الضباط ضده. وفي الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الأربعاء 25 سبتمبر فرضت حالت الطوارئ في الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة وصدرت توجيهات من القيادة بتواجد جميع الضباط ومنع خروج أي ضابط من الكلية إلا من كلف من قبل القيادة بمهمة وانصرف الجميع كلَ إلى سلاحه لاستكمال التجهيزات النهائية وتعبئة الدبابات والسيارات بالوقود وتم الاتفاق على أن لا تفتح مستودعات الذخيرة إلا في وقت متأخر وكان لابد من التأكد من خروج الإمام البدر إلى ديوان المواجهة في قصر البشائر وتم تكليف النقيب حسين السكري لمعرفة ذلك وتم اللقاء بالسكري وأكد أن الإمام البدر قد خرج ليرأس اجتماعاٍ لمجلس وزرائه.
فشل السكري في اغتيال البدر
وفي الساعة الثامنة وبعد أن تحدد موعد التحرك في ليلة السادس والعشرين من سبتمبر أمرت القيادة بفتح مستودعات الذخائر والأسلحة الخفيفة وتوزيعها على الضباط كما تم نقل ذخائر الدبابات إلى موقع الدبابات في الفوج عن طريق أسطح ثكنات الكلية الحربية وفوج البدر وذلك من خلال منفذ صغير يؤدي إلى مقر قيادة الفوج وبعد أن تم إنجاز مهمة نقل الذخائر تقرر عقد اجتماع عام بمقر القيادة «الكلية الحربية» في الساعة التاسعة مساءٍ وبعد الكلمة التي ألقاها الملازم صالح علي الأشول في الاجتماع بدأ بإعلان المهام على الحاضرين وبعد أن تأكد كل عنصر من واجبه تحرك الجميع إلى مواقعهم في انتظار أوامر التحرك وفي الساعة العاشرة ليلاٍ كانت القوة في كل من قصر القيادة ومقر الفوج على أهبة الاستعداد للهجوم وكما هو متفق عليه فقد ظلت القيادة تنتظر سماع طلقات الرصاص وهي الإشارة التي تؤكد أن المهمة الأولى في الخطة قد أنجزت من قبل النقيب حسين السكري وهي القضاء على الإمام البدر بعد خروجه من مقر الاجتماع وبعد أن تأكد للقيادة تعثر مهمة النقيب السكري أصدرت أوامرها بالهجوم».
بدء الهجوم على دار البشائر
بدأ الهجوم على دار البشائر كما تفيد المصادر في الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة حيث بدأ القصف وذلك بعد أن انفض مجلس البدر مع بعض كبار رجال الدولة الساعة العاشرة والنصف من ذلك المساء.
وبحسب كتاب «الثورة اليمنية.. أسرار ووثائق» الصادر عن مؤسسة العفيف والذي أعدته لجنة من الضباط الأحرار فقد «كانت القوة المعدة للهجوم على دار البشائر تتكون من ست دبابات الدبابة الأولى كانت بقيادة الملازم عبدالله عبدالسلام صبره وعليها طاقمها ومجموعة اقتحام والثانية بقيادة الملازم محمد الشراعي وعليها طاقمها ومجموعة اقتحام أخرى والثالثة بقيادة الملازم عبدالله محسن المؤيد والرابعة بقيادة الملازم يحيى جحاف والخامسة بقيادة الملازم أحمد مطهر زيد والسادسة بقيادة الملازم عبده قائد ثم انضمت إلى القوة دبابة سابعة بقيادة الملازم عبدالكريم المنصور بعد منتصف الليل وإلى جانب الدبابات عدد من السيارات المدرعة بأسلحتها ومهمتها حماية تحرك الدبابات عند الهجوم على دار البشائر.
أحداث الهجوم
كان موقع دار البشاير محاطا بالمنازل كما أن الشوارع المؤدية إليه ضيقة ولا تساعد على التحرك السريع للدبابات ولما كانت حالة الطوارئ لا زالت قائمة في قصر الإمام البدر(دار البشاير) فقد استطاع الحرس الملكي أن يستخدم أغلب الأسلحة التي كانت جاهزة للاستخدام. وحينها ظهرت أول دبابة أمام مدخل القصر. فقام أفراد الحرس الملكي بإغلاق البوابة مباشرة وفْتحت نيران كثيفة من القصر على الدبابات المهاجمة بينما كانت نية الثوار تحاشي البدء في القصف حتى يتم تسليم إعلان الإنذار الموجه إلى الإمام البدر والنداء الموجه لأفراد الحرس الملكي اللذين كانت القيادة قد سلمتهما للملازم عبدالله صبرة.
وكان الغرض من توجيه الإنذار إلى البدر هو حقن الدماء ولهذا فقد طلبت القيادة من الإمام البدر في إنذارها أن يستسلم وأبدت استعدادها لترحيله على طائرة خاصة تنقله إلى أي مكان يريده خارج البلاد. كما طلبت القيادة في ندائها إلى الحرس أن يقف مع الثورة إلى جانب الجيش والشعب اللذين صمما على التخلص من حكم الإمامة.
أول طلقة
حاول الثوار مناداة الحرس الملكي عبر ميكرفون بعد أن اقتربت الدبابة الأولى من بوابة القصر إلا أن ذلك لم يكن مجديا خصوصا مع كثافة النيران التي كانت تنطلق من القصر وفي تلك اللحظة تم لأول مرة في اليمن استخدام الذخيرة الحية بمدافع الدبابات حيث انطلقت أول طلقة منها على دار البشائر حدث بعدها سكون وانطفأ التيار الكهربائي وغرقت المنطقة في ظلمة حالكة وبعد إطلاق أول قذيفة انتشرت الدبابات في مواقع متعددة حول القصر واستمر القصف بشكل متقطع حتى الصباح.
إعطاب أول دبابة
كان الملازم محمد الشراعي قائدا لإحدى الدبابات التي هاجمت دار البشاير وأثناء محاولته اقتحام ساحة القصر والدخول إليها علقت الدبابة نظرا لضيق المساحة التي كان يتحرك فيها ولم تعد الدبابة قادرة على التحرك تماماٍ لا التقدم إلى الأمام ولا التراجع إلا الخلف وعندها قام أحد خدامي الإمام وهو عبدالله طميم بصب دبة بنزين على الدبابة وإشعال النار فيها وقد احترقت الدبابة بمن فيها وهم: الملازم محمد الشراعي(قائد الدبابة) والملازم عبد الرحمن المحبشي والعريف أحمد العزكي.
سقوط دار البشاير
استمرت المقاومة الشديدة من دار البشاير حتى صباح يوم الخميس السادس والعشرين من سبتمبر 1962 الموافق السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر 1382هـ وكانت القوات المحيطة بالقصر والمحاصرة له قد أوقفت الضرب نسبيا اقتصادا في القوى كمبدأ من مبادئ الحرب مكتفية بتشديد الحصار على القصر ولربما خْيل للإمام ومن معه أن الذخيرة قد نفدت على الثوار أو تكاد تنفد ولكنه عند طلوع أول ضوء فوجئ بقصف مدفعي حاد أطار من رأسه كل أمل في النجاة.
إذ كانت اللجنة القيادية قد خصصت مدفعين ميدانيين عيار76مم مزودين بـ 24 قذيفة مهمتهما إسناد القوات المهاجمة بالنيران وتم تحريك هذين المدفعين إلى الموقع المحدد خلف جولة الشراعي حالياٍ إلا أنه تعذر على المدفعين الضرب أثناء الليل بسبب عدم الرؤية وازدحام المنازل حول دار البشائر ولكن حين بدأ الصباح يشع بأنواره قام الملازم محمد مطهر زيد بتوجيه أحد المدفعين وضبط آلة التنشين على موقع الرشاش الثقيل عيار 7/12 الذي كان يقذف بنيرانه على الثوار من سطح دار البشائر واستطاع بالطلقة الأولى أن يدمره وفي الطلقة الثانية أن يسكت المقاومة من الطابق العلوي للقصر وفي الطلقات الثالثة والرابعة والخامسة استطاع أن يدمر واجهة الطابق العلوي مما أحدث حرائق في القصر تصاعدت منها أعمدة الدخان لتغطي المنطقة واختفى القصر خلف الدخان الكثيف وبدأ أفراد الحرس الملكي يلتمسون النجاة وسمح لهم الثوار بمغادرة القصر بعد أن سلموا أسلحتهم. وبدأ بعض الطلاب والمواطنين يتجمهرون حول الدار ويستعدون لاقتحامه طمعا في الغنيمة إلا أن الثوار منعوهم من الدخول وفي تلك الأثناء ظهرت مقاومة طفيفة من دار الشكر إلا أنها ما لبثت أن أخمدت.
الهروب
تحت وطأة نيران الثوار التي تدك دار البشائر ضاقت الخيارات أمام البدر ولم يعد هناك من خيار سوى الاستسلام أو الهروب خاصة وأنه كان قد أرسل الملازم صالح العروسي إلى قيادة الثورة يخبرهم برغبته في التفاوض ولكن القيادة رفضت التفاوض معه ففكر في الهرب واستغل فرصة انشغال الثوار بالمقاومة الجديدة وبمنع الناس من اقتحام الدار فهرب هو ومن بقي معه من أقرب المقربين عبر البيوت الملاصقة لدار البشائر وخرجوا متنكرين بملابس أخفتهم تماماٍ حتى تمكنوا من الوصول إلى بيت يبعد عن القصر بضع مئات الأمتار ومن هناك انطلق البدر ومن معه باتجاه همدان وحين لم يجد فيها موطئ قدم اتجه نحو عمران ومنها ونتيجة لمطاردة الثوار له واصل هروبه حتى استطاع أن ينفذ بجلده إلى خارج البلاد.
مصادر
التاريخ العسكري لليمن – سلطان ناجي
الجيش والحركة الوطنية- اللواء الركن ناجي علي الأشول
الثورة اليمنية أسرار ووثائق- لجنة من تنظيم الضباط الأحرار