لأجل ثورة لا تجعل الماضي أمامها


استطلاع/صقر الصنيدي –
فهد سلطان : نحن بحاجة ماسة إلى التخلص من إرث الماضي البغيض بكل حمولته وتفاصيله
عبدالله الدهمشي : الثقافة الثورية المعاصرة المتجددة تقوم على التفاعلية المستمرة ومواكبة الجديد
حسن العديني : نحتاج إلى ثورة ثقافية أساسها التعليم لدك أسوار التخلف
بعد ثلاثين عاما من ثورتهم وجد الفرنسيون أنفسهم مرة أخرى تحت وطأة الحكم الملكي والدكتاتورية التي ثاروا عليها وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الخلاص منها , ولفترتين متباعدتين تربع ما ثاروا عليه مجددا على كرسي الحكم وأملى عليهم شروطه التي سمعوها قبل أن يحطموا قسوة سجن الباستيل , أدى صراع المصالح بين الثوار إلى نسيانهم المهمة الرئيسية التي لأجلها ضحوا , وكادوا يمارسون ذات الظلم الذي وقع عليهم ما جعل شعب فرنسا يتساءل عن جدوى دماء أبنائه بل وعن قيمة كل ما قام به ابتداء من يونيو 1798 ولم يتعاف ذلك البلد الأوروبي إلا حين عمد إلى ثقافة جديدة خطها جان جاك روسو في عقده الاجتماعي وغيره ممن حملوا مشاعل الفكر وقناديل الفكرة .
وإذا كانت الثورة هي عملية هدم وبناء كما يراها الأستاذ حسن العديني لاحقا في هذا الاستطلاع فإن من شروط اكتمالها ووصولها إلى غايتها أن تترك الماضي بكل ظلماته وتنظر إلى ما هو أبعد من اليوم ولا تكتفي بنشوة النصر الذي لن يقود إلا إلى الهزائم المتتالية.

ولن تظفر بهذا إلا عبر الثقافة الملبية لمطالب الإنسان وتطلعاته , ويعرف الكاتب حسن العديني الثقافة بأنها مدفعية تدق المجتمعات بواسطتها أسوار التخلف مستخدمة مخرجات الجامعات ومراكز البحث كذخائر ونحن في اليمن نحتاج إلى ثورة ثقافية باعتبارها قاعدة للثورة الوطنية .
ويعيد العديني تعريف الثقافة بأنها صناعة ثقيلة تحتاج إلى وقت طويل كي يكتمل بناء وجهها , بمعنى أننا نحتاج إلى هزة قوية في موروثنا الثقافي والاجتماعي والديني حتى نقيم ثقافة جديدة .
ويرى حسن العديني أنه لا يمكننا إحداث تنمية ثقافية مع وجود موروث اجتماعي متخلف لا يقدس العمل ويعلي من شأن المظاهر والظواهر العصبوية القبلية المشينة التي لا تعلي من شأن العلم والتقدم .
ولوضع أسس صحيحة للثورة الثقافية فإن البوابة تمر عبر العملية التعليمية التي تعد الأساس حسب العديني معددا الجهات المعنية بالعملية التعليمية وهي التربية والتعليم والتعليم العالي التي توازي خطواتها الثقافة والإعلام وإن كان دور الإعلام محوريا في تدمير القيم البالية السائدة في المجتمع فمثلا يفترض أن تنظر هذه الوسائل إلى من يقطع إشارة المرور باعتباره مخطئا يسير مضادا لمجتمعه وهو ما ينطبق على التصرفات غير المسؤولة الأخرى.
ويركز العديني على التعليم وهو البند الأول في التنمية ينطلق من إعادة النظر في المناهج بحيث يتم التركيز على التربية الوطنية والتاريخ لأننا نعلم أبناءنا حضارة سبأ ومعين كأسماء فقط دون أن يعرفوا الكثير عن أهم حضارات اليمنيين , من المخزي أن الطالب من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية لا يدرس الحضارة التي أقيمت في وطنه ويظل يتلقى دروساٍ منفصلة اغلبها دينية دون تعلم الحضارة العربية والإسلامية في سياقها الصحيح وارتباطها بالحضارات التي سبق اقامتها في اليمن القديم .
إعادة النظر بالمناهج يجب أن يشمل أيضاٍ الطريقة في التعلم بحيث ينتهي الاعتماد على التلقين الذي يصنع الجهل ويبدأ دفع الطالب إلى التفكير وطرح الأسئلة بما يحفز عقله نحو النقد , ويصاحب ذلك الاهتمام بتعليم الفنون كالرسم والموسيقى والتربية البدنية وجعل هذه المواد أساسية في اليوم الدراسي لتقوم بتنمية مواهب الطلاب وميولاتهم .
ثم ينتقل العديني للدور الذي يفترض أن تؤديه الثقافة بمختلف مؤسساتها ولن تكون الثقافة بحال جيد ما لم يكن هناك مكتبات في كل حي وكل حارة تمكن الناس من تثقيف أنفسهم والاطلاع على المعارف , وحتى تتم الصلة مع الحضارات الماضية يجب جعل المتاحف في كل مدينة بحيث يتمكن الجميع من رؤية الموروث القديم خاصة الطلاب الذين يجب على المدارس أن تلزمهم بالقيام بزيارات إلى المتاحف التي توفر حماية كاملة للآثار القديمة من السرقات .
ويضيف حسن العديني : من المفزع أن أي دولة متخلفة تمتلك على الأقل قاعة عرض سينمائي في عاصمتها وأن تكون صنعاء العاصمة تفتقر إلى دار سينمائي وهو أمر مخز فعلا يشير إلى عدم الاهتمام بالثقافة والفنون ويجعلنا نضع كل من تولى مسؤولية وزارة الثقافة منذ إنشائها أمام المساءلة عن أهم الانجازات التي تمت والتي تخدم التنمية الثقافية التي لا يمكن إحداثها بمعزل عن النهضة الوطنية الشاملة .
ملامح التجدد في الثقافة الثورية
ويبدأ الكاتب والباحث عبدالله محمد الدهمشي بذكر أهم السمات التي تميز الثقافة الثورية ويقول أن الثقافة الثورية تحديداٍ تتسم بالتجدد والتطور باعتبارها مضموناٍ متحركاٍ في الواقع من الماضي إلى المستقبل , وبهذه الحركية تكتسب تجددها في المضمون والموضوع والأسلوب , لكنها بصفتها منتجاٍ إنسانياٍ يتكون بالتفاعل المتبادل بين الإنسان ومعارفه وعصره, عرضة للجمود والسكون , وبالتالي تكون خارج حركة الواقع والعصر.
الثقافة الثورية في تاريخ اليمن المعاصر , كانت متجددة باستمرار لأنها احتفظت بسمتها التفاعلية مع الواقع والعصر , فابتدأت من مطلب الإصلاح لتتحرك به في الواقع نحو الثورة الدستورية في الشمال عام 1948م ونحو التعددية الحزبية والانتخابات في الجنوب مطلع خمسينيات القرن المنصرم , واستمرت هذه الثقافة محتفظة بحيويتها المتفاعلة مع مستجدات محيطها العربي والعالم المعاصر , لتصل بتجددها الثوري المتحرك إلى التغيير الجذري , ولترسم به الثورة اليمنية المتمسكة بالخلاص من تسلط الملك الوراثي في حكم الإمامة , ومن تسلط الاحتلال البريطاني , فكانت ثورة سبتمبر متجددة بثقافة الجمهورية عام 1962م كما كانت ثورة أكتوبر متجددة بالكفاح المسلح والعمل الجبهوي عام 1963م.
ويضيف الدهمشي :حافظت الثقافة الثورية في اليمن , بعد الجمهورية , على حيويتها المتفاعلة مع الأحداث والعصر , لتحقق تغييرات ثورية ومكاسب متجددة , انتهت بها إلى إبداع التوحد الوطني بجديد التحول الديمقراطي , وهو مسار رغم انتكاسته بالأزمة والحرب , إلا أنه واصل تجدده وتناميه المتفاعل مع تطورات العصر وتقدمه العلمي والتقني , واستطاع أن يكون , بالتراكم والتجدد , ثقافة جديدة , تجسدت بالواقع الاجتماعي بالمنظمات المدنية المنفتحة على ثقافة الحريات وحقوق الإنسان وقضايا النوع والعدالة , لتتوج مسارها النضالي الجديد , بالنضال السلمي والحراك الاحتجاجي الذي انتصر لقضايا الحريات الصحفية والمدنية , واتجه نحو الجماهيرية في العالم 2007م , مدشناٍ عصر الحراك الجماهيري السلمي الذي ابتدأ جنوبياٍ بخصوصية القضية الجنوبية , ثم توسع شمالاٍ وجنوباٍ مطالباٍ بالتغيير في العام 2011م.
ويتحدث عبدالله الدهمشي عن المسار التاريخي الموجز للثقافة الثورية في اليمن التي تبرز عدة ملامح دالة على ضرورة بناء الثقافة الثورية بناءٍ تجديدياٍ يتحقق إذا وإذا فقط ,حافظ المثقفون على التفاعلية المستمرة , وواكبوا بها الجديد والمستجد من المعارف والتحولات في الواقع والعصر , خصوصاٍ ما جاء به ما يسمى ” الربيع العربي ” من عودة فاعلة وحاسمة للجماهير وحركتها المؤثرة بقوة وجذرية على الواقع ومتطلبات تغييره نحو الأفضل .
تبدو أيضاٍ ضرورة تجديد الثقافة الثورية , حتماٍ مقضياٍ بجديد العلم وتقنياته الاتصالية , فهذه التطورات في آلية التثاقف ووسائله المحدودة والمفتوحة , لا تفرض فقط تجديد الأسلوب والوسيلة وإنما تجديد الموضوع والمضمون , وتجديد التفاعلية المشروطة , للتراكم والإضافة وللتجديد والإبداع , وأول ما يستدعي تجدده وتجديده في الثقافة الثورية هو . علم تغيير الواقع , أي فكر التغيير ووسائله , انطلاقاٍ من التعددية الحاضرة في فضاء التثاقف والمتاحة لكل جماعة متميزة بخصوصيتها الثقافية , لساناٍ وديناٍ , وواقعاٍ وتاريخاٍ , وفي المقدمة منها التعددية الدينية والتنوع الطائفي والمذهبي , وما يتصل بهذه الخارطة من اختلافات سياسية ومصالح خاصة وعامة .
في الضرورة الراهنة لتجديد الثقافة الثورية , تبرز الحاجة إلى ثقافة الاعتراف بالاختلاف , والقبول بالآخر , والاحترام المتبادل بين مكونات الثقافة الوطنية عموماٍ والثقافة الثورية تحديداٍ , ولهذا أرى أن ملامح التجدد في الثقافة الثورية , تظهر في الحاجة إلى , والمصلحة من , ثقافة التسامح والتعايش والحوار . وكذلك في الخروج من عصبيات الماضي وانغلاقه على الذات المتضخمة باستعلائها على الغير , وتحقيرها للمخالف , وإقصائها لوجوده وإلغائها لحقه بالتكفير أو التخوين أو التجريم .
ويضيف الدهمشي. لا شك أن تجدد الثقافة الثورية في اليمن يمتد إلى الواقع المعيش بما يتطلبه من ضرورات التحول إلى دولة مدنية ومجتمعها وما يتصل بهذا المطلب من قضايا المواطنة والتمكين السياسي للنساء والمهمشين , وتنمية الوعي الديمقراطي ونشر ثقافته القيمية والمؤسسية على مستوى النخب والجماهير .
ويختم رؤيته بالقول انه يستدعي تجدد الثقافة الثورية , إرادة واعية بأهمية هذا التجدد ومدركة لعوامل إعاقته وإخماد حركته في الوعي والواقع , وأهم هذه العوامل , الانغلاق الايديولوجي , والتعبئة الحزبية ,والارتهان للتمويل والممول , فالثقافة ,والثقافة الثورية تحديداٍ , تتجاوز الأطر الايديولوجية , والحزبية , وتفرض نفسها على مصلحة المستثمر , بكونها صناعة العصر وأهم مجالات الاستثمار المعاصر , للدول والهيئات كما للجماعات والأفراد .
الحرية شرط التجدد الثقافي ,ونحن لم نهمل الحديث عنها هنا , لأن هذه الحرية تجاوزت قيود المنع وحدود القمع , وأدوات السيطرة والمصادرة , لذلك تبقى الحرية هنا رهنا بممارستها للإبداع والتجدد الثقافي.
فعل تراكمي
أما الكاتب والباحث في القضايا الإسلامية فهد سلطان فيعرف الثقافة كونها فعلاٍ تراكمياٍ يستفيد من الماضي ولكنه يمتد إلى المستقبل , بحاجة ماسة اليوم إلى أن نتخلص من إرث الماضي البغيض بكل حمولته وتفاصيله , فهناك إرث ثقافي وفكري وديني وآيدلوجي وسياسي واجتماعي , هو الكابح أمام أي تقدم نهضوي حقيقي, الثقافة الثورية هي الاندفاع إلى الأمام وما نحمله يحتاج ليس إلى ثورة ولكن إلى ثورات , بحاجة اليوم إلى أن نعزز جانب النقد والقراءة الواعية والمراجعة على انتاجنا السياسي والاجتماعي والفكري على المدى القريب وعلى مراجعة شاملة لتراثنا الفكري الذي يظل الحاضن الكبير لكثير من ثقافتنا البطيئة والسلبية ليس كل ولكن الكثير منه والذي لم يعد يناسب العصر .
ويتحدث سلطان عن وجود شيئين ما إن يجتمعا لدينا إلا ويسببان لنا الدمار ويقول: في اليمن نحن وقعنا بين شيئين ما إن تجتمع إلا وتهلك وتدمر وهو الإنشداد إلى الماضي والتأثر بالمجاور , فهناك تأثر شديد إلى الماضي كما يؤكد ذلك عدد من الجماعات الدينية وعندنا تأثر من الجوار وهذا على مستوى الأحزاب السياسية وعلى مستوى الجماعات الدينية أيضاٍ .
ما أفقدنا التعامل مع واقعنا وإنتاج فكر وهوية تعكس عمق اليمن وحضارته , يمكن أن يكون لنا ماض نستخلص منه العبر ولكن أن يتحول هذا الماضي إلى قائد للمستقبل هذه هي الكارثة وهذا هو الواقع الذي نعيشه , كما أن التأثر السريع بالخارج ومحاولة انتاجه في الواقع هو كذلك آفة , المشكلة في الإسقاط بكل ما فيه وليس من العيب أن نستفيد .. ومن هنا فإن ضرورة استخراج ثقافة ثورية جديدة حاجة تفرضها روح العصر , وبغيرها سوف نعيش على الهامش وقد سرنا على ذلك زمناٍ طويلاٍ.
ماض نريد الانعتاق منه
أما الكاتب مصطفى عبدالحميد فيرى أن جعل الثقافة الثورية الجديدة مستقلة عن إعتاق الماضي فلابد أن يمتلك المجتمع رؤية ورغبة وطموحاٍ في تجاوز الماضي وجعله ماضيا فعلا أما أن يبقى البعض ممسكين بكل ما هو تقليدي على مساواة فهذا معناه وجود حنين إلى الأمس المتخلف ووجود من يطلب العودة إليه ولا يواجهه إدراك الجميع بخطورة المطلب لأن الجيل الحالي مثلا يجهل تماما الصورة القاتمة للماضي ووجه التخلف الذي كان سائدا للبلاد بطولها وعرضها .
ويضع عبدالحميد خارطة للخروج من رواسب الماضي أهم بنودها خلق الوعي عند الناس عبر الوسائل العلمية والإعلامية ونقد ذلك الماضي عبر تحسين الحاضر وخلق التفاؤل والاهتمام بتوفير ما كان محروما في الماضي أو محصورا بين فئة معينة للكل حسب الكفاءة وليس حسب المحاباة وهو ما سيجعلنا نتخلص من كل ماضي فالإنسان لا يحن إلى الماضي إلا إذا كان الحاضر أسوأ أما إذا كان الحاضر أفضل فسيتمسك به الجميع وسيرون أنهم بالفعل كانوا ضحايا للتخلف والجهل .
ويقول عبدالحميد أن من بين أسباب الاحباطات التي قد تصيب المجتمع والافراد وتجعلهم يخشون من التقدم نحو المستقبل هو النماذج السيئة لمن يحملهم إليهم الحاضر كنماذج لصناع الغد خاصة أنهم يشاهدونهم وقد انكبوا على الصراع من اجل مصالحهم الضيقة التي توسعت وربما أصبحت اكبر من مصالح الماضي الذي نريد الانعتاق منه .

قد يعجبك ايضا