
> ثوار يخططون وآخرون ينفذون .. وأمسيات ومنتديات ثقافية ثورية أوجدت حراكاٍ ثورياٍ مبكراٍ
ارتبطت حارة السور بالحديدة بالحركة الثورية منذ وقت مبكر .. فمنذ ثلاثينيات القرن المنصرم قطن فيها العديد من الأسماء اللامعة في سماء الثورة اليمنية سبتمبر .. كما أن بيوتها الأثرية كانت تتزاحم بالخلايا الثورية من داخل المحافظة أو من الثوار القادمين إليها من المحافظات الأخرى والذين كانوا يمارسون نشاطهم الثوري ويتدارسون خططهم الثورية في هذه المنطقة .. واليوم ما تزال تلك البيوتات الثائرة شاهدة تحكي لك عن الأيام الأولى للثورة اليمنية سبتمبر وعن تلك التضحيات التي قدمها أبناء هذه المنطقة في تلك الفترة التاريخية من الزمن .. لم ينس أبناء حارة السور آباءهم الثوار الذين كانوا يعقدون لقاءاتهم الثورية في تلك البيوت الأثرية .. فهنا تم محاصرة العلفي بعد محاولة اغتيال الإمام أحمد وفيها عقدت المنتديات والأمسيات الثقافية الثورية.. وفيها أيضا خطط لمواجهة الحكم الإمامي وهنا لاذ ثوار جنوبيون بإخوانهم .. فكان من هذه المنطقة الشهداء والمناضلون والشعراء والأدباء الذين أسهموا في التحول من الحكم الإمامي إلى النظام الجمهوري فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ..
في منطقة محاطة بسور عليها من كل اتجاه عرفت مدينة الحديدة والتي كانت تسمى في ذلك الحين حارة السور وفيها كان يسكن أغلب سكان مدينة الحديدة .. في هذه المنطقة والتي أسست قبل ما يربو على 700 عام العديد من السياسيين والتجار والمفكرين وكان مركزا اقتصاديا يقدم إليها العديد من رجال الأعمال من دول شرق آسيا كالهند وباكستان وأندونيسيا وغيرها من البلدان.
سميت حارة السور بهذا الاسم كونها محاطة بسور من كل الاتجاهات ولها أربع أبواب وهي ( باب مشرف والذي ما يزال موجودا إلى الآن وباب الجمرك وباب البحر ( وقد تهدم ) وباب النخيل ) كان في فترة الحكم العثماني مركزاٍ رسمياٍ للمكاتب التابعة للحكم العثماني بما عرف بالمتصرفية التركية ..
ما تزال منطقة السور برغم ما أصابها من تهدم وأضرار صادمة في وجه الزمان .. وما تزال مبانيها شاهدة على حقب تاريخية مهمة .. ففي هذه المنطقة كانت أول مدرسة نظامية تم تعليم الطلاب فيها الذين ألزموا بالزي الموحد في عشرينيات القرن المنصرم .. وفي أول بنك في الجزيرة العربية بما عرف في حينها بالبنك البريطاني ثم تحول إلى البنك الفرنسي ثم أصبح أول بنك يمني بعد الثورة اليمنية سبتمبر ..
كما كانت حارة السور موطناٍ للتجار القادمين إليها من الهند وباكستان حتى جعل لهم شارع خاص في حارة السور سمي بسوق الهنود والبينيان .. ففي بدايات القرن الماضي سبب قربها من الميناء البحري إلى أن تحولت هذه المنطقة إلى مجمع تجاري للعديد من الأسواق فكان فيها سوق العطارين وهو سوق يباع فيه ( اللبن والهرد والهيل والقرفة والكمون والفلفل ) وسوق آخر للبضائع وفيه يباع ( القطن والحبوب) إضافة إلى سوق الحوك والذي كانت تباع فيه المصنوعات الحرفية التقليدية مثل ( الالحفة – والأقمشة الحوكي إضافة إلى المصنوعات اليدوية ).
كما أن المنطقة كان يتم فيها المزاد العلني للبضائع الكبيرة والتي يتم تصديرها فيما بعد إما لليمن أو لدول الخليج خاصة تلك البضائع الآتية من الهند وجنوب شرق آسيا وأسواق أخرى مثل سوق الصرافين والتي كان يتم فيها شراء العملة وسوق سكة الخياطة .. كما برز في المنطقة سوق تجار من غير اليمنيين استوطنوا المنطقة نظرا لأهميتها مثل التاجر اليهودي ( حبشوش ) والشركة اليونانية والتي كان يديرها ( رولاتو – وجوتلي هنكي ) وهما يونانيان إضافة إلى رجل الأعمال الفرنسي ( البس ).
ناهيك عن أن التجار الهنود جعلوا من أحد شوارع منطقة السور بالحديدة سوقاٍ تجاريا لهم ما يزال يعرف اليوم باسم سوق البينيان .. وفيه كان التجار الهنود مسلمين وهندوساٍ يقومون باستجلاب البضائع من الهند والإتيان بها إلى اليمن تنزل بمنطقة ( حارة السور ) ومن ثم يتم إرسالها إلى دول أخرى ..
حارة السور أيضاٍ بنيت فيها أول مدرسة أسسها مدرس فلسطيني عمد على أن يلتزم الطلاب فيها بالزي الرسمي.
بدايات مبكرة
كانت حارة أو منطقة السور محطة للثائرين منذ بدايات القرن المنصرم ففي العام 1918 م ضربت مدافع القوات البريطانية التي كانت ترسو في البحر منازل المواطنين في منطقة السور بحجة وجود مقاومين في هذه المنطقة وعلى رأسهم الثائر ( أحمد باشا الشراعي ) والذي أصبح فيما بعد رئيس المجلس البلدي في ذلك الحين ..
كما أصبحت حارة السور منطقة يلوذ فيها الثائرون على الظلم في بعض المناطق كما هو الحال مع الأديب والشاعر الثائر مقبول الصيقل ( والد الثائر السبتمبري ) عبد الله الصيقل والذي لاذ إلى منطقة السور في ثلاثينيات القرن المنصرم بعد أن اصطدم مع المشائخ الظلمة في منطقة اللحية شمال مدينة الحديدة .. وكان يعرف عن الرجل بأنه عالم وفقيه وصدرت له العديد من المؤلفات من بينها كتاب فضائل ليلة النصف من شعبان وغيره.
وهكذا أصبحت ( السور ) موطناٍ للثوار اليمنيين الذين يتوجهون إليها من كل أصقاع اليمن سواء للتواصل مع الثوار الموجودين فيها أو لإيصال الرسائل الثورية أو بهدف الترتيب والتخطيط .. فالعديد من رموز ثورة 1948م كانوا يقطنون في حارة السور في الحديدة وما تزال بيوتهم شاهدة وموجودة إلى الآن كما هو الحال مع الشهيد الخادم الوجيه والذي كان أحد رموز ثورة 48م وعمل على التحرك من مسقط رأسه في منطقة السور لإقناع العديدين بثورة 1948م حيث يحكي عنه العديد من الرموز التاريخية أن الخادم الوجيه كان أكثر الداعمين ماليا للعمل الثوري وللثوار منذ ثلاثينيات القرن المنصرم … كما كان في هذه المنطقة المناضل مقبول الصيقل والذي كان حلقة الوصل بين الثوار الشماليين والجنوبيين وكان معنياٍ كما تقول بعض المذكرات بالتنسيق الثوري بين كل الجهات ( وهذا ما ذكره المرحوم الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ) كما أن المناضل يوسف هبه كان حاضرا أيضا في ثورة 1948م عبر كتاباته الثورية ومشاركاته التخطيطية .. وغيرهم من الثوار الذي كانوا حاضرين في تلك البدايات الثورية ..
تمهيد لسبتمبر
*وفي خمسينيات القرن المنصرم ضاعف الثوار من نشاطهم الثوري عبر العديد من الأنشطة سواء منها ( الاجتماعات أو توزيع المنشورات أو إقامة الفعاليات الثقافية والفكرية .. أو ما يتعلق منها بالإعداد التجهز للموعد القريب ) وكان أغلب تلك الأعمال تقام في حارة السور كما يذكر ذلك الثائر المناضل الكابتن محمد عزي صالح ( أحد مناضلي 26 سبتمبر ) والذي أكد ان العديد من الاجتماعات الثورية كانت تعقد في بعض المنازل في حارة السور وخاصة منزل المناضل السبتمبري عبد الله الصيقل والذي كان يعد بمثابة الأب الروحي للثوار وقال الأستاذ محمد عزي صالح: ما زلت أتذكر تلك الاجتماعات التي كنا نعقدها بحضور كل من الإخوة محمد محسن الحيدري ( رئيس الخلية ) وعبد الله الصيقل ومحمد الجفري وعبده حبيلي وعلي الكستبان ( وهذا كان معنياٍ بإحضار وتوزيع المنشورات ) وبدر الجيلاني وكانت حارة السور بمثابة المأوى للثوار .. فالعديد من تلك البيوت كانت مأمونة وأهلها معروفون ..
وفي هذه المنطقة أيضاٍ برز اسم المناضل عبد الله الصيقل نجل المناضل مقبول الصيقل حيث نشأ وتربى وتعلم الأستاذ عبد الله الحرية منذ نعومة أظفاره وهكذا التحق بالخلايا الثورية في وقت مبكر وكان أحد أبرز أعمدتها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم .. عمل على استقبال المناضل عبد الله باذيب (الجنوبي) وأخيه علي باذيب وإبقائهما في حارة السور بالحديدة .. بدأ الكتابة منذ وقت مبكر في صحيفة الطليعة الصادرة من 1958م إلى 1968 م وكانت له كتابات تدعو إلى التحرر والتهيئة للثورة القريب أوانها ..
وفي هذه المنطقة نشأ وترعرع المناضل الكبير الأستاذ يوسف الشحاري أحد أبرز أعضاء حركة الضباط الأحرار التي أسست قبيل الثورة .. حيث عمد الشحاري- بعد عودته من الدراسة العسكرية في كلية الشرطة- إلى البدء في تنظيم الشباب من أبناء الحديدة في خلايا الضباط الأحرار والخلايا الثورية والتي كانت غالباٍ تعقد في حارة السور.. ومع اقتراب إعلان الثورة كلف المناضل يوسف الشحاري مع رفقاء نضاله من قبل القيادة العامة في صنعاء بالعديد من المهام العسكرية كان من بينها تكليف الشحاري والخلايا الثورية التي كانت منعقدة بشكل دائم في منزله في حارة السور بالمهام التالية ( القبض على نائب الإمام في الحديدة وأعوان الحكم الإمامي في كل مناطق اللواء السيطرة على الميناء من قبل عناصر التنظيم بالحديدة وضع قوة متحركة في الطريق بين الحديدة وصنعاء وضع قوة احتياطية تبقى على أهبة الاستعداد في الشريط الساحلي ..وقد تولى الشحاري مع رفقاء دربه من أبناء حارة السور أمثال علي سعيد عبادي والسايس وعثمان عميرة ويحيى علانه وغيرهم من الخلايا الثورية من أبناء حارة السور ..
جامع المراهين :
* وفي حارة السور أيضاٍ يوجد الجامع القديم الذي أطلق عليه جامع المراهين بسبب أن الإمام كان يجعله للمسجونين يؤدون فيه صلواتهم بعد المحاكمات من قبل الإمام والتي كانت غالبا ما تحصل في إحدى القلاع التاريخية القريبة من هذا الجامع .. يقول العديد من الثوار الذين التقينا بهم أن اختيار الإمام لهذا الجامع ليؤدي فيه المساجين صلواتهم- وهو في منطقة محسوبة على الثوار- يهدف من خلال هذا إلى زرع الخوف في أوساط الثوار الذين ينظرون إلى زملائهم في المسجد وقد حكم عليهم بمحكوميات وبعضهم يؤدي الصلاة ليتم أخذه إلى الإعدام أو إلى سجون حجه المخيفة التي كان الثوار المناوئون يرسل بهم للسجن فيها ..
ملاذ الشجعان
ومما يؤكد على أن حارة السور كانت هي المنطقة التي تدير العمليات الثورية المهمة وفيها يجتمع الثوار والمناضلون ممن أوجدوا تحولاٍ حقيقياٍ في حياة الوطن .. يؤكد شهود العيان من الثوار والذين عايشوا اللحظات الاولى من الثورة اليمنية وبالتحديد في عملية محاولة اغتيال الإمام أحمد والتي وقعت في مستشفى العلفي بالحديدة من قبل الثوار العلفي والهندوانة واللقية والحيدري والمقدمي ( مدير المستشفى الذي سهل عملية محاولة الاغتيال ).
يقول عبد الله الكولي مدير مكتب السياحة بالحديدة- ويعد أحد المعنيين بالتاريخ الثوري ( أن الثوار الذين خططوا لقتل الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين في المستشفى العلفي ( سابقا ) بعد أن أخبروه في وقت متأخر من المساء أن سائقه في حالة خطرة مما اضطر الإمام إلى زيارته إلا أن الثوار ( العلفي واللقيه والهندوانة ) كانوا على استعداد لتنفيذ عملية الاغتيال التي لم يكتب لها النجاح .. ظن العلفي أن الإمام قد قتل إلا أن العملية لم يكتب لها النجاح مما اضطره للهرب إلى بيت الرصاص والرصاص كما يقول الأستاذ عبد الله الكولي من أبناء حارة السور ومن الشخصيات التي انضمت إلى الخلايا الثورية منذ وقت مبكر .. وكان بيت الرصاص هو أحد البيوت التي تجتمع فيها الخلايا الثورية لتنفيذ الأعمال الثورية ولعل العلفي أراد أن يلقي التمام العسكري للعملية إلا أن منزل الرصاص الواقع في حارة السور تمت مفاجأته بمجاميع مسلحة تابعة للإمام تحاصره وحينها رفض العلفي الخروج من المنزل وحينها وجهت الأوامر للأهنومي الضرب بالمدفعية على بيوت المنطقة إلا أن الأهنومي والذي كان من أبناء الحديدة رفض التوجيهات بحجة أن المنطقة مكتظة بالنساء والأطفال جاءت بعد ذلك قوة عسكرية كبيرة لتنفذ عملية الاقتحام إلا أن العلفي كان قد ضحى بنفسه من أجل إنقاذ حارة السور ..
استراحة الأبطال
كما أن حارة السور ومن فيها من الثوار الذين كان يعرف عنهم تواصلهم مع الخلايا الثورية في عموم البلاد كانوا يعملون على استقبال الثوار من غير أبناء المحافظة الذين يتم الإفراج عنهم من سجون الإمام في حجه كما هو الحال في الاستقبال المهيب والضيافة الكبيرة التي أقيمت على شرف الشيخ عبد الله بن حسين الاحمر الذي أفرج عنه من سجون الإمام في حجه وتم الترحيب به في حارة السور في منزل المناضل عبد الله الصيقل وأقيمت على شرفه مواد الغداء المتعددة .. كما ذكر ذلك الشيخ عبد الله في مذكراته وكما حكاها المناضل عبد الله الصيقل وغيره من الثوار الذين عايشوا تلك الفترة ..
قهوة التركي
* وفي الحارة أيضاٍ كانت تقام العديد من الفعاليات الثورية الثقافية والسياسية والتي كانت غالبا ما تعقد في قهوة التركي الواقعة في أطراف حارة السور وهي من القهاوي الموجودة الى الآن .. حيث يحكي الأستاذ محمد عزي صالح وهو أحد الثوار الذين ما زالوا على قيد الحياة- أن قهوة التركي كانت منتدى ثقافياٍ تلقى فيها القصائد الثورية والحماسية والمبشرة بالمستقبل القريب ..
ويضيف الأستاذ عبدالله الكولي: لقد كان الشعراء من أبناء تهامة يجتمعون في قهوة التركي بهدف الترويح عن أنفسهم وعمل الأمسيات الثقافية والسياسية ويعمدون إلى توزيع المنشورات والصحف التي تأتي من تعز وصنعاء في عدن في تلك القهوة ومن ثم يعمدون إلى الاستقطاب الثوري من الأفراد الذين كان يتواجدون في تلك القهوة للاستماع لتلك السجالات الشعرية والأطروحات السياسية والفكرية ..
كما كان هناك وفي نفس المنطقة منتدى آخر لكنه أقل ازدحاماٍ من قهوة التركي هذا المكان هو دكان الزبيدي وهو عبارة عن دكان يحتوي على فناء أو صالة يجتمع فيها الثوار غالبا في المساء بهدف الترويح عن أنفسهم وإقامة الحفلات والندوات الثقافية بشكل يومي ..
وغير تلك القهوة ودكان الزبيدي العديد من الأماكن والمنازل التي تحولت إلى منتديات ثقافية خاصة وأن أغلب تلك الخلايا الثورية كانت من المثقفين والشعراء والأدباء أمثال الأستاذ يوسف الشحاري وعبد الله الصيقل وأبكر بيروه وغيرهم من مثقفي وشعراء وأدباء هذه المنطقة ..
كل تلك الفعاليات استطاع الثوار الاستفادة منها في نشر الوعي والثقافة بما أنتج بعد ذلك من وجود وعي جمعي عند شرائح وأفراد كثير من أبناء الحديدة ..
وفي نهاية المطاف ستظل حارة السور شاهدة على تلك الحقبة التاريخية من الزمان وعلى رجال نذروا أنفسهم للوطن وقدموا أنفسهم وأوقاتهم رخيصة من أجل الوطن.
وحالياٍ تحتاج حارة السور الى لفتة من قبل الجهات المعنية للحفاظ على منازلها الاثرية التي باتت مهددة بالتهدم والتساقط بفعل الزمن أو بفعل الاستحداثات التي تطالها من قبل البعض.