
> كان الأسبوع الأول في حياة رئيس الجمهورية بعد انتخابه مليئاٍ بالأحداث والمشاكل والمصاعب التي بدأت في الجبهات العسكرية التي بلغت فيما بعد 42 جبهة حتى أنه ظل لمدة أسابيع مقيماٍ في مبنى قيادة الثورة “الكلية الحربية” لم ير أفراد أسرته أو يتناول وجبات الغداء والعشاء والفطار إلا مع ضباط الثورة وظل في مكتبه في الكلية يجهز الحملات العسكرية إلى المناطق التي انضمت مع القوى الملكية ويخطب في كل المناسبات الرسمية حتى أننا كنا نسميه جهاز الإعلام المتنقل لأنه في كل خطاباته يوعي أبناء الشعب بمعنى النظام الجمهوري ويفضح النظام الملكي بكل عفونته وتخلفه لأن المواطنين كانوا يعتقدون أن النظام الجمهوري عبارة عن امرأة ستحكم اليمن والثورة قام بها مجموعة من الزنادقة والكفرة والشيوعيين الذين لا يعرفون الصلاة ولا صلة لهم بالإسلام وكانت آلية البداية هي مواجهة الهجمات الشرسة الممولة من السعودية وشارك فيها الجيش الأردني والإيراني وبعد ذلك الاسرائيليون ولقد كان إقبال أبناء الشعب اليمني في شماله وجنوبه يمثل بداية الانطلاق للمواجهة مع مشاركة الجيشين النظامي والدفاعي والقوات الشعبية القبلية حتى وصلت القوات المصرية من جيش مصر عبدالناصر فكانت الرافد الأكبر للقوات اليمنية بحيث تحولت المعارك من انتصارات مؤقتة للملكيين إلى انتصارات كبيرة للقوات الجمهورية وفتحت الطرقات وتقدمت القوات الجمهورية لتطهير المواقع التي كان الملكيون قد سيطروا عليها وتوالت الانتصارات حتى توجت بفك حصار العاصمة صنعاء في حصار السبعين يوماٍ.
أما أهم التحديات التي واجهت الثورة في أسبوعها الأول هو ترتيب أوضاع النظام الجمهوري من انتخاب رئيس وتشكيل أول حكومة برئاسة المشير عبدالله السلال وانتخابه رئيساٍ للجمهورية وكان أول التحديات هو إرسال حملات عسكرية لمطاردة الإمام محمد البدر الذي تمكن بمساعدة قبائل همدان من الفرار إلى عمران ثم إلى مسور بهدف تجهيز قواته لاحتلال مدينة حجة وقيادة المقاومة للنظام الجمهوري والثورة من مدينة حجة ظنا منه أنه سيلعب نفس دور الإمام أحمد عندما قاد القبائل وحشدهم لحصار صنعاء وبعد أن أباحها لهم تمكنوا من الدخول إلى العاصمة وإسقاط ثورة 1948م والقيام بالقبض على كل قياداتها وزجهم في السجون وإعدام الكثير منهم في صنعاء وحجة وتعز وقد خاب أمله حيث لم يجد في عمران من ينصره وهزم أثناء محاولته اقتحام مدينة حجة وهكذا قرر بعد مواجهة الهزيمة وتخلي الشعب عنه الاتجاه نحو الحدود السعودية ودخولها لقيادة معارك المقاومة ضد الثورة والجمهورية من داخل المملكة وبدعم سخي من الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز كما أن المشير عبدالله السلال قد اختار منزله وسكنه ليكون مقراٍ له وقال بلطفه المعروف عندما طلبوا منه السكن في القصر الجمهوري قال لهم »لو سكنت في القصر الجمهوري شاحنبكم وما عاد بخرج منه إلا بصعوبة”.
وكذلك الأزمة القلبية التي أصيب بها عام 1964م كانت نتاج المتاعب والأهوال التي لقيها في مواجهة هموم الوطن وتطهير اليمن من فلول الإمامة بالتعاون مع القوى الوطنية والنخب الثورية .
وكانت حياته أنه كان يصحو في الساعة السابعة صباحاٍ رغم أنه كان لا ينام طوال الليل نوماٍ هادئاٍ ومتواصلاٍ بسبب القادمين من الجهات العسكرية والذين كانوا من ضباط الثورة ويطلبون مقابلته للضرورة القصوى فيصحو من نومه وبعد أن يستجيب لطلبات القادة ويوجههم يعود للنوم مرة أخرى ليصحو السابعة صباحاٍ ليتناول فطاره ومقابلة القادمين إلى منزله محملين بأوراق الطلبات الشخصية والرسمية وبعد انتهاء المقابلات يغادر منزله إلى مكتبه بالقصر لمقابلة السفراء المعتمدين والقادة الذين كانوا يعملون بالعاصمة ثم يطلع على برقيات القادة المنتشرين في الجبهات التي بلغت فيما بعد أربعين جبهة يجيب عليها جميعاٍ ويصدر أوامره وتوجيهاته السريعة لتلبية طلبات أولئك القادة أولاٍ بأول وبعد صلاة الظهر يقوم بالاتجاه إلى أي منطقة جبلية أو سهلية لمزاولة الرياضة التي اعتاد عليها منذ كان ضابطا يتولى عدة مناصب حيث كان يقطع في هواية المشي على قدميه خمسة إلى عشرة كيلو ثم يعود لمنزله لتناول طعام الغداء وبعد الظهر يواصل جهوده لحل القضايا التي استجدت ومقابلة القادة العسكريين ليسمع منهم تقارير عن أوضاع الجبهات العسكرية.
كذلك لم يكن لديه وقت ليقضيه مع أفراد أسرته بسبب انشغاله الدائم ووجود مقابلات رجالية طوال اليوم إلا في ساعات الليل المتأخرة عندما يكون قد أنهى كل المهام حتى أنه كان في بعض الأحيان يطلب من زوجته الخروج من الغرفة لمقابلة أحد القادمين وتبقى محبوسة في الحمام المجاور لغرفته حتى يجدها عندما يبحث عنها قد نامت داخل الحمام.
وكان المشير السلال رحمه الله عاطفياٍ وغير متوتر طوال حكمه في الخمس السنوات لم نعرف منه نزقاٍ أو صياحاٍ رغم مشاغله لكنه كما سبق أن ذكرت يرى أسرته أو أولاده ليوم أو يومين مع أنهم يسكنون في نفس المنزل بسبب مشاغله بالجبهات العسكرية وقادتها ومتابعة أخبارهم أولاٍ بأول.. أما من ناحية أنه حنون فإنه كان عسكرياٍ صارماٍ إلا في حالات جلوسه مع أولاده وأسرته فقد كان أحن مما تتصور.
ولم يكن والدي يتولى المهام العسكرية لوحده فقد كانت هناك غرفة عمليات تعمل ليلاٍ نهاراٍ داخل مبنى العرضي القيادة العسكرية الآن وكان هناك وزارة دفاع ورئاسة أركان وقادة محاور وقيادة شْعبه من مشايخ القبائل وأفراد الجيش الشعبي وفي مقدمة هؤلاء جميعاٍ الجيش النظامي وبلوكاته والجيش الدفاعي وبلكاه والحرس الوطني وسراياه وكتائبه وجيش مصر عبدالناصر وقياداته كل هذه القوى كانت تصب تقاريرها وأخبار المعارك في مكتب ومنزل القائد الأعلى الذي كان يعمل ليلاٍ نهاراٍ لاتخاذ القرارات في نطاق 42 جبهة عسكرية وهذه الآلية التي ذكرتها لك كل شارك من ناحيته بتنفيذ تعليمات القائد الأعلى المشير عبدالله السلال حتى أنه شارك في عملية عسكرية في بني حشيش عندما حوصر اللواء المرحوم أحمد خليل أحد ضباط الثورة ومن معه من جنود الثورة وتمكن من جمعهم من العاصمة أن يفك الحصار عليهم ويعود سالماٍ وقد جئت إليه من خولان لأطلب منه دبابتين وجنوداٍ من الحرس الجمهوري فأجابني بأنه لم يبق معه سوى 16 جندي حرس جمهوري لحراسته أما الدبابتان فقد حولهما وبهما تغيرت مواقف المقاتلين في خولان وتمكنا من احتلال كل مواقع الملكيين هناك وبمساندة من القوات المصرية.
ولم يكن التفكير في ذلك الوقت لتشكيل جيش وطني فحسب بل إن الثورة فكر رجالها في فتح الكليات العسكرية التي أغلقها الإمام أحمد قبل الثورة الكلية الحربية المركز الحربي في تعز كلية الشرطة وكنت أول مدير لها وكلية الطيران والمبعوثين من ضباط الثورة إلى الاتحاد السوفيتي ومصر والعراق لأخذ دورات عسكرية ودرجة الماجستير وتشكيل ألوية حديثة لواء الوحدة ولواء النصر ولواء العروبة والصاعقة والمظلات وهي الوحدات الحديثة التي دافعت عن صنعاء أثناء حصار السبعين يوماٍ بالإضافة إلى مشاركتها في الدفاع عن الثورة والجمهورية في عدة جبهات عسكرية وقد كنا فعلا في سباق مع الزمن لتغطية الجبهات العسكرية التي فتحها الملكيون على طول الحدود أما الجيش الشعبي فقد ظل يقاتل مع القوات المسلحة حتى انسحابها من كل الجهات تجر أذيال الخيبة والهزيمة والعار.
ففي البداية كان معنا مواتر الإخوة الأعبوس وسيارات النقل الأهلية والعسكرية التي ذهب معظمها نتيجة وضع الغام في الطرقات وتم تزويد القوات المسلحة بسيارات نقل تولت نقل الجنود والعرد والعتاد والأغذية إلى المواقع العسكرية وكانت هدية من الاتحاد السوفيتي روسيا المتحدة حالياٍ تم على إثرها تشكيل الدائرة العسكرية للنقل تولت كل مهام تزويد كل الجهات والمواقع العسكرية بكل احتياجاتها.
كانت أوليات المرحلة بعد قيام الثورة هي بناء الدولة والإدارات وتعيين أصحاب الخبرة لتسيير الأمور وثم تم تشكيل الحكومة وتعيين الوزراء بعد أن كان الإمام في الماضي هو الإمام ورئيس الوزراء والوزراء وكل مرافق الدولة بمعاونة أولاده سيوف الإسلام وعماله وحكامه وأمراء الألوية وكلهم من طبقات معينة.
قلت لك في سؤال مماثل أن أبرز التحديات هي اتجاه جميع أجهزة الدولة العسكرية والمدنية نحو مواجهة القوى الملكية التي بدأت تقاوم الثورة منذ الأسبوع الأول مدعومة بالذهب وملايين الريالات وتجنيد جميع المغتربين الذين كانوا يعملون في بلدان الاغتراب وتشكيل جيش منهم لمحاربة الثورة وإسقاط نظامها الجمهوري أما الكتابات التي تناولت أحداث الثورة أضافت الجديد عنها حتى تلك الكتابات النرجسية التي أدعى أصحابها القيام بأدوار سرقوها من أدوار الشهداء ونسبوها لأنفسهم كانت مساهمة لا بأس بها وصدقني أن الشباب من أبناء الشعب اليمني وممن عاصروا الثورة عندما يقرأون أمثال هذه الكتب يسخرون من أصحابها خصوصاٍ من عاصروا أحداث الثورة لكن كل الكتابات مفيدة لمن سيكتبون تاريخ الثورة من المتخصصين والباحثين القادرين على تمييز الغث من السمين واستخراج الحقائق من خلال الاطلاع عليها خصوصاٍ من تلك الكتب التي أدعى فيها أصحابها مشاركتهم في أحداث الثورة وأدعوا بطولات لا أساس لها من الصحة أما مذكرات والدي المشير رحمه الله فليس فيها ردود عليها لكن الحقائق والشهادات للتاريخ ستفضح أولئك الأدعياء وأصحاب الأدوار الكاذبة وستضع النقاط على الحروف وتنصف الثوار الحقيقيين وتعطيهم حقوقهم التي سرقها البعض ونسبوها لأنفسهم.
لم نكن نملك جهاز إعلام سوى الإذاعة وكلمات التوعية التي كانت خطابات المشير عبدالله السلال والشهيد الزبيري والأستاذ أحمد نعمان بمثابة توعية كاملة إلى جانب ما كانت إذاعة صنعاء بقيادة الأستاذ الثائر أحمد المروني تعده من برامج توعية رائعة رسخت وبثت في أذهان الناس معنى الثورة وضرورة الحفاظ على مكسبها الوحيد النظام الجمهوري إلى جانب خطابات قادات المعارك والجبهات من ضباط الثورة في الأماكن البعيدة التي كان لها أثرها الإيجابي للانضمام إلى صفوف الثورة.
كان الموقف الحرج في هذا الإطار هو صعوبة فهم المغرر بهم والقوى التي كانت تحارب مع فلول الإمامة لأنهم كانوا يفضلون الحصول على الذهب والريالات من التوعية بالإضافة إلى الأمية العميقة التي كانت تملأ المدن والقرى بسبب سياسة التجهيل الذي دأبت الإمامة على ترسيخها في أذهان الناس.
إن والدي- رحمه الله – يعتبر الدور المصري ومشاركة مصر عبدالناصر في الدفاع عن الثورة ونظامها الجمهوري دوراٍ هاماٍ وإيجابياٍ دعم مسيرة الثورة حيث لولا هذا الدعم لسقطت الثورة في شهورها الأولى بسبب الدعم الذي لا حدود له والأسلحة التي انهالت لدعم القوى الملكية وأطنان الذهب ومليارات الريالات التي وزعت على قبائلنا التي كانت تشكو من الفقر الشديد كانت ستؤثر على مقاومة الثوار بمفردهم.
وعندما بدأت إذاعة صنعاء تذيع باسم إذاعة الجمهورية العربية اليمنية ترك أبناء عدن بالذات وشبابها أعمالهم ووظائفهم وهبوا للالتحاق بملاك الحرس الوطني أما أبناء المناطق في ردفان والضالع ويافع العليا والسفلى وأبين وشبوة ولحج وكل المحافظات والإمارات في جنوب الوطن فقد هبوا جميعاٍ لنجدة الثورة والدفاع عنها وعن نظامها الجمهوري قبل وصول القوات المصرية وذهب كثير منهم ضحية الإقدام والشجاعة والبطولة التي ظهروا بها في معارك التصدي للقوى الملكية باعتبار أن ثورة سبتمبر ستكون المفتاح المنتظر لقيام ثورة في الجنوب فيتحقق بذلك المبدأ الأول للثورة السبتمبرية التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات.