حروب أمريكا الخاسرة من فيتنام إلى سوريا واليمن (17)
أحمد الحبيشي
في عام 2013، تلقت الإمارات صفعة كبيرة في عدن، حين أقدمت الحكومة اليمنية، تحت ضغوط شعبية ، على إلغاء عقد منحت بموجبه شركة “موانئ” دبي العالمية، التي تدير اليوم أكثر من 70 ميناءً حول العالم والمملوكة لإمارة دبي، حق إدارة ميناء عدن، بما يشمل ميناء “المعلا” ومحطة “كالتكس” للحاويات، لمائة عام قادمة!!
كانت الصفقة فضيحة بكل المقاييس، ليس بسبب مدتها فحسب، وليس حتى بفعل العمولات والرشاوى التي دفعنها حكومة الامارات لتمريرها، ولكن الأهم أن الصفقة كانت تمثل موافقة ضمنية على تخلي اليمن عن حق إدارة أهم موانئها لصالح بلد منافس. فمع موقعه الاستراتيجي، وعمق مياهه التي تسمح باستقبال سفن حاويات أكبر حجمًا، وطقسه المستقر الذي جعله موقعًا مثاليًا للتزود بالوقود، كان ميناء عدن هو المنافس الأول لميناءي “جبل علي” و”راشد”، وهما الميناءان الأكثر أهمية واستراتيجية في دولة الإمارات العربية المتحدة.
مع حلول عام 2011 صارت نوايا “موانئ دبي” في عدن واضحة تمامًا. فرغم أن الاتفاق الأساسي نص على استثمار مبلغ 220 مليون دولار لتطوير البنية التحتية لميناء عدن وزيادة سعته من 500 ألف حاوية، وهو الرقم الذي حققه الميناء في عام 2007 قبل تسليمه للشركة الإماراتية، إلى 900 ألف حاوية، إلا أن ما حدث في عام 2011 كان العكس كليًا. ففي هذا العام انخفضت السعة الاستيعابية للميناء إلى 130 ألف حاوية فقط ، تبعتها زيادة طفيفة إلى 212 ألف حاوية عام 2012، وهو رقم ينقص كثيرًا عن سعة الميناء وقت استلام دبي إداراته، فضلًا عن التدهور السريع في حالة البنية التحتية للميناء، والإهمال الشديد في صيانة معداته.
لم تقتصر الأمور على ذلك فحسب، بل إن ما أقدمت عليه “موانئ دبي”، منذ الوهلة الأولى لتسلمها زمام الأمور في الميناء، من رفع للتعريفة بنسبة 80% بدلًا من تقديم التسهيلات كباقي الموانئ لكسب رضاء الخطوط الملاحية العالمية، تسبّب في نفور تلك الخطوط الملاحية من الميناء ، وعدم المرور عليه تفاديًا لرفع التعريفة، وأيضًا لرداءة الخدمة المقدمة التي بلغت حد تعطل نظام الميناء الحاسوبي المنظم للعمل.
كما تعطلت خطوط ملاحية حيوية كخط “بيه آي إل” (PIL) الذي كان يعد الخط الملاحي الأساسي المشغل للميناء، في حين أقدم الخط الملاحي الأخر “أي بيه إل” (APL)، الذي يعتبر الخط الأساسي الثاني في ميناء “عدن”، على تحويل مسار حاويات الترانزيت التابعة له إلى الموانئ المجاورة.
وبينما نص الاتفاق الأصلي على أن تقوم “موانئ دبي” بتطوير المرحلة الثانية من محطة “كالتكس” للحاويات بطول 400 متر لاستقبال البواخر العملاقة، إلا أنه لم يتم استكمال هذه المرحلة أبدًا في خرق جديد للاتفاقية.
جاء اقتراب معارك عدن متزامنًا مع هواجس أبوظبي حول المخاطر التي تهدد طموحاتها الاقتصادية في القرن الأفريقي، فضلًا عن أجندتها الناشئة لإبراز قوتها العسكرية بشكل مباشر في المنطقة ذاتها، وهو ما دفع الإمارة إلى تغيير نظرتها إلى التحالف السعودي ، في تحول جاء متزامنًا بدوره مع حاجة سعودية ماسة لمشاركة عسكرية أكثر فاعلية، بعد فشلها في إقناع أي من باكستان أو مصر بإرسال قوات برية.
ومع حلول الثالث من أغسطس 2015 كانت القوات التي تقودها الإمارات العربية المتحدة تتوغل في عدن محققة السيطرة على قاعدة العند الجوية شمال غربي المدينة، والتي تحولت بحكم الواقع إلى مقر قيادة قوات الإمارات ، والمليشيات المحلية المتحالفة معها، بما يعني أن عدن قد عادت من جديد إلى القبضة الإماراتية، ولكن هذه المرة ليس عبر اتفاق لإدارة الميناء، ولكن عبر تواجد عسكري فعلي يبدو أن أقل أهدافه اليوم هو مجرد استعادة السيطرة الاقتصادية من جديد على ميناء عدن، بينما تتعاظم وراءه الأهداف الأخرى.
لم تكن “عدن” أكثر من مجرد بداية استكشفت خلالها أبوظبي، عاصمة النفط والمال، الرائحة النفاذة للقوة. وبقدر ما أعاد غزو اليمن تعريف عقيدة الإمارات، ونقلها من عالم مسالم للأعمال التجارية، أو حتى محطة مركزية لممارسة نفوذ القوة الناعمة لدولة تمارس النفوذ العسكري خارج حدودها ، أو “إسبرطة صغيرة” بتعبير وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، فإن الغزو أعاد أيضًا تعريف دور أسهم القوة الإماراتية، وفي مقدمتها ذراعها الأهم : “موانئ دبي العالمية”.
تعيد الشركة الإماراتية الأبرز اليوم اكتشاف نفسها كأداة من أدوات النفوذ الإماراتي. فبالنسبة لإمارة “ابن زايد” لا يمكن الفصل بين الاقتصاد والعسكرية، وكلاهما يدور بشكل واضح حول السيطرة البحرية.
أدت هذه الرؤية بشكل كبير لتحويل “موانئ دبي” الى قاعدة ارتكاز لذراع عسكري إماراتي يناسب طموحات أمير أبوظبي. فلم يعد النشاط التجاري البحري لهذه الدولة الخليجية مرتهنًا لقوتها المالية الناعمة كما كانت الأمور قبل، فاليوم .. وفي منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر على وجه الخصوص، أينما ظهرت “موانئ دبي” فإن علينا أن ننتظر ظهور القوة العسكرية لـ “إسبرطة الصغيرة”، وهو ما تشهده المنطقة كلها اليوم بداية من اليمن، وليس انتهاء بإريتريا أو الصومال.
في الوقت الذي كانت فيه الإمارات تؤسس نفوذها في عدن، كانت تستثمر في نفس الوقت في أصولها داخل إريتريا على الضفة الأخرى لمضيق باب المندب. بدأ الأمر بشكل معتاد في النصف الثاني من عام 2015، بعقد إيجار أبرمته “موانئ دبي العالمية” لتطوير ميناء “عصب” البدائي على البحر الأحمر، وعلى مدار الأشهر التالية، وبهدوء تام ودون صخب يذكر، كانت الإمارات تعزز بنيتها التحتية العسكرية في “عصب” مؤسسة أول قاعدة عسكرية فعلية لها خارج حدودها حول الميناء ، تشمل أصولًا جوية مجهزة لنشر سرب كامل من طائرات “ميراج 2000” الفرنسية الصنع، أو طائرات “سي-17″ و”سي-130” التابعة لسلاح الجو الإماراتي، إضافة إلى وحدة أرضية كبيرة بحجم كتيبة مدرعة مجهزة بدبابات “ليكريك” الفرنسية، فضلًا عن منشآت تدريب للمليشيات اليمنية المحلية أو حتى قوات مرتزقة الجنجويد وبلاك ووترقبل نقلها إلى اليمن.
بحلول أوائل العام الماضي 2016، كان مطار “أسمرة” في إريتريا الذي تولت الإمارات مهمة تطويره أيضًا، يستقبل مروحياتٍ هجومية من طراز “أباتشي” تابعة “لقيادة الطيران المشتركة الإماراتية”، بالإضافة لمروحيات “تشينوك” و”بلاك هوك” تابعة للحرس الرئاسي الإماراتي للقيام بعمليات غير معلومة في اليمن، وبالفعل قامت هذه الطائرات لأول مرة بتنفيذ طلعاتٍ هجومية فوق “مضيق باب المندب” انطلاقًا من “عصب”.
وجرى تدريب الطيارين الجدد في جيش (الفار هادي) على مروحياتٍ أعطتها الإمارات له، وتم التدريب في “عصب” أيضًا، قبل نقلهم إلى قاعدة “العند” الجوية في عدن، والخاضعة بدورها للسيطرة الإماراتية كما سبق أن أسلفنا، كما جرت عمليات نقل للآلاف من اليمنيين الذين دربتهم أبوظبي إلى عدن، مع كتائب كاملة من المقاتلين الإريتريين والصوماليين والحنحويد وبلاك ووتر، الذين يعملون جميعًا اليوم تحت القيادة الإماراتية في المدن اليمنية الساحلية.
من إريتريا إلى الصومال. وفي ذات الوقت الذي كانت الإمارات تكثف فيه نشاطها في “عدن” و”عصب”، قامت أبوظبي أيضًا بتوسعة شراكتها مع أجهزة الأمن والمخابرات الوطنية في الصومال، عبر افتتاح مركز تدريب جديد لقوات المغاوير الصومالية بإشراف القوات الخاصة الإماراتية. وبالإضافة لتزويدها لقوات الأمن الصومالية بناقلات جند مدرعة وشاحنات مياه ودراجات نارية لصالح وزارة الأمن الداخلي، فإنها تعهدت بدفع رواتب قوات الأمن الحكومية لمدة أربع سنوات. إلا أن الخطوة الأكبر، والمتوقعة بحكم الإستراتيجية الإماراتية، كان عليها أن تنتظر قليلًا حتى دخول العام الحالي 2017.
في ابريل 2016 ، وقعت منطقة “بونت لاند” أو “أرض النبط” شبه المستقلة في شمال شرقي الصومال، اتفاقية امتياز مدتها 30 عامًا مع شركة “موانئ دبي” لتطوير وإدارة ميناء متعدد الأغراض في مدينة “بوصاصو” على مرحلتين، بتكلفة تقديرية بلغت حوالي 336 مليون دولار. جاء التوقيع على الصفقة بعد مرور أسابيع فقط من التوقيع على صفقة مع منطقة جمهورية “صوماليلاند”، أو “أرض الصومال”، تسمح للإمارات أيضًا بإنشاء قاعدةٍ عسكرية في ميناء “بربرة”. وفي العام الماضي، كانت “صومال لاند” أعلنت بدورها عن صفقة بقيمة 442 مليون دولار مع شركة “موانئ دبي العالمية” لرفع مستوى الميناء في “بربرة”، وإنشاء مركز تجاري إقليمي على ساحل البحر الأحمر.
من القرن الأفريقي الى أرخبيل سقطرى
يثير الاهتمام الإماراتي المبالغ فيه بـأرخبيل “سقطرى” الكثير من التساؤلات ، خاصة بعد تسريب معلومات حول تحضيرات تجري لربط الجزيرة بشركة اتصالات إماراتية، وإعلان طيران “الاتحاد” المملوك لإمارة أبوظبي تسيير ثلاث رحلات أسبوعيًا بين العاصمة الإماراتية و”سقطرى” اليمنية، وهو ما يعد اهتمامًا مبالغًا فيه نسبة إلى حجم النشاط في الجزيرة .
وبالنظر إلى أن أبوظبي لا تسير رحلات منتظمة مع “عدن” نفسها، وهي تحركات دفعت مكتب الرئيس(الفارهادي)، المقيم بالرياض، للتحذير من “الأطماع الإماراتية في الجزيرة”.
مع كل ذلك، فإن هناك مشروعين أعلنت عنهما الإمارات في الجزيرة يثيران القدر الأكبر من الريبة :
الأول هو بناء مطار “سقطرى” ومنشآت البنية التحتية السياحية المرافقة له والتي ستتطلب تشريد جزء كبير من السكان المحليين، وربما طرد الناس من أكثر الأماكن المرغوبة من أجل إفساح المجال للسياح الغربيين.
أما المشروع الثاني والمتوقع بالتبعية، فهو مشروع إنشاء قاعدة عسكرية خاصة في اليمن لإيواء 2300 جندي يمني، من سكان الأرخبيل الذين سيتم نقلهم إلى الإمارات للتدريب، قبل شحنهم إلى الجزر من جديد ليرأسوا قوة عمل عسكرية محلية.
تسير الإمارات في “سقطرى” على خطى أحلام الماضي القريب للأمريكيين، وهي تبدو راغبة في الذهاب إلى أبعد مدى، بعد تقارير تشير إلى أن ولي عهد أبوظبي قام بنشر قوة عسكرية ساحلية في جزيرة “ميون” قرب شواطئ “عدن”.
وتنسجم هذه التحركات الإقليمية مع الترتيب الإقليمي الجديد الذي تنتهجه البحرية الأمريكية بشأن السيطرة على “باب المندب”، والذي يمنح بموجبه أدوارًا أكثر فاعلية للقوات البحرية الإماراتية والسعودية والمصرية في مكافحة القرصنة ومواجهة احتمالات “التمدد الإيراني” ، ما يفسر استثمار الإمارات خلال العامين الماضيين في تعزيز قواتها البحرية بشكل ملحوظ، بما يشمل إدراج أسلحة جديدة تشمل غواصات وسفن تدخل سريع وأنظمة ملاحة مائية، وصولًا إلى خطط لتمويل شراء حاملات مروحيات متنوعة ، كما يفسر أيضًا الدعم المادي الذي قدمته الإمارات لخطط تسليح البحرية المصرية، وعلى رأسها حصولها على سفن ميسترال الفرنسية، وإنشاء الأسطول المصري الجنوبي على البحر الأحمر.
رغم أن السعودية وحليفها (الرئيس الفارهادي) لا تبدو راضية بشكل تام عن خطط الإمارات في الجنوب اليمني المجتل أو مطمئنة لها، إلا أن هذه الخطط تسير بانتظام حتى الآن على قدم وساق، بما في ذلك اقتراح الوحدة العسكرية “السوقطرية”، التي تبدو منسجمة مع الوحدات العسكرية الخاصة التي أنشأتها الإمارة في أجزاء أخرى من جنوب اليمن، حيث أنشأت أبوظبي في كل من “حضرموت” و”عدن” وحدات عسكرية خاصة مستقلة عن بعضها البعض وعن أي نظير يمني، يتم تمويلها وإدارتها بالكامل من قبل الإماراتيين. وتمثل هذه الوحدات الفصل التالي في خطة “بن زايد” التوسعية اليمنية، وهو استثمار إماراتي يهدف بالأساس إلى حماية النفوذ البحري لها، حتى لو كان ثمن ذلك هو تقسيم اليمن بأكملها.
كانت قرارات الفار هادي تعبيرًا واضحًا عن شعوره بفقدان السيطرة على عدن لصالح رجال أبوظبي من السياسيين، والأهم لصالح رجالها العسكريين
في قصر البحر في أبوظبي، وعلى بعد ثلاثة آلاف ميل عن “عدن”، جرى اجتماع في 27 (فبراير 2017 الماضي جمع بين “محمد بن زايد” و “عبد ربه منصور هادي.. خلال الاجتماع، الذي تم عقده بوساطة سعودية، أعرب “ابن زايد” لهادي عن قلقه حول نفوذ التجمع اليمني للإصلاح في إدارته، متهمًا 14 شخصًا من قادة الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين أنهم على علاقة مع تنظيم القاعدة .. وخرج “هادي” من الاجتماع مع وعد بالتحدث إلى “محمد اليدومي”، زعيم الحزب، بشأن هؤلاء القادة الذين ذكرهم “ابن زايد”..!!
في حقيقة الأمر، كان الاجتماع محاولة سعودية للتوفيق بين “هادي” والإمارات، على خلفية أزمة مطار عدن الشهيرة التي اندلعت في (فبراير2017 الماضي، حين حاول هادي استعادة السيطرة العسكرية على المطار من “قوات الحزام الأمني”، المليشيا التي تديرها الإمارات في عدن، لصالح “قوات الحماية الرئاسية” التي يديرها “ناصر عبد ربه”، نجل هادي نفسه، ما تسبب في نشوب معارك واسعة بين الطرفين، اتهم خلالها “هادي” الإمارات صراحة بمحاولة احتلال اليمن.
ولكن يبدو أن اجتماع فبراير2017 البروتوكولي لم يسفر عن كثير من التقدم، وفق ما أظهرته قرارات أواخر (أبريل)، التي تضمنت قيام هادي بإقالة المسؤولين المقربين من دولة الإمارات العربية في “عدن”، وعلى رأسهم محافظ عدن “عيدروس الزبيدي”، ووزير الدولة “هاني بن بريك”، وهو ما ردت عليه الإمارات سريعًا برعاية تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة “الزبيدي” و”ابن بريك”، في تلويح من الإمارات بإلقاء ثقلها خلف ملف انفصال الجنوب كاملًا.
ويبقى القول ان ما يفعله “محمد بن زايد” اليوم في جنوب اليمن المحتل بوعي أو بغير وعي ، يشبه تمامًا ما فعلته بريطانيا في بلاده المحتلة قبل سبعة عقود، لأن كل الطموحات الاستعمارية تتشابه على ما يبدو”.
يتبع..