الوحدة اليمنية ومهدداتها غيبوبة العمل الوحدوي

محمد ناجي أحمد

من المخاطر التي تتربص بالوحدة اليمنية وتهدد ديمومتها عاملان :عامل داخلي يتمثل في غياب المشروع الثقافي الوحدوي ،الذي يجب أن تعمل الوحدة السياسية على تحقيقه فور إنجاز وتحقيق الأمل الوحدوي الذي ظل اليمنيون لأكثر من قرنين يحنون ويسعون إلى تحقيقه ،فتحقق في الثاني والعشرين من مايو 1990م على يد الرئيس علي عبد الله صالح والرئيس علي سالم البيض ،لكن الوحدة السياسية لم تنجز مشروعها الثقافي ،أي تغيير الذهنية التشطيرية لمكونات النظام السياسي ،فظل التربص والإقصاء هو مسار النظام ،والذي وصلت تناقضاته إلى ذروتها في 11فبراير 2011م بين (رؤوس الثعابين ) من جهة و(الراقص على رؤوس الثعابين )من جهة مقابلة ،فأسقطت رئيس النظام ،لتتشظى السلطة وتتحول الجغرافيا الوحدوية إلى إمارات عصبوية مغلقة بالمناطقية والمذهبية والطائفية .
لقد كان وما زال استهداف صنعاء كعاصمة ،ومحاولة إيجاد بديل عنها بغرض ضرب المركز الناظم للوحدة –من خطوات واستراتيجيات العدوان والاحتلال ،الذي ظل يستثمر ويعزز حالة الصراع الداخلي لينال من الوحدة اليمنية ،فعمل بجهد في حرب 1994م ،واقسم الشيخ زايد بن سلطان وقتها على تقسيم اليمن إلى خمس دويلات ،بحجة أن الرئيس علي عبد الله صالح لم يلتزم بوعده له بعدم دخول عدن !وظلت استراتيجية السعودية التي وجهها الملك عبد العزيز بن سعود نصيحة لأبنائه ،في جعل اليمن في حالة ضعف وتفكك وصراع داخلي وتبعية اقتصادية .فذلك هو ضمان أمن السعودية بحسب وصيته .فأمن السعودية في هشاشة الدولة اليمنية وتشظي جغرافيتها.
وكان لغياب المشروع الوطني وأزمة الرؤية والموقف لدى القوميين والماركسيين بشكل عام أن جعلت الوحدوي الناصري يتخلى عن موقفه المتمسك بالدولة الوحدوية البسيطة ،والمتمحوره بقوة الدولة المركزية ،ليتبنى دولة اتحادية مركبة من ستة أقاليم ،رغم استحالة وجود دولة اتحادية بمركز ضعيف وهش ،مما يعني أنها دويلات لا دولة اتحادية !وكان لموقف الحزب الاشتراكي المتراجع عن وحدة الهوية اليمنية ،وحتمية المصير الوحدوي ،ليتبنى ويروج لثنائية الهويتين ودولة واحدة ،وهي الثنائية التي نظر لها الدكتور ياسين سعيد نعمان منذ ما بعد أحدث 2011م ،دون أن يدرك بأن القول بثنائية الهوية اليمنية مقدمة حتمية لكي تطل برأسها كل (الهويات الطاردة).
وكان لمشاريع الأقلمة التي طرحها بعض أعضاء مجلس النواب ،التي تبنوها نيابة عن أجندات إقليمية منذ عام 2005م دور المعول الذي يهدم معبدنا الوحدوي الواحد :إنسانا وجغرافية وتاريخا ونهوضا .وكان لطبيعة التعليم المغيب للعقل والنقد ،وكان لطبيعة التخلف الثقافي والفقر وترسبات الأزمنة الثقافية الإقطاعية وشبه الإقطاعية ،والبدوية –دورها الحاضن للكوارث التي تتناسل في الأذهان (هويات طاردة )تزداد انغلاقا وتكلسا كلما استطالت الحرب وأفرزت قيمها اللا إنسانية .
استمرت تناقضات النظام القائمة على ازدواجية السلطة والمحاصصة ،ووصل هذا الصراع ذروته داخل نظام الجمهورية اليمنية في حرب 1994م،ثم في أحداث 11فبراير 2011م.
وكان لهذا الصراع معالمه العديدة انعكست في انتفاضة 9،10/12/1992م،والتي شعر تحالف الرئيس علي عبد الله صالح أنها تحريك للشارع يهدد سلطتهم ومصالحهم ،فتم قمع المظاهرات بعنف مفرط ،ثم كانت انتخابات 1993م لتعكس غلبة تحالف المؤتمر الشعبي العام ورديفه التجمع اليمني للإصلاح ،وتقليص سلطة الحزب الاشتراكي ،ثم كانت الاعتكافات العديدة لنائب الرئيس علي سالم البيض والتي أنتجت اتفاق (وثيقة العهد والاتفاق ) وكان وقتها تجمع الإصلاح من أشد الرافضين لهذه الاتفاقية ،وقد انعكس هذا الموقف الرافض لها بإضافة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لشرط جوار توقيعه ينقض جوهر الاتفاق .فكانت حرب 194م وتدمير القوة العسكرية لشريك الوحدة ،وإقصاء كامل لشراكة الحزب الاشتراكي في السلطة ،ومن ثم إحالة عشرات الآلاف من الجنود والضباط إلى التقاعد ،وهو ما تمخض عنه مظاهرات بدأت مطلبية للمتقاعدين وانتهت بتأسيس (الحراك الجنوبي ) بمطلبه السياسي الممثل ب(فك الارتباط ) أي الانفصال عن الجمهورية اليمنية .
استمرت تناقضات المنتصرين بحرب 1994م بعد إسقاط تناقضهم الخارجي ،لتبدأ التناقضات داخل بنيتهم، للتراكم في انتخابات 1997م النيابية ،وانتخابات 1999م الرئاسية ،وصولا إلى الانتخابات المحلية والرئاسية عام 2006م وما ترتب على هذه الانتخابات من إقصاء لتجمع الإصلاح ،واكتساح للرئيس علي عبد الله صالح ومؤتمره الشعبي العام .فكانت انتفاضة 11فبراير 2011م ،وتحريك ما سمي ب(المسيرات المليونية ) وهي تقنية جماهيرية استخدمها الإخوان المسلمون في السودان حين حركوا في منتصف الثمانينات مسيرات سموها (مسيرات مليونية ) ولكنها كانت وقتها لدعم الرئيس النميري وقراراته التي أطلقوا عليها ب(تطبيق الشريعة الإسلامية )وكانوا وقتها قد استخدموا هذه المسيرة كغطاء لانقلاب كانوا يعدونه للإطاحة بنظام النميري ،وقد اكتشفه النميري وقتها وزج بالإخوان وزعيمهم الدكتور حسن الترابي في السجن ،إلا أن انتفاضة الجماهير بعد أسبوع من حملة الاعتقالات أسقطت نظام نميري وخدمت تمكين الإخوان من السلطة بتدرج بدأ مع المجلس الانتقالي برئاسة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب ،ووصولا إلى إسقاط حكومة الصادق المهدي بانقلاب (عمر البشير ) واستيلائه على السلطة .
انفجر الصراع في اليمن في 11فبراير 2011م ،وتم إسقاط (الراقص على رؤوس الثعابين ) باتفاق تم التوقيع عليه في السعودية عام 2012م .ومع سقوط الرئيس علي عبد الله صالح ،نشطت دعوات الأقلمة والدولة الاتحادية ،وتحولت اليمن إلى جزر محتربة ،وهويات طاردة ومتقاتلة على أسس مناطقية ومذهبية وطائفية ،واستطالت الهويات ما قبل الوطنية لتصبح سلطة متغلبة على جغرافيات تعمها الفوضى ،ولتكون هذه الفوضى هي غاية الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ،التي من مصلحتها أن تموج المنطقة العربية بالفوضى ،حتى تأمن على الممرات المائية في البحر الأحمر والمتوسط والبحر العربي والمحيط الهندي، وتتفرغ لتوسيع دوائر هيمنتها في الهضبة الإيرانية ووسط آسيا وشرقها.
بوجود الفوضى والاحتراب في اليمن تحقق السعودية هدفها الاستراتيجي ،فأمنها تجده بغياب الدولة اليمنية الوحدوية والقوية وذات التنمية والقرار المستقل، والإمارات من مصلحتها الاقتصادية تقسيم اليمن إلى دويلات ،وقطر تسهم في دعم الاحتراب في اليمن ،و في سياق التمكين الصهيوني على المقدرات الاقتصادية للمنطقة وتصفية القضية الفلسطينية تصبح بلقنة المنطقة من الأهداف الاستراتيجية للكيان الصهيوني ، وهنا تلتقي كل الأهداف على أن طريق السيطرة وتحقيق الأهداف الأمنية والاقتصادية هو البلقنة !