وحدة الإنسان والجغرافيا أيضا

عبدالرحمن الاهنومي
لم تكن اليمن قديماً وحديثاً وفي كل القرون المتعاقبة إلا يمناً واحداً ، بلاد السعيدة التي عرّفها الرومان والأحباش واليونان وإمبراطوريات سبقتهم كانت هي اليمن ، وهي أصل الإنسان في الشرق ومنبع الهجرات التي استوطنت الشام وبلاد الرافدين وشكلت حضارات وبَنَت دولاً متعاقبة ، تلك هي اليمن الواحدة بحقائق الجغرافيا وهوية الإنسان والمجتمع والدولة.
وحدة الشعب..المتشكلة بمجموع العوامل الإنسانية والجغرافية والترابط التاريخي والحضاري ، هي الحقيقة الموضوعية الثابتة والتي أشار إليها فخامة الأخ الرئيس مهدي المشاط في خطابه بمناسبة العيد الوطني التاسع والعشرين لقيام الجمهورية اليمنية ، فالوحدة بمعانيها العميقة قيمة إنسانية ووطنية قبل أن تكون منجزاً سياسياً لسلطة أو حزب أو شخص بعينه ، وهي في جوهرها تعبير عنها وعن معانٍ راقية وسامية تتصل بقيم الإخاء والمحبة والتعاون والتكامل والانسجام، والقوة والنهضة والدور والمكانة، وتقف نقيضا صارخا لكل معاني الفرقة والصدام والكراهية والمناطقية والهوان والضعف، هذه المعاني المرتبطة بهذا المفهوم لا يمكن أن تكون سبباً في إنتاج الواقع المتردي الذي هو نتاج لتغييب الصانع الحقيقي للإنجاز المستحق وهو الشعب اليمني الذي وبقرار ذاتي مستقل عن الإملاءات الخارجية والتبعية حقق الوحدة وأنجز قيام دولة الجمهورية اليمنية.
وفي سياق الحديث عن الوحدة اليمنية السياسية الاندماجية بين السلطتين في الشمال والجنوب إثر إعلان قيام الجمهورية اليمنية عام 1990 والذي أتاح لليمنيين وجهاً شرعياً واحداً ودولة واحدة ، وأنهى انقسام النظامين والدولتين داخل الوطن الواحد ، لابد من الإشارة إلى المخاطر التاريخية التي عرضت الجغرافيا اليمنية أولا للتمزيق والتقسيم في مراحل تاريخية متفاوتة ، وعلى إثرها تعرضت اليمن لغزوات أجنبية متعددة كانت تنتهي في أغلبها باحتلال أجزاء واسعة من البلاد ترافقت معها محاولات حثيثة لمسخ هوية المجتمع واستبدالها بهويات بديلة أخرى متناقضة ومتصارعة مع الهوية اليمنية الجامعة ، من خلال إنشاء السلطنات والكيانات الوظيفية على أسس مناطقية انعزالية عن اليمن الإنسان والتاريخ والجغرافيا.
حدث هذا التشظي في أكثر من مرحلة تاريخية لأسباب موضوعية أهمها الفرقة والانقسام الاجتماعي الذي حدث غالبا بسبب الغزو الخارجي المتزامن مع وجود سلطة سياسية انقسامية ، أو ضعيفة وهشة في أغلب الأحيان ، لكن هذا التشظي سرعان ما كان ينتهي بالتحرير والوحدة والسيادة حين تنشأ سلطة وطنية مركزية تدعو لمقاومة الاحتلال ويتداعى معها المجتمع في تشكيل كتائب وطنية مقاومة وفق قيم ومرتكزات وطنية جامعة ، وما إن يتحد اليمنيون في مواجهة مخططات القوى الاستعمارية وجيوشها سرعان ما تتشكل دول وحكومات سياسية توحد اليمن وتفرض سيادتها على كامل أراضيه.
وبما يحتله اليمن من موقع جغرافي استراتيجي مثّل همزة الوصل بين بلدان البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي ، جعله هدفاً لحملات التوسع والاحتلال من قبل الدولة الاستعمارية الأوربية كالبرتغال وهولندا وإيطاليا وبريطانيا وحتى تركيا ، وفي 1839م تمكنت بريطانيا من احتلال عدن وفرض هيمنتها الكاملة على باقي المحافظات الجنوبية التي بقيت خارج نفوذ الدولة العثمانية ولاحقا خارج إطار الحكومة الوطنية في صنعاء بقيادة الإمام يحيى حميد الدين ، وفي هذا الاتجاه استكمل الاستعمار البريطاني احتلاله للجنوب بتوقيع معاهدات صداقة وحماية مع السلاطين وحكام الإمارات والمشيخات المجزأة ، وفي مواجهة الاستعمار البريطاني البغيض لم تفصل حركة النضال الوطني معركة التحرير عن الوحدة بل اعتبرتها جزءاً أهم ، فلا سيادة لليمن إلا بوحدته ، ولا تتحقق الوحدة إلا بسيادة كاملة غير منقوصة ، فلا الإنسان يستطيع أن يستبدل يمنيته بهوية أخرى ، ولا الجغرافيا اليمنية يمكن أن تصبح سعودية أو إماراتية ، ولا التاريخ الحضاري والسياسي والاجتماعي يمكن أن يتغير إلى تاريخ لدول أو مجتمعات أو حضارات لقبيلة أو منطقة أو دويلة أخرى دون اليمن الكبير..

قد يعجبك ايضا