الكتاب.. ذلك الصديق
أ.د. عبدالعزيز المقالح
في شهر رمضان الكريم يتسع الوقت للقراءة، ويلقى الكتاب اهتماماً يفوق ما كان له في سائر شهور العام، ويبدأ القارئ يتذكر كل ما قيل عن الكتاب من مديح هو جدير به، وأهل له. وفي كثير من الأقوال والعبارات التي وعيتها عنه، وفيها ما هو قديم وحديث، لم أجد أهم ولا أبدع من تلك العبارة التي أطلقها الكاتب الأرجنتيني الأشهر “بورخيس” وهي: “إن الكتاب هو الأكثر دهشة من كل الأدوات التي اخترعها الإنسان طوال تاريخه، إذ أن بقية الأدوات امتداد للجسد، الميكروسكوب والتليسكوب امتداد للعين، الهاتف امتداد للسّمع، المحراث والسيف امتداد لليد، غير أن الكتاب امتداد لشيء آخر، امتداد للذاكرة والمخيلة، وهو الصورة الواضحة لمحتويات العقل وعناده لتغيير العالم”.
وكلما زاد ما نقرأه من كتب زاد رصيدنا من المعرفة، واكتشفنا حاجتنا إلى القراءة الجادة والهادفة إلى الارتقاء الروحي والمعرفي. وكثيرة –والحمد لله- هي الكتب القادرة على هذا النوع من العطاء. ويلاحظ أننا نحن العرب ما نزال بحاجة إلى وقت طويل نعتاد معه الوصول إلى الألفة الحميمة مع هذا الصديق الذي يعلمنا ولا يجهدنا، وما تزال صورة الإنسان الأوروبي الذي لا يفارق الكتاب في أسفاره القصيرة والطويلة، والذي نراه في القطار أو في الحافلة متمسكاً بدفة كتاب مستغرقاً في قراءته، وكلما التفت حوله رأى العشرات غيره من مختلف الأعمار يشاركونه هذا الشغف العظيم بالكتاب.
وعلى العكس من ذلك نحن في أسفارنا التي نقضي المسافات إما نياماً، أو انشغالا مع رفاق الرحلة بالأحاديث المملة وأحياناً بإطلاق الضحكات العالية الخارجة عن كل مناسبة.
هكذا نحن وكذلك هم، ومن خلال هذه المفارقة الصارخة تتحدد مسافة الاختلاف، ويتضح البون الشاسع في سلوكنا وسلوكهم، وفي انعكاس هذا السلوك على طريقة الحياة وأسلوب التعامل مع الناس والأشياء. إن الكتاب رفيقٌ خالص الود لا يمنح وده وصداقته إلاَّ لمن يدرك أهميته ودوره وما يحمله من رسالة بعيدة التأثير.
وهنا أعود فأكرر الإشارة إلى المقولة النادرة التي افتتحت بها هذا الحديث عن الكتاب، أو بالأصح الاختراع الأكثر دهشة بين كل الأدوات التي اخترعها الإنسان.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن “بورخيس”، صاحب الإشارة البديعة السابقة إلى الكتاب بوصفه الاختراع الأكثر دهشة، قد كان يدير المكتبة العامة في بلاده وقتاً طويلاً. ومن معاشرته للكتب ومحبته لعمله معها كان أفضل وأصدق من يجيد مديح الكتاب والدعوة إلى الاحتفاء به وامعان النظر في دوره المعرفي والثقافي، وكيف يتحول الإنسان معه من جسد إلى روح، فكم من جاهل حولته سطور الكتاب إلى عالِم به يُقتدى.