كيف أثر غياب الجماهير على قضايا الأمة.. السعودية والإمارات نموذجاً
إيهاب شوقي
لطالما يحذر الأحرار والمنتمون لمعسكر المقاومة من صمت الشعوب، ولطالما يطالبون بتحرك الشعوب لحماية مصالحهم وصيانة مصالح الأمة بعد وصول الأوضاع الإقليمية والدولية لمفاصل حرجة تتلاشى بها الحدود بين الحروب الأهلية والحروب الإقليمية، لتصبح الشعوب مخيرة بين أحدهما وكلاهما مر.
ويبدو أن الأمور بحاجة لإعادة تأكيد وتوضيح للشعوب وبيان دورهم وحجمه ومدى المخاطر التي تترتب على غيابه، وذلك من خلال أحداث واقعية يرونها بأعينهم وكانوا ولا زالوا شهودا عليها.
بداية، هناك قاعدة هامة تقول إن السياسة لا تعرف الفراغ، وأن أي دور سياسي غائب، فإن هناك دورا آخر يحتل مكانه، فإذا غاب الدور السياسي للشعوب، ملأه دور خارجي بما له من تأثيرات وضغوط على السلطة.
ولعله من المناسب تناول بعض النماذج كما يلي:
1ـ دول الخليج عموما والسعودية والإمارات، بشكل خاص وصارخ، وما ذهبوا إليه بعيداً في التفريط في قضايا الأمة وتحديدا القضية الفلسطينية المركزية، وتخطي عملية التفريط لعمليات تطبيع وتعاون مباشر مع المشروع الصهيوـ أمريكي لتصفية القضية وحصار المقاومة، لم يكن ليتعاظم هذا الدور لولا غياب ردة فعل شعبية واعتراضات على نمط الحكم الظالم.
لعل قلة قليلة من الشعب العربي في المملكة السعودية مارس واجبه في الانتفاض والاعتراض على الظلم والتفريط، ولكن لأنه قلة، فقد افترسه النظام الحاكم ونكل به، بل ووصل الأمر إلى الاعدامات الجماعية، ولعل من السهل على الأنظمة المستبدة أن تصف الحراكات المحدودة بأنها إرهاب أو حراكات طائفية، بل وتشوهها بأبشع الصفات، استغلالا لمحدوديتها بسبب صمت اغلبية الشعوب وارتضائها بالظلم والاستسلام له.
2ـ حراك بعض شعوب المغرب العربي، كشف حجم التدخلات الخارجية التي نتجت عن صمتها السابق، فنرى أوضاع ليبيا والجزائر كنماذج تطفو حاليا على سطح الأحداث ومحاولات الاحتواء الخارجي، عبر التدخل السعودي الإماراتي من جهة، والتركي القطري من جهة أخرى، وهو ناتج عن صمت أغلبية الشعب الليبي وانخراط قطاعات شعبية وراء أطراف الصراع وكأن هذه القطاعات تشجع تدخل خارجي على حساب تدخل آخر، في حين تغيب قضية الاستقلال الوطني ورفض جميع التدخلات وخاصة وانها تدخلات ليست للصالح الليبي، وإنما لصالح الأطراف المتدخلة، وكذلك الوضع بالجزائر، حيث تحاول الأطراف الخارجية توجيه الصراع لصالحها، تارة بمحاولات استقطاب النظام، وتارة أخرى بمغازلة الحراك ومحاولة توجيهه.
3ـ صمت الشعب السوداني لفترة طويلة، جعل السودان مخترقا من عدة أطراف خارجية، واليوم كشف الحراك حجم الاختراق السعودي الإماراتي للجيش ومحاولة اختطاف الحراك عبر تعيين جنرالات موالية للسعودية ومشاركة بالعدوان على اليمن، واستمرار الحراك وتوجيهه لصالح قضية الاستقلال الوطني هو نقطة مضيئة تشكل أملا في استقلال إرادة السودان وعودته بلدا مستقلا لا يدور في الفلك الخليجي بأجنداته العابرة لمصالح الأمة والمتقاطعة مع أمريكا والعدو الصهيوني.
4ـ صمت الشعب المصري على قضايا وطنية كبرى بداية من معاهدة السلام المزعومة مع العدو الاسرائيلي ووصولا لقضية “تيران وصنافير” وترك أقلية تتصدر الدفاع عنها، سمح بتمرير هكذا صفقات وافتراس الأقلية المدافعة، وهو ما يفتح الباب لمزيد من التنازلات، ناهيك عن الصمت على التردي الاقتصادي والذي ينذر بمزيد من الأوضاع الحرجة غير مأمونة العواقب، والتي كان من الممكن تلافيها لو كان هناك تصدٍ شعبي أولا بأول لأي انتهاك في القضايا الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، وكان يكفي الاحتجاج السلمي، فلربما تنظيم الجماهير وتصديها السلمي يكون اكثر نجاحا من ثورة عشوائية لم ترفع المطالب الوطنية ولم تطالب بالتغييرات الجذرية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، واكتفت بتغيير المسميات مما أدى لإهدارها لعدم تتبعها لموطن الخلل الرئيسي المتعلق بالاستقلال الوطني.
ربما يكون الدور الشعبي الأكثر بروزا هو الدور الشعبي الفلسطيني واليمني، حيث المساندة الشعبية للحق والمقاومة، وهو ما يعيق التصفية حتى الآن.
كذلك جماهير المقاومة في إيران وسوريا ولبنان، بما تشكله من حاضنة شعبية للمقاومة، فإن لها دور كبير في الحفاظ على زخم المقاومة ورفدها بالكوادر، وإبقاء الحقوق حية لا تسقط بالتقادم، كما أنها لا تسمح بتمدد المشروع السياسي للتفريط وتقطع الطريق على سيطرة الاختراقات وتحكمها في القرار.
لنا أن نقيم الأوضاع في حال انتفاض الجماهير العربية ومطالبتها بالحفاظ على حقوق الأمة وحقوقها الذاتية، ففي حال كهذا، لن يجد المشروع الاستعماري أي فراغات للتمدد والتحكم بمصائر الشعوب، ولن يمتلك أوراق قوة للتحكم بمصائر الإقليم.
وباختصار، فإن حماية الشعوب لحقوقها الاقتصادية، سيقطع الطريق على تمدد الشركات الكبرى العابرة للقارات والتي تشكل رافدا للقوى الاستعمارية، كما أن تمسك الشعوب بالقضايا المركزية، سيشكل رادعاً للأنظمة يحول بينها وبين مزيد من التفريط، سواء كانت الأنظمة ضعيفة وهشة ولا تقوى على الممانعة، فسيشكل الدور الشعبي سندا وداعما لها، أو كانت أنظمة عميلة، فسيشكل الدور الشعبي مانعا لها من ممارسة عمالتها.
لعل فطنة قوى الاستعمار لقوة هذا الدور الشعبي، هي ما أنتج حملة مكثفة على وعي الشعوب وإرادتها وزرع اليأس بالجماهير، ناهيك عن تزييف الحقائق وتشويش الفكر وحرف الصراعات وتغيير مساراتها.
ولعل الشعوب بعد ما تراه حاليا من أوضاعها البائسة والمتزامنة مع المهانة وغياب الكرامة الوطنية، تستفيق من غيبوبتها.
فقد ترافق الضيق الاقتصادي غالبا مع المعارك الوطنية والحصار، وكانت الكرامة والعزة خير ما يعوض الضيق، أما وأن يترافق الفقر مع المهانة والتفريط، فهو وضع غير مسبوق، ولا يليق بأمة أثبتت قدرتها سابقا على الانتصار على الاستعمار ودحره، وأثبتت ولا زالت تثبت المقاومة بها أنها منتصرة وقادرة على التصدي رغم غياب الدور الشعبي.
* كاتب مصري