حروب أمريكا الخاسرة.. من فيتنام إلى سوريا واليمن
أحمد الحبيشي
تأسيساً على ما تقدم يتضح أن أميركا وحلفاءها الدوليين والإقليميين تلقوا درسأً قاسياً من الشعب الفيتنامي الذي خرج منتصراً على أقوى دولة في العالم ، بعد سنوات طويلة من الصمود والتحدي رغم المجازر الجماعية وجرائم الحرب التي أبادت ما يزيد عن مليونين من الفيتناميين معظمهم من المدنيين والنساء والأطفال، ورغم الدمار الرهيب الذي أصاب القدرات الاقتصادية للشعب الفيتنامي، والتي قدرتها الأمم المتحدة بحوالي 170 مليار دولار.
من نافل القول أن وسائل الإعلام العالمية تداولت مشاهد انسحاب الجيش الأميركي وهروب ما كان يُسمّى الرئيس الشرعي فان ثيو وقادة وجنرالات حكومته المعترف بها من الأمم المتحدة.
وبالقدر ذاته كان انتصار الشعب الفيتنامي في معركة الدفاع عن الحرية والاستفلال مصدر إلهام للشعوب المناضلة في سبيل التحرر من الاستعمار وتحقبق التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
ومما له دلالة أن قائد حيش التحرير الشعبي الفيتنامي الجنرال نجوين جياب اعتذر عن المشاركة في مفاوضات باريس للسلام عام 1973، حيث ترأس الوفد الأميركي وزير الخارجية هنري كيسنجر وجهاً لوجه أمام وفد يتكون من أربعة ضباط في جيش التحرير الفيتنامي .
في 27 يناير 1973 تم التوقيع على اتفاقات باريس للسلام التي نصت على «إنهاء الحرب وإحلال السلام في فيتنام» ، وقد تزامن التوقيع على هذه الاتفاقيات مع اقتحام جيش التحرير الشعبي الفيتنامي مدينة سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية ، وإعلان تغيير اسمها الى مدينة (هوشي منّه) في الوقت الذي وقّع فيه هنري كيسنجر على وثيقة سحب القوات الأميركية من آخر قاعدة لها في سايجون عاصمة ما كانت تُسمّى (الحكومة الشرعية) ، حيث انتهى رسميا التدخل الأميركي المباشر في حرب فيتنام. وتم إعلان وقف إطلاق النار في جميع أنحاء شمال وجنوب فيتنام.
كما تم الإعلان عن إنهاء تحالف الدول التي شاركت في العدوان الأميركي على فيتنام وهي : استراليا ، نيوزيلندا ، كوريا الجنوبية ، تايلاند ، الفليبين وبريطانيا باسم التحالف الدولي لحماية (الشرعية) في فيتنام ، علما أن هذا التحالف تفكك خلال سنوات العدوان بسبب صمود وتصميم الشعب الفيتنامي على التصدي للغزاة وحماية سيادته واستقلاله إلى جانب تفشي الفساد والضعف في أوساط ما كانت تُسمّى (الحكومة الشرعية والجيش الوطني) ، وانكشاف الجرائم المعادية للإنسانية التي ارتكبتها القوات الأميركية وقوات الرئيس فان ثيو خلال سنوات الحرب.
في 27 يناير 1973 انتهى رسمياً التدخل الأميركي المباشر في حرب فيتنام والذي استمر أكثر من 12 عاماً .
رفضت أميركا تقديم أي تعويضات لحكومة فيتنام الحرة، حيث كانت تراهن على عجز الشعب الفيتنامي على إعمار ما خربته الحرب، بعد انتصاره الساحق على الجيش الأميركي.
ويشرفني أنني كنت شاهداً على بدايات مسيرة بناء فيتنام الحرة بعد أن استعاد الشعب الفيتنامي حريته ووحدته ، حيث تلقيت في عام 1988 ثلاث دعوات رسمية للمشاركة في احتفالات الذكرى الخامسة عشرة للنصر، كانت الأولى من المجلس الوطني الفيتنامي بصفتي عضواً في مجلس الشعب الأعلى، والثانية من اتحاد الصحفيين الفيتناميين بصفتي نقيبا للصحفيين في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، والثالثة من وكالة الأنباء الفيتنامية بصفتي رئيساً لوكالة أنباء عدن.
وقد حرص الفيتناميون على أن يكون هذا الاحتفال عالميا ، وأن يتم في مدينة (هوشي منّه) التي كانت تُعرف باسم (سايجون) عاصمة ما كانت تُسُمى (الحكومة الشرعية) ، بما يسهم في تقديم لوحة للإنجازات التي حققها الشعب الفيتنامي في مجال البناء والإعمار خلال 15 عاما من الحرية والاستقلال، بعد 15 عاما من العدوان والاحتلال.
وأثناء زيارتنا لموقع قاعدة دان بيان فو التي تداولها وانهزم فيها كل من الجيشين الفرنسي والأميركي بعد الحرب العالمية الثانية ، أعلن الفيتناميون عن تدشين مشروع بناء أول مدينة صناعية رقمية في جنوب شرق آسيا ، وكنت فخورا باختياري عن العالم العربي ضمن ممثلين من ست قارات تم تكليفهم بزراعة ست أشجار نادرة ، في المداخل الشمالية والجنوبية والشرقية والغربية للقاعدة العسكرية الفزنسية الأميركية التي كان تحريرها مرتين عملا أسطوريا لجيش التحرير الشعبي الفيتنامي.
وبما أنني قررت تخصيص هذه الحلقة للحديث عن فيتنام الجديدة ، فقد سعدت حين عرفت أن مشروع المدينة التي شاركت في زراعة شجرة تحمل اسم (الصداقة اليمنية الفيتنامية) على أحد مداخلها الستة أضحى معلماً جباراً صمن العديد من معالم كفاح الشعب الفيتنامي على طريق البناء والتقدم والحياة العصرية.
في منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وبعد انتهاء الحرب التي خاضتها فيتنام من أجل الاستقلال والوحدة تحت قيادة الزعيم التاريخى «هوشى منّه» لم يتبق من البلاد سوى قرى معدومة ومزارعين فقراء وعمال لا يجدون وظائف، ومبان وشوارع دمرتها الحرب، وقد قال لي أحد الذين زاروا البلاد في هذا الوقت إنه كان يشم رائحة الفقر والخراب والدمار في كل قرية ومدينة، ولم يكن من الممكن أن يتنبأ أحدٌ بأن هذه البلاد سوف تحقق معجزة وتتغير شوارعها ومبانيها ومعيشة سكانها ، وتدخل إلى عالم الحداثة خلال أقل من 25 عاما لتكون بذلك الأسرع في تحقيق التقدم الاقتصادي والصناعي بين النمور الآسيوية بما فيها الصين .
يصف الإعلام العالمي الاقتصاد الفيتنامي بأنه نمر آسيوي ، حيث احتلت المرتبة الثانية عالمياً كأسرع معدل نمو لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمتوسط 6.2% منذ تحريرها .
واللافت للنظر أن منتجات فيتنام عالية الجودة غزت أسواق دول صناعية كبرى مثل اليابان والولايات المتحدة والصين وأوروبا وغيرها، لتنضم إلى «نادى النمور الاقتصادية الآسيوي»، إلى جانب كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وماليزيا وإندونيسيا، حيث كانت المؤسسات النقدية والخبراء الاقتصاديون يعتبرونها من أفقر دول العالم ، بعد أن دمرتها الحرب التي شنتها عليها الولايات المتحدة في نهاية ستينيات القرن الـعشرين، خوفا من وقوعها في دائرة النفوذ الصيني والسوفييتي .
تمثل تجربة فيتنام الاقتصادية الناجحة واحدة من قصص النجاح الآسيوي على مدى السنوات الـ 40 الماضية التي تلت التجربة اليابانية الرائدة مع بداية 1960، والتي بدأت بكوريا الجنوبية، ثم تايوان والصين وماليزيا وإندونيسيا وهونج كونج، ثم الموجة الثالثة التي ضمت كلا من تايلاند والفلبين والهند.
وسجلت التنمية في فيتنام على مدى السنوات الثلاثين الماضية ارتفاعاً لافتاً للنظر، فيما أدت الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي بدأت في عام 1986 لدفع النمو الاقتصادي السريع والتنمية الشاملة ، وتحولت فيتنام البالغ تعداد سكانها 92.6 مليوناً من واحدة من أفقر دول العالم إلى دولة قوية متوسطة الدخل..
وبحسب «البنك الدولي» تتمتع فيتنام بنمو اقتصادي قوى ومتسارع ، حيث بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي في فيتنام 6.4% سنوياً في العقد الأول من القرن 21 ولا تزال توقعات النمو متوسطة الأجل جيدة جداً.
الى ذلك أكدت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني أن الاقتصاد المتنوع لفيتنام يكسبها قدراً أكبر من المرونة ، حيث تنتشر الصادرات عبر مجموعة متنوعة من المنتجات والأسواق، ما يعزز قدرتها على استيعاب الصدمات الاقتصادية.
سعت الحكومة الفيتنامية لتطبيق الإصلاحات الأساسية من أجل تلبية الاحتياجات الاقتصادية المتطورة ، والاستمرار في المنافسة والحرص على حل مشاكلها مع جيرانها ، ومواصلة التعاون الإقليمي والتنمية المشتركة معهم خاصة الصين، كما دخلت الاتفاقية التجارية بين فيتنام والولايات المتحدة الأمريكية- عدوتها السابقة- حيِّز التنفيذ قرب نهاية 2001، وشرعت فيتنام في عمل العديد من الإصلاحات الاقتصادية في أواخر التسعينيات، فضلاً عن بعض الإصلاحات المالية المتعلقة بالاقتصاد الكلى، كما بدأت بإقامة علاقات واتصالات دبلوماسية مع أكثر من 117 دولة، ناهيك عن أنها عضو في أكبر تجمع آسيوى مثل (تجمع جنوب شرق آسيا ).
نجحت فيتنام في الفترة الأخيرة في جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتمويل أكثر من 3000 مشروع برأس مال 15.8 مليار دولار وبزيادة 9% عن العام السابق، ولديها 2800 مكتب لشركات أجنبية في فيتنام، حيث يستفيد المستثمرون الأجانب من تخفيض الرسوم الجمركية بموجب الصفقات التجارية، والإعفاءات الضريبية الكبيرة، وفي عام 2015 مررت فيتنام قواعد جديدة للاستثمار الأجنبى أكثر تنظيماً بما يُسرِّع في منح التصاريح للشركات الاستثمارية، ومن المتوقع أن تجنى ثمارها هذا العام.
في هذا السياق انتقلت فيتنام من الصناعات التقليدية إلى الصناعات التكنولوجية التي لها نصيب كبير من مجمل الصادرات لتصل إلى 25% عام 2015، وأكدت المؤشرات ارتفاع مستويات الدخل، وتضاعف حجم الطبقة المتوسطة لتصل إلى 33 مليون نسمة بحلول عام 2020 الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة معدلات الاستهلاك، التي لها مردود جيد على الاقتصاد.
وتمتلك فيتنام قوة عاملة كبيرة، حيث يبلغ عدد السكان العاملين 44 مليون نسمة، وقوة عاملة شابة تصل لنحو 47% من عدد السكان، ولديها مستوى تعليم عالٍ مقارنة بالبلدان النامية الأخرى، وصاغت فيتنام خطة رئيسية لتنمية الموارد البشرية بحلول عام 2020 تهدف إلى أن يتلقى 40% من الشبان والشابات تدريباً مهنياً و20% منهم تعليماً جامعياً.
أيقنت سلطات فيتنام أن تمهيد الطرق وشق المزيد منها يعد عنصرا رئيسيا لتحقيق الإصلاح الاقتصادي والتوسع في القطاعات التجارية المختلفة، وعاملا مهما للغاية في جذب الاستثمارات الأجنبية.
وبعد أن كانت معظم الطرق الرئيسية في البلاد غير ممهدة ومدمرة بسبب الحرب وتقود إلى حوادث كارثية تتسبب في خسائر اقتصادية وبشرية مميتة، أنفقت السلطات مليارات الدولارات لتطوير شبكة الطرق بصورة رائعة حتى أن الخبراء يقولون إنها تفوقت في هذا الصدد على جارتيها تايلاند والفلبين، وهما الدولتان اللتان سبقتا فيتنام في تبنى الإصلاح الاقتصادي، غير أن مسيرتهما تعثرت ولم يصلا إلى المستوى الذي وصلت إليه فيتنام بسبب نظامها الاشتراكي القائم على اقتصاد السوق وفق الخصائص المحلية.
كما أن شبكة الكهرباء أصبحت تغطى أكثر من 96% من البلاد، بعد أن كانت منذ أقل من 20 عاما لا تغطى نصف قرى ومدن فيتنام، كما زاد عدد المطارات والموانئ وأصبحت تعمل وفق أحدث الأساليب والتقنيات الرقمية.
رصد الخبراء نقطة مهمة في أسرار التقدم الاقتصادي لفيتنام، وهي أن الحكومة شجعت الشباب من الذكور والإناث ، وقدمت لهم التسهيلات لإقامة مشروعاتهم الخاصة بشكل مختلط ، فيما قدمت البنوك قروضا طويلة الأجل للشباب من الجنسين، وللمستثمرين المحليين لبدء نشاط اقتصادي وتأسيس شركات، حيث يحصل الشباب على قروض ميسرة للغاية من البنوك لبدء مشروع تجاري صغير، وقد لاحظ الخبراء أن التسهيلات التي قدمتها فيتنام للشباب لبدء مشروع تجاري أكبر بكثير من تلك الإجراءات المعمول بها في الصين والهند ودول آسيا الأخرى، وبالتالي لعبت دورا مهما في رواج النشاط التجاري والاقتصادي والاستثماري بفيتنام.
ويمكن القول إن فيتنام تحولت بصورة مذهلة إلى ما وصفها الخبراء «مغناطيس» يجذب الاستثمارات الأجنبية، وتدفقت الشركات من اليابان والولايات المتحدة وهولندا وفرنسا وسويسرا والصين وبريطانيا وحتى هونج كونج وتايوان إلى فيتنام لتأسيس مصانع متطورة ، وتشييد فروع لها في هذه البلاد الواعدة .
ويعتبر الخبراء فيتنام من أكثر الدول الآسيوية جذبا للاستثمارات الأجنبية والمستثمرين الأجانب، وأنه بفضل تلك الاستثمارات حققت فيتنام هذا التقدم الاقتصادي والصناعي المذهل.
وتشير العديد من الدراسات البريطانية على وجه التحديد إلى أن فيتنام خلال العقود الثلاثة الأخيرة كانت أهم مقصد للمستثمرين الأجانب- بعد الصين والبرازيل والهند وروسيا- ففي عام 2003 ـ على سبيل المثال ـ كان حجم الاستثمارات الأجنبية نحو 3.2 مليار دولار فقط، قفز في عام 2008 إلى 71.7 مليار دولار، ويقدره الخبراء في عام 2016 بنحو 103.24 مليار دولار.
وهكذا تحولت فيتنام بسرعة مذهلة من دولة يعتمد اقتصادها على الزراعة بشكل أساسي إلى دولة تقدم المنتجات الصناعية عالية الجودة، فضلا عن الخدمات الراقية التي لا تقارن إلا بالدول المتقدمة مثل اليابان وسنغافورة والصين وأمريكا.
كان هذا حصاد الحرب الخاسرة التي خاضتها أميركا في فيتنام .. لكن العقل السياسي الأميركي واصل حصد الخيبات في سوريا واليمن على نحو ما سيأتي لاحقاَ.
يتبع