ماذا يحدث في السودان؟
أحمد فؤاد
من حق كل إنسان أن يشعر بالسعادة مع قدوم عام جديد، وإن لم يشعر بها فإنه سيبحث عنها، ميلاد جديد يساوي فرصًا جديدة، وحياة تمتد نحو أحلام من الممكن الحصول عليها، لكن العالم العربي المنكوب بالمآسي يبحث فقط عن استمرار الحياة بشكلها المحتمل إنسانيًا، كما في السودان، التي تعبر مخاضًا صعبًا، بين ماضِ لا يريد الرحيل، ومستقبل مفتوح على احتمالات المجهول، بأكثر ما هو واصل لبر النجاة.
البلد العربي الأغنى في موارده الزراعية، والذي يعد واحة خصبة في محيط من الرمال، ويتفجر بالأنهار في حين يمضي غيره في بحر من الجفاف، يعاني وللغرابة من أزمة غذاء، ويقبع تحت نظام حكم فشل في الحفاظ على قدس أقداس أي وطن، وهو وحدة أراضيه، ومعهما يخوض الشارع صراعًا مع نظام السيطرة الحاكم، بأدواته وحزبه ومؤسساته، بلا بديل واضح، يضمن انتقالًا –لو حدث- سلسًا، ويدفع باتجاه حكم وطني.
الاقتصاد في السودان هو عقدة الأزمة ومفتاح الحل، كما في غيره من الدول العربية بالمناسبة، فكلنا في الهم شرق، كما ورد على لسان أمير الشعراء أحمد شوقي، فمن جدب يضرب الرؤية الحكومية تجاه الاقتصاد والإدارة اليومية الروتينية، إلى تجريف شمل الحياة السياسية بالبلد، وترك المعارضة عالة على شعب يتوق للعدالة أولًا، ثم الحرية والانعتاق من التبعية، سواء للغرب أو الخليج، رغم الإمكانيات الواسعة للقطاع الزراعي السوداني.
ويكفي للتدليل على عمق الأزمة الحياتية للسواد الأعظم من الناس، معرفة أنه في حين يبلغ متوسط الرواتب نحو 1600 جنيه سوداني، فإن رغيف الخبز وصل إلى 5 جنيهات، وكيلو اللحم إلى 250 جنيهًا، في بلد زراعي بالدرجة الأولى، مع انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار الأمريكي، من 47 جنيها للدولار في أكتوبرالماضي، إلى 72 جنيها للدولار حاليًا.
والأرقام الإحصائية للزراعة السودانية صادمة ومبشرة في آن واحد، فالأراضي الصالحة للزراعة والمتوافر لها الري تبلغ 200 مليون فدان، أي نصف كل الأراضي الصالحة للزراعة بالوطن العربي، وبإمكان أي حكومة تملك خطة واضحة أن تظفر بكعكة تبلغ 30 مليار دولار، هي حجم الاستيراد الخليجي من المنتجات الغذائية، وستستفيد قطعًا من قرب المسافات مع الخليج، حيث لا يفصل بينهما سوى البحر الأحمر، وتكفل الرزق لنحو ثلثي عدد السكان ممن يعملون بالقطاع الزراعي، فضلًا عن أية مشروعات أخرى متعلقة بالتصنيع الغذائي، تلك السوق الآخذة في النمو.
وتشير الأرقام إلى أن الأراضي المستغلة فعلا لا تتجاوز 15% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة، أي ثلاثين مليون فدان فقط، وتقف السعودية في مقدمة الدول العربية المستثمرة في القطاع الزراعي بمبلغ 11 مليار دولار، تليها الكويت باستثمارات تسعة مليارات دولار، فالإمارات بستة مليارات، وقطر بمبلغ 1.7 مليار دولار.
لكن الدولة السودانية تتعامل ببؤس شديد مع ملف الزراعة، كما غيره، فاختصرت القطاع الزراعي في مجرد جذب استثمارات خليجية، اعتمادًا على توافر الأرض والمياه، ولم تذهب إلى ما هو أكثر من ذلك، ومارست نوعًا من الانسحاب الكبير من إدارة أهم نشاط بالبلاد، والنتيجة أن عائدات الأراضي المستثمرة بواسطة الخليجيين تذهب مباشرة للتصدير، وتعتمد على زراعة المحاصيل النقدية، ولا تضمن الحد الأدنى من مصلحة البلد، التي تركت عرضة لهوى رجال المال.
الأغرب أن الحكومة لم توفر -حتى الآن على الأقل- حصص القطاع الزراعي من الوقود، وهو ما يمثل بالكاد 7% من استهلاك الوقود في عموم السودان، ما يهدد الموسم الزراعي الحالي بنكسة كاملة، تضيف مزيدًا من ملح المعاناة على جراح نقص المواد الغذائية، والارتفاع المتزايد في أسعارها. وتُرجع الحكومة أزمة المحروقات إلى تهاوي الإنتاج النفطي إثر انفصال جنوب السودان عنه في 2011م، من 450 ألف برميل إلى ما دون 100 ألف برميل.
وتلجأ الحكومة إلى استيراد أكثر من 60% من المشتقات، لتلبية الاستهلاك المحلي، بينما تشهد البلاد أزمة مالية خانقة، ومع عدم التوصل لاتفاق بين حكومتي شمال وجنوب السودان، حول إعادة ضخ نفط الجنوب –الحبيس- عبر موانئ الشمال، فإن السودان محروم من الرسوم النقدية جراء المرور في أراضيه، ومحروم كذلك من الاستفادة بحصة من النفط، كانت بلا شك ستكفل توفير جزء من احتياجات البلاد العاجلة بسرعة.
ومع الحصار الغربي على السودان، تألفت طبقة جديدة من المنتفعين، كما حدث سابقًا في العراق زمن حكم صدام حسين والبعث، وما يهم هذه الطبقة المسيطرة على المال والسلطة أن تستمر المعاناة، وأن يستمر النقص، لتتكسب أضعافاً مضاعفة من الاستيراد على حساب المصلحة العامة للناس.
الشعب السوداني ثائر في الشوارع، في المدن، ومصمم على نزع آخر ورقة توت يستر بها نظام البشير نفسه، وهي ورقة حكم يزعم أنه وطني، فيما تؤكد كل تصرفاته أنه نظام لا يعرف عقيدة إلا المصلحة والطمع، المصلحة في استمرار الأزمة ليراكم سدنة النظام والمنتفعون من ورائه المزيد من الأموال الحرام، والطمع في فتات الموائد الخليجية، في صورة مساعدات لا تسمن ولا تغني من جوع، ومع نزيف الدماء في حرب اليمن، فإن الضغوط على الشارع -ومن الشارع- مرشحة للتصاعد لا الخمود.
الحقيقة أن الثورة في السودان مسألة مخيفة، فالبلد شهد انقساماً مسبقًا، قبل أقل من عقد ونيف، وهناك خناجر تمتد في خواصره، تهدد بالانفصال، وترغب فيه، مع تدفق الدول الراغبة في السيطرة، وفي موطئ قدم هناك، بالتزامن مع معارضة لم تحسم أمرها بعد، ولم تستطع تقديم ورقة واضحة بمبادئ تحوز ثقة شعبية مبدئية، وتتحول إلى عنوان للتظاهرات، التي يدفع فيها الشعب الدم اليوم وأمس، ومن المهم أن تبقى العيون مفتوحة على السودان، الجسر العربي إلى قلب إفريقيا، والذي يرغب الغرب بشدة في قطعه.