خالد محمد الشامي
قامت دروس الهدي على قراءة النص القرآني والاستهداء بهدى الله في واقع هذه الحياة ، وبالاعتماد على الطريقة التي رسمها الله للاهتداء بكتابه .
واستطاع هذا المشروع القرآني الحضاري أن يقدم بنية معرفية وثقافية أساسها كتاب الله ، وما يهدي إليه كتاب الله في علاقته بالحياة ، وفي سياق تصحيح العديد والعديد من المشكلات الثقافية التي تعاني منها الأمة ، وفي سياق التأسيس لمسارات عملية في طريق بناء الأمة بناء شاملا على أساس من هدى الله ، وضمن غاية القرآن ، ووظيفته الأساسية ، وضمن رسالته الحضارية والانسانية..
وقد امتازت الدروس والمحاضرات بالشمول ، وبأسلوبها في الطرح المعمق لقضايا وموضوعات شتى بالانطلاق من هدي الله أولا ، ومن مضامين النص القرآني بصورة أساسية ، إلى خارجه ، وإلى واقع الحياة المعيش للأمة ، وبينت كيف يمكن أن تكون العلاقة بين النص القرآني وما يهدي إليه ، وبين وقائع الحياة وأحداثها.
بمعنى آخر : لم يكن هذا المشروع في دعوته للعودة إلى كتاب الله ، وتصحيح علاقتنا به ، ونظرتنا إليه ، وتعاملنا معه ، يعتمد على خطاب ديني حماسي جماهيري ، بل على الخطاب الفكري المعمق الذي يشخص المشكلات ، ويكشف العوائق ، ويقدم الحلول ، والمعالجات ، والمسارات العملية.
هكذا في جميع ما طرحه من قضايا ومشكلات -هي في واقع الحياة وخارج النص القرآني تتعلق بالسياق الثقافي ، أو الاقتصادي ، أو السياسي ، أو التعليمي ، أو بمجال العلم والمعرفة ..أو غير ذلك – كان في جميع ما تناوله ينطلق من مضامين النص القرآني وما يهدي إليه.
ويبين – مع هذا كله – كيف أن الله قد رسم لنا الطريقة التي نهتدي بها من كتابه الكريم ، ويبين لنا المنهج والآلية التي تمكننا من تحريك هدى الله في واقع حياتنا ، كل بحسب مجاله ، والدور المناط به ، ضمن غاية واحدة ، وطريق واحد ، ورسالة واحدة هدى إليها الله سبحانه وتعالى . على أساس أن الوظيفة الأساسية لكتاب الله هي الهداية الشاملة في كل جوانب الحياة ومجالاتها ، وأن هذه الهداية الشاملة تسير ضمن غاية واحدة كبرى هي بناء الامة القادرة على النهوض برسالة الاستخلاف وتعمير الحياة بالحق والعدل ، واصلاحها على أساس من هدى الله . وهو يهدي داخل هذه الغاية وفي هذا الطريق الواحد المستقيم هداية واسعة ، لجميع الأدوار والمهام التي يتطلبها بلوغ هذه الرسالة الحضارية والإنسانية ، وعلينا مع هذا أن نعرف *”كيف نهتدي بالقرآن”؟
فبقدر ما تبدو حاجة الأمة اليوم إلى تبني هذا المشروع القرآني الحضاري ، بقدر ما تبدو حاجتها أيضا إلى معرفة ” كيف تهتدي بالقرآن ” وفق “الطريقة التي رسمها القرآن للاهتداء منه “.
هذا جانب من جوانب القيمة العلمية والمعرفية الكامنة فيما قدمه هذا المشروع القرآني.
نحن نفترض أن القرإن الكريم كلام الله وتنزيله فيه الهداية لكل شيء ، والله تعالى يقول {مافرطنا في الكتاب من شيء}
ويقول {تبيانا لكل شيء} ولكن ستظل هذه الحقائق مجرد افتراضات إذا لم نمتلك الوعي بالمنهج والطريقة الصحيحة والمناسبة لاستنطاقه والاستهداء به.
وربما لفت هذا الأمر انتباه البعض ، و ترددت الفكرة حول امكانية : بلورة المنهج ، ونمذجته ، واستخلاص المفاهيم الأساسية لاستنطاق النص القرآني والاستهداء به في واقع الحياة .
وذلك مع ما لهذا النوع من المعرفة من أثر هام ، يبنى عليه في النشاط العلمي والمعرفي عموما ، على اختلاف تخصصاته ومجالاته ، وعلى تنوع الأدوار والمهام للمنشغلين داخل هذا النشاط من تدريس وتعليم ، وبحث ، وفلسفة علوم ، وقواعدها ..وفي كل مجالات البحث العلمي المرتكز على كتاب الله وهديه.
ومع كون النشاط العلمي والمعرفي أهم نشاطات المجتمع وأكثرها حيوية في طريق نهوضه وتقدمه.
ومع كون المنهج المتسم بالعلمية ، و الموضوعية ، الذي يضمن -الالتزام به والسير عليه – الوصول الى تفسيرات للظواهر ، وفهم للحقائق ، والتأسيس لمسارات علمية ، وبرامج عملية ، وخطط عملية ، هو مطلب حثيث للمجتمع المعاصر ، ومؤسساته ، ولرجال الفكر ، والعلماء ، ولطلبة العلم كذلك ..
ولا نظن القرآن الكريم لا يهدي إليه.
وإذا كان قد هدانا إلى الطريقة الصحيحة للاهتداء منه ، فسيكون بذلك قد اعطانا مفتاح كل شيء من ذلك وغيره ، ولاشك.
فمثل هذا النوع من المعرفة هو كنز ، وثروة فكرية ، وحضارية ، يهدي إليها الله من اصطفاهم من أعلام الهدى ليبينوها للناس ، لاسيما مع اختلاف الناس -عوام ، ومثقفين ، وعلماء – بالاخذ من كتاب الله ، بسبب طرق التعامل معه ، وتفسيره ، وفهمه.
ومع تعدد السبل وتفرقها ، وضياع السبيل الواحد ، والصراط الواحد ، يبتعد الناس عن الهداية الحقيقية من كتاب الله .
*إذا : “كيف نهتدي بالقرآن “؟ أو ما هي “الطريقة التي رسمها القرآن للاهتداء منه “؟ أو كيف ” استنطق النص القرآني واستهدي به في واقع الحياة”؟
تلعب المؤسسات العلمية والتعليمية ، ووسائل التعليم الرسمية وغير الرسمية ، دورا أساسيا في اكساب المجتمع مثل هذا الوعي ، وهذه المعرفية والثقافة القرآنية التي يجب أن تسود بين أبناء الأمة القرآنية ، كما أن من شأنها ومن شأن العاملين فيها البحث عن مثل هذه المعارف ، والتقاطها ، وبلورتها ، والبناء عليها ، وإعادة تقديمها فيما ترسمه من خطط تربوية وتعليمية ، وفيما تضعه من مقررات دراسية ..
ويعتبر المشروع القرآني الحضاري بجملته ، وكذا الخطابات التثقيفية التوعوية من هدي القرآن – للسيد عبد الملك حفظه الله- نماذج تطبيقية ، وتمثيلية ، ومراجع تضمنت الطريقة التي رسمها القرآن للاهتداء به ، بصورة مباشرة ، وغير مباشرة
*وهناك جملة من الملاحظات والنصائح المتعلقة بالخطوات العملية لاستقراء المفاهيم المنهجية الأساسية للطريقة التي رسمها القرآن – من داخل دروس الهدي ومن محاضرات السيد عبد الملك حفظه الله – ونمذجتها في دليل إرشادي يتضمن التوجهات الرئيسية والمبادئ التي يسير عليها مستنطق النص القرآني ( أو الباحث القرآني ) ، والتي يمكن مراعاتها :
الطريقة التي رسمها القرآن للاهتداء به -بالعودة إلى دروس الهدي أو محاضرات السيد عبد الملك كما أشرنا – تكمن دائما في الآيات القرآنية التي وردت في سياق مديح القرآن ، وفي بيان خصائصه، وطبيعته، ووظيفته، وغايته ..، والتي تنعكس مضامينها كمفاهيم منهجية إجرائية للاهتداء بالقرآن ، وفهمه ، وما يجب أن نكون عليه في تعاملنا معه .
وهذا يفسر لنا : كيف ، ومتى ، وأين (يرسم القرآن الطريقة للاهتداء به) كما يعبر صاحب الدروس رضوان الله عليه ، أو كما يعبر أحيانا بقوله علينا أن نعرف (كيف نهتدي بالقرآن).
أحيانا ترد الإشارة – في دروس الهدي- بصورة مباشرة لآلية من آليات قراءة النص القرآني ( معرفة أساليب اللسان العربي) أو ( ربط القرآن بالحركة في الحياة) وبهذا يسهل على الباحث رصد مفهوم من المفاهيم ، ثم تعقب ما يتعلق به أيضا من فروض ، وحدود في بقية الدروس . وأحيانا تكون بعض المفاهيم المنهجية دون هذه الطريقة المباشرة ، مثلا : عند حديث صاحب الدروس رضوان الله عليه على بعض الفنون والقواعد التقليدية المتبعة في قراءة النص القرآني ، وتبيينه لمخالفتها ما هدى إليه الله في كتابه ..وأحيانا خلال الحديث حول مديح القرآن ، والحديث عن إعجازه ومعنى بيانه وبلاغته ..
عموما فإن البحث والاستقصاء لاستخراج المنهج ، وبلورته ، هو أشبه بالبحث والاستقصاء لذلك النوع من المعارف الضمنية التي لازالت كامنة ، متضمنة في طيات العديد من الوقائع ، والتفاصيل ، والأحداث ..أعني أن عليه أن يلتفت في بعض الأحيان إلى كونها موجودة دائما وحاضرة في ثنايا الحديث ، وفي جميع ما يطرح من موضوعات ، ومشكلات ، ومعالجات – في دروس الهدي ، وفي محاضرات السيد عبد الملك التوعوية من هدي القرآن – لان تلك الخطابات (المراجع) هي بالعادة “توليد” عن النص القرآني ومضامينه ، بواسطة هذا المنهج المراد استنباطه ، وهي ممارسة عملية تطبيقية لمبادئه وإجراءاته ، وللطريقة التي رسمها القرآن للاهتداء منه . بالتالي لا يمكن بلورة نموذج منهجي واضح ، متماسك ، مكتمل المعالم ، يركن إليه ، بالاعتماد على ملاحظة ماجاء الحديث عنه بصورة مباشرة حول آليات القراءة ، وحسب .
لكي نتمكن من نمذجة المنهج ، وتقديمه في دليل إرشادي يمكن الركون إليه ، والاعتماد عليه ، والقياس عليه ، في مختلف نشاطنا المعرفي والعلمي الذي يعتمد النص القرآني (إطارا مرجعيا له) فإن المفاهيم المنهجية المستخلصة من الدروس لا بد أن تقرأ ، وتستنبط من داخل تلك المراجع بوصفها :
جملة من المبادئ ، والفروض ، والعمليات الإجرائية لمباشرة النص القرآني . اللازم الوعي بها والتزامها .
وإذا تدبر فيها الباحث سيجد أنه لابد لها (لجملة هذه المفاهيم المنهجية الأساسية) أن تنتظم في ثلاثة محاور رئيسية تشكل البنى الأساسية لهيكل المنهج ، ونموذجه :
الأول : ما يتعلق بنظرتنا للقرآن ، وكيف يجب أن تكون ؟ وماهو تعريفنا للنص القرآني ؟ ماهي وظيفته الأساسية ؟ ماهي الغاية الرئيسية للهداية الشاملة فيه ؟ ماهي خصائص وسمات النص القرآني الذي يمتاز بها نظامه الداخلي ولا يكون لغيره مما يمكن للبشر والجن أن ينتجوه مجتمعين (الترابط ، الشمول ، الاتفاق فيما يؤدي إليه) وذلك على تنوع وسعة ما يتناوله من موضوعات وقضايا .
الثاني : ما يتعلق بتعاملنا مع النص القرآني ، وإجراءات القراءة والاستنطاق، من مثل المفاهيم الاجرائية التالية : النظرة الكلية ..وماذا تعني إجرائيا في مقابل النظرة التجزيئية ( النظر في العلاقات بين الاجزاء والعناصر ومراعاتها ، الجزء الذي يبدوا عاديا يكتسب أهميته بالنظر الى علاقته لما بغيره ، .. ) ماذا يعني التدبر إجرائيا ..وما هو مفهوم العرض على كتابه الله ، وملاحظة الاتفاق/ الاختلاف في المستوى العميق (فيما يؤدي اليه النص ) وما هو معنى ما يؤدي إليه النص القرآني ، ومعنى محورية النص القرآني .. هيمنته ..وأساليب اللسان العربي ومفهومه ..وغيرها مما له علاقة بإجراءات لمباشرة النص القرآني .
الثالث : ما يتعلق بمستنطق النص ، ونمط العلاقة التي يفرضها القرآن الكريم بينه وبين مستنطقه ، ومن أراد الاهتداء به ؟ وماهي الاستعدادات الداخلية والحالة الايمانية اللازمة له ..ما هو مفهوم أخذ الكتاب بقوة عمليا ، والايمان بالغيب وبما يهدي إليه كتاب الله ، أو يأمر به ..
وكذا حمل مسؤولية هذا الدين ضمن حركة عملية وذهنية ، وضمن دور من الأدوار ، والمهام التي غايتها بناء الأمة القادرة على النهوض برسالة الاستخلاف ، وتعمير الحياة وإصلاحها بالحق والعدل ..الخ .
لنلاحظ أن جملة المفاهيم المنهجية الأساسية (أو جملة المبادئ والفروض والعمليات ) والتي يتم تنظيمها في أبنية ثلاث : هي بطبيعتها مترابطة ومتفاعلة ، وهي تشكل نسقا معرفيا واحد ، وبحيث لايمكن إغفال مبدأ ، أو فرض ، أو إجراء في عملية استنطاق النص القرآني وطلب الهداية منه في واقع الحياة .
فمثلا : تعريفنا للقرآن ولغاية الهداية الشاملة فيه (يهدي لجميع الأدوار والمهام ضمن غاية كبرى هي بناء الأمة القادرة على النهوض برسالة الاستخلاف ) هو في المحور الثالث يرتبط بمفهوم حمل مسؤولية هذا الدين كاستعداد داخلي إيماني لمستنطق النص .
وتعريفنا للقرآن بأنه منهج للحياة وكتاب عملي ..هو ما ينبثق عنه حديثنا عن ربطه بالحياة وبالحركة الذهنية والعملية فيها ..وهو ما يتعلق بالحديث في المحور الثاني حول معنى تدبر القرآن ، ومعنى (ما يؤدي إليه النص القرآني) ..
وهكذا فإن جميع تلك المفاهيم جاءت مترابطة ، متسقة في دروس الهدي ، يمسك بعضها ببعض ، ويقود بعضها لبعض .
أرجو أن أكون قد وفقت في هذا المقال الموجز إلى توضيح ما يمكن أن يكون القارئ الكريم قد تساءل عنه ، وما يمكن أن يبني عليه .
وعلى الله قصد الس