بكين – واشنطن.. جمر تحت الرماد
سركيس ابو زيد
حدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب هدفين أساسيين لسياسته الخارجية: إلزام طهران الشروع بالمفاوضة من جديد على برنامجها النووي والتخلي عن طموحاتها الإقليمية، وتغيير جزء من السياسة الاقتصادية الصينية. حيث فرض ترامب على السلع الصينية المستوردة 200 بليون دولار من الرسوم. فالصين متهمة بالافتقار إلى النزاهة في العلاقات التجارية بأميركا، وفي سعيها إلى التربع في مرتبة عملاق الابتكار التكنولوجي في 2025، وتريد واشنطن إلزامها على التراجع والتفاوض معها في هاتين المسألتين، ومثل هذه المفاوضة يقوض ركناً من أركان نموذج النمو الصيني. والنزاع مع الصين متعدد الأشكال. فإلى الحرب التجارية المعلنة، وصفت الولايات المتحدة الصين بـ”الخصم الاستراتيجي”.
في الواقع، لم يخفِ دونالد ترامب نياته تجاه الصين منذ أن كان مرشحاً للانتخابات الرئاسية، وتندرج الحرب التجارية التي شرع فيها ضد بكين، عبر رفع الرسوم الجمركية على 5745 منتجاً صينياً إلى 10% حتى الأول من كانون الثاني/ يناير 2019، ومن بعدها رفع هذه الرسوم إلى 25%، كترجمة عملية لهذه النيات. لكن اللافت هو انضمام رموز بارزة من أوساط النخب السياسية المعارضة لترامب إلى حملة التهويل بالخطر الصيني والدعوة إلى مواجهته باعتباره التحدي الأبرز بالنسبة إلى الولايات المتحدة على الصعيد الدولي في المستقبل القريب.
ستيفن والت، أحد أقطاب المدرسة الواقعية في الوسط السياسي والأكاديمي، والناقد المعروف للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، انضم الى مجموعة المهوّلين بالتهديد الصيني. ففي مقال نشره على موقع دورية “فورين بوليسي”، يرى والت أنه مع حلول عام 2025، سيسود على المستوى العالمي نمط من التعددية القطبية غير المتوازنة، تحتفظ في إطارها الولايات المتحدة بتفوّق نسبي، نظراً إلى امتلاكها رزمة من أوراق القوة التي لا تضاهى في مجالات القدرة الاقتصادية والتطور التكنولوجي النوعي والقدرات العسكرية والديمغرافية المواتية، لكن تنافسها سيكون على أشده مع اللاعب الدولي الذي يليها، وهو الصين.
فالرسوم الجديدة ليست خطوة متهورة ومتسرعة صادرة عن إدارة ترامب فحسب، بل هي تنذر بأمر أخطر وأثره أفدح، وهو إرساء العلاقات الاقتصادية والسياسية بين أميركا والصين على معايير جديدة. والخطوة الأخيرة هي أقرب إلى حرب باردة مما هي إلى حرب تجارية. لكن الصقور الاقتصاديين في إدارته، مثل مستشار الرئيس للشؤون التجارية، بيتر نافارو، وروبرت لايتهيزر، ممثل أميركا التجاري، يرون أن مصلحة الولايات المتحدة القومية على الأمد الطويل تقتضي الانفصال الاقتصادي عن الصين. ويوافقهم الرأي كثيرون في البنتاغون، وبعض الفصائل العمالية في اليسار التقدمي. وشطر راجح من هؤلاء سيكون في مواقع السلطة بعد رحيل ترامب. ومشروعهم مختلف، وهم يجمعون على أن بلدهم والصين تخوضان منافسة استراتيجية طويلة الأمد، ويترتب على المنافسة هذه عدم الفصل اليوم بين السياسات التجارية وسياسات الأمن القومي. وهذا انعطاف كبير في عالم الأعمال المعولم.
في المقابل، يتكاتف الصينيون والروس لتحدي النظام الأميركي، فاليوم تجمع الصين وروسيا على رؤية واحدة: السعي إلى تغيير النظام الدولي. وهما ترغبان في ترجيح كفة الدول على كفة الأفراد والمجتمع المدني، وفرط عقد التحالفات الأميركية وإرساء إجراءات متناغمة، أي استتباع الدول التي تدور في فلك كل منهما.
قد ينساق الغرب وراء تغليب روسيا على الصين أو الأخيرة على الأولى. وأقبل المحللون الصينيون على تقارير تنسب إلى هنري كيسنجر اقتراحه على دونالد ترامب التوسل بروسيا لاحتواء الصين. لكن كيسنجر نفى هذه التقارير. ويرى بعضهم أن الشراكة مع الصين بالغة الأهمية. إلا أن مثل هذه الرؤى غير مصيبة. فأميركا تربطها صداقات كثيرة مع أنظمة هي في معظمها ديمقراطيات. وفي وسع التحالفات هذه الوقوف في وجه روسيا والصين. ولكن ترامب يسيء معاملة أصدقاء أميركا. ففي وقت بادر فلاديمير بوتين إلى خطوة بارعة في الديبلوماسية العسكرية، مناورات “فوستوك ـ 2018″، ألغى ترامب المناورات المشتركة مع كوريا الجنوبية على خلاف توصية الجنرالات الأميركيين. وتقلق اليابان من احتمال تفريط أميركا بأمنها في النزاعات التجارية. وعلى رغم أن الأوروبيين تنفسوا الصعداء في قمة الناتو الأخيرة في الصيف الماضي حين لم تؤد إلى أزمة، أدى استخفاف ترامب بالحلفاء، سواء كانوا من الدول الكبيرة مثل ألمانيا أو صغيرة مثل مونتينيغرو، إلى تصدع بالروابط الأطلسية.
على صعيد آخر متصل، تشكل إفريقيا ساحة رئيسية في ساحات الصراع أو الحرب الباردة بين الصين وأميركا، وهي حرب تجارية اقتصادية بالدرجة الأولى. وفي هذا المجال نشرت “واشنطن بوست” الأميركية مقالا جاء فيه: “منطقة القرن الأفريقي حيوية واستراتيجية في ميزان الولايات المتحدة. لذا، فإن تعاظم تدخل الصين في تلك المنطقة هو تحد بارز أمام أميركا. وأبرز مسارح النفوذ الصيني المستجدة هي جيبوتي، فتعاظم المرابطة الصينية والتدخل الصيني في جيبوتي يهددان اليوم المصالح الديبلوماسية والقومية الأميركية ومصالح حلفائها. وتقع جيبوتي على خط تجاري هو من أكثر الخطوط التجارية البحرية ازدحاماً في العالم. ومصالح الصين الاقتصادية هناك واضحة. وأنشطة بكين العسكرية في جيبوتي هي أكثر فأكثر مدعاة للقلق. فالقاعدة الأميركية هناك حيوية في شن عمليات استخباراتية وعمليات مكافحة إرهاب “داعش” و”القاعدة” و”الشباب” و”بوكو حرام”.
اليوم، بدأ يبرز الوجه السياسي والأمني من علاقات الصين الاقتصادية بالدول الأفريقية. ويبدو إلى اليوم أن الحكومة الأميركية غير راغبة في مواجهة المشكلة أو عاجزة عن ذلك. ولا شك في أن آثار الرسوم الأميركية ستظهر في الصين أول ما تظهر. ولكن يترتب على سياسات ترامب، على الأمدين المتوسط والطويل، سعي الشركات الأميركية إلى اكتفاء ذاتي في تمويل سلسلة الإنتاج والتوزيع. وعلى المستويين السياسي واللوجيستي، يتعذر على أميركا التحول إلى قلعة موصدة الأبواب، مكتفية ذاتياً. لذا، على إدارة ترامب مد الجسور مع الشركاء التجاريين في أماكن مثل أوروبا وغيرها إذا أرادت التزام سياسة صناعية.
هل تستمر المنافسة باردة بين أميركا والصين أم تتحول تدريجياً إلى حرب لا تخلو من السخونة؟