إرادة الشعب تنتصر دوماً
■ كيف نهب “القوم السعودي” تهامة في الثلاثينيات، ولماذا وجه الملك السعودي ابنه: انسحب من الحديدة سريعاً
■ ما اسم السفينتين الحربيتين اللتين استقبلتا فيصل في الميناء؟ ولماذا غضب الكابتن هينس عندما رأى اليمنيين يُصَلُّون في مسجد واحد بخلاف ما رآه في الهند
■ ما علاقة معاهدة بريطانيا مع الإمام يحيى عام 1934 بإعلان السعودية حربها على اليمن في نفس العام
علي حسين
في 62 مارس 5102م، تعرضت اليمن لأكبر عدوان جوي في تاريخها ، وفي مارس نفسه، ولكن قبل 78 سنة، كان اليمنيون لأول مرة، يشاهدون بذهول أسراباً من سلاح الجو البريطاني وهي تقصفهم من السماء.
62 مارس 8291م، كانت “قعطبة” و “دمت” و “الضالع” و “البيضاء”، أهدافا للغارات الجوية لطيران العدوان البريطاني.
كان العدو يقلع من “عدن” المحتلة: طائرات تقذف القنابل والقذائف ، بلا رحمة، وطائرات ترمي بمنشورات تحرض “الشوافع” على قتال “الزيود”!
وكان اليمني هو اليمني ، يبحث عن وسيلة لإعطاب الطائرة.
في حرب الثلاثينيات بين اليمن والسعودية، تعرضت تهامة لعمليات نهب واسعة ورهيبة من قبل القوات السعودية. ويحتفظ كبارالسن، في تهامة وأطراف ريمة والمحويت وبُرع وحجة، كيف كان “القوم السعودي” يجمعون الماشية من داخل القرى ومن وسط المراعي والهياج؛ آلاف الجمال والأغنام والبقر ويسوقونها أمامهم.
كان السعوديون يمتطون الخيول والجمال بالمئات متحلقين حول المواشي المنهوبة من جميع الجهات يسوقونها على دفعات كغنائم ضخمة في حوزة البدو. كانوا يطلقون الرصاص هنا وهناك بشكل متواصل كي تحث الماشية السير ولا تنحرف عن الطريق.
تهامة مجتمع رعي، وكانوا يجبرون الرعاة على تسليم أغنامهم ويطلقون الرصاص على الممتنعين، وفي إحدى مناطق “القحرى”، يروي احد المواطنين، كيف أن والده الفقير اصبح ثريا في يوم وليلة، عندما تتبع طريق القوم السعودي وعمل على تجميع المواشي الشاردة من القطيع المنهوب وجمعها وعاد الى قريته بـ” هوش كبير” من الغنم والضان التي كانت تفلت من القطيع وتختفي في العروش أوتشرد.
هذه الحقائق الغائبة عن تلك الحرب، لم تكتب رغم أنها محكية إلى اليوم على ألسنة كبار السن، نقلا عن أبائهم.
هناك حقائق أخرى غائبة أيضا؛ وهي ان فيصل بن عبدالعزيز، الذي اجتاح تهامة من ميدي إلى الحديدة، كانت قواته تسير على البر خطوة بخطوة مع قوات البحرية البريطانية على الماء. وعندما وصل الحديدة في 5 مايو ، كان في استقباله قائدا السفينتين “بنزنس” و “انتربرايز”، اللذين كتبا في تقاريرهما في ما بعد أن تدابير فيصل كانت فعالة جدا، وذلك في محاوله منهم لرفع معنويات الأمير الشاب.
يقول المؤرخ الروسي أليكسي فاسيليف، مؤلف كتاب: “الملك فيصل شخصيته وعصره”، بأن البحرية البريطانية كانت حاضرة:” آنذاك ظهرت في ميناء الحديدة ثلاث سفن حربية بريطانية لحماية نحو ثلاثمائة من رعايا بريطانيا ومعظمهم من الهنود. ولم يكن هناك أي خطر يهدد الرعايا وأملاكهم”. هذه الحقائق تكشف أن تلك الحرب كانت حرب بريطانيا العظمى على اليمن وكان بن سعود أداتها العدوانية فقط.
كان فيصل آنذاك لا يعرف شيئا عن اليمن. كان يستعد لمهاجمة صنعاء! وفي تلك الأثناء وبينما كانت المفاوضات تجري لانهاء الصدام بين اليمن والمملكة، كانت أوامر ابن سعود الأب قد وصلت الى ولده فيصل أن تجهز للانسحاب السريع من اليمن، يقول باسيليف ان فيصل تألم، وكان يعتقد ان بإمكانه إلتهام اليمن، وعندما التقى الابن أباه في الرياض سأله لماذا لم نأخذ اليمن، فرد عليه الأب:” ليست اليمن بأرض الغزوات السهلة يافيصل”.
كان ابن سعود الذي طوع قبائل الجزيرة بالقوة يعي حقيقة أن اليمن ليست سهلة. وكانت القوات اليمنية قد سحقت القوات السعودية في نجران وعسير لولا الضغوط البريطانية والتهديد بقصف صنعاء بالطائرات. ونقل أليكسي باسيليف أن الملك السعودي قال لولده فيصل:” ليس لنا ان نضم البلاد اليمنية إلينا الآن”. وأضاف:” ليس من الحكمة أن نستنفذ طاقاتنا في حرب قد تستمر عشرات الأعوام. ولو كان غزو اليمن محمود العاقبة ، مأمون النتائج، لكانت بريطانيا وهي أقوى منا، قد انساقت وراء مطامعها ومصالخها وحاولت غزو اليمن، ويكفيك أن تعرف أنها لم تفعل، وبقيت في عدن فقط”.
المؤكد أن عبدالعزيز آل سعود، كان يخضع للتعليمات البريطانية بشأن حرب اليمن، وكان يلتزم بها حرفيا، ولذلك نجد أن الكابتن هينس الذي احتل عدن سنة 1834، وظل حاكما فيها 15سنة، واجه مقاومة شرسة ، فاعتمد سياسة استعمارية لتطويع اليمن لاتزال السعودية ملتزمة بها إلى اليوم، وهي سياسة ضرب اليمن ببعضه.
يشرح المسؤول البريطاني هارولد ف يعقوب المعروف بـ جاكوب، في كتابه “عدن وجنوب اليمن”، كيف أن بريطانيا عجزت عن تطويع اليمن، يقول:” لقد نوقشت كل الطرق الحكيمة والأساليب الممكن اتباعها وكان أكثرها ملائمة للظروف (فرق تسد) لأن الإمكانيات الحربية تبدو محدودة التأثير”.
ويضيف جاكوب، وهو مسؤول بريطاني كبير جاء بعد هينس واستمر عقودا طويلة، وكان واحدا من أهم وأخطر صانعي السياسة الاستعمارية في اليمن والجزيرة، بل انه هو الذي رسم الحدود الشطرية في اليمن سنة 1904، بين بريطانيا وتركيا، يضيف موضحا كيف اعتمد الكابتن هينس سياسة فرق تسد:” لم يكن من بدْ من إثارة القبائل ليقتتلوا في ما بينهم ويضرب بعضهم البعض الآخر”.
يقول كابتن هينس نفسه:” إنني أنظم الأمور وأقوم بإعداد الترتيبات وأجعل القبائل المعادية والمسالمة تقاتل ضد قطاع الطرق بدون استدعاء الحراب البريطانية”.
كان هينس قادما من الهند عندما أحتل عدن، وبعد مدة من تعرفه على اليمنيين في عدن تعجب كيف أن طائفتين مختلفتين يصلون في مسجد واحد ولا يتقاتلون بدوافع مذهبية كما هو جار في الهند وجهات واسعة من العالم الإسلامي. إنها خصوصية يمنية ومشهد لم يشاهده البريطانيون في أي بلد في العالم. يقول جاكوب بصراحة فجة:” نحن ميالون كثيرا إلى تحريك الاختلاف والتباعد بين الطائفتين في شبه الجزيرة العربية، وأسلوب التفرقة بين السنة والشيعة معروف بعنف أكبر في الهند، أما في اليمن فتصلي كلا الطائفتين في مسجد واحد، أما في الهند فلكل طائفة مسجدها الخاص”.
يضيف متعجبا:” السنة والشيعة في اليمن يتزاوجون فيما بينهم ولم أر أو أشاهد حالة نادرة أبدا، بأن رجلا غير عقيدته الدينية بسرعة كما يغير عباءته”. وفي واقع كهذا شديد التمساك الاجتماعي وموحد، قال جاكوب :” اعتقد هينس أنه من المضر بالمصالح البريطانية أن يصبح الأمام الزيدي وإمام الزيدية قريبا جدا من عدن، وقد دافع عن وجهة نظره القائلة بضرورة القيام في رسم خط للحدود (كحد) لمنع التقدم نحو الجنوب في اتجاه قعطبة، وهذا الحد الجنوبي المعين من قبل لجان الحدود الانجليزية التركية الذي تم تخطيطه بين عامي 1902 – 1904″. ثم يعترف لاحقا في الكتاب نفسه ان تلك الحدود إنما هي “حدود اصطناعية” لأن سلاطين الضالع ولحج ويافع كانوا في عقود ماضية ولاة يتبعون صنعاء، ثم انفكوا عن الإمام مع مرور الوقت، “ثم ان التداخل قوي بين بني ضبيان ويافع وبين القبائل اليمنية عموما”. لذلك عمد الاستعمار إلى تكريس التشطير ورسمته بريطانيا كواقع ظل غير قابل للتصديق والاعتراف. ما الذي تعمله السعودية والإمارات اليوم في عدن؟!
يزعم جاكوب ان العرب، يقصد اليمنيين “انفصاليون بحكم العادة والعرف الذي ثبت مع الزمن وطول الاستعمال والممارسة”. ويضيف شارحا التضاريس التي تلعب دورا في تشكيل طبائع اليمنيين أكثر من أي شيء آخر:” العرب (يقصد اليمنيين) منقسمون كما كان الألمان في زمن ناسيتوس عن طريق الشكوك المتبادلة ولوجود الجبال الوعرة، وشريعة الأخذ بالثأر تجري في دماء العرب.. العرب (اليمنيين) شعارهم الاستقلال ولا يزال ينقصهم التماسك لتحقيقه لا يستطيعون أن يحافظوا على السير في صف واحد”.
في أواخر عام 1918، سيطرت قوات بريطانيا على مدينة الحديدة لتسهيل خروج الأتراك، وبحلول عام 1919 كان معظمهم قد رحلوا، ومهما كانت دوافع بريطانيا في احتلال الحديدة فإن الإمام قد نظر إليه باعتباره مؤشرا على نوايا بريطانية عدوانية، يقول ر.ج جافن مؤلف كتاب “عدن تحت الحكم البريطاني”، بأن معاملة مبعوثي الإمام إلى عدن ” لم تؤد بعد ذلك بوقت قصير إلى إزالة هذا الانطباع العدواني”. ويذكر جافن بأن الإمام في عام 1919 تحدث أمام جمع من مشائخ اليمن عن تنبؤات مظلمة لمرحلة من الحكم البريطاني في اليمن، ودعا الجميع “إلى استعادة تضامنهم الإسلامي”. وفي الأشهر اللاحقة كانت تحركات بريطانية أخرى تتجه لتأكيد مخاوف الإمام، وبغض النظر عن قلق وحرص مكتب الحرب على إجلاء القوات البريطانية فإنها استمرت بالبقاء في الحديدة حتى جاء الإمام على عقبيه”!
لقد سلمت بريطانيا الحديدة إلى الإدريسي لاحقا، ودعمته بالسلاح والمال، لتثبيت أقدامه في تهامة، لكن الإرادة اليمنية الجامعة غلبت الإدريسي ومن خلفه بريطانيا، وهكذا كان مصير بريطانيا ومشاريعها تخسر في النهاية دوما.
أن استقراء تاريخ اليمن الحديث، وبالذات منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر إلى ثلاثينات القرن الـ20، يكشف بقوة أن اتجاه التطور التاريخي والكفاح المستمر للشعب اليمني ضد أعدائه الخارجيين، كان منصبا من الناحية الموضوعية والوطنية على غاية رئيسية كما يراها الدكتور محمد علي الشرفي ألا وهي: القضاء على الحكم التركي، الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، وضد حلفائه من سلاطين وأمراء الجزيرة العربية، التغلب على التمزق الاقطاعي وعلى بقايا المجتمع العشائري وخلق دولة يمنية موحدة مستقلة. ولقد كانت هذه العملية التاريخية منسجمة مع تيار التطور العام، وذات دلالات تاريخية وتقدمية كبرى.
ما الذي عملته بريطانيا بعد هزيمة الإدريسي في تهامة؟ استخدمت القوة المسلحة لإيقاف تقدم الجيش اليمني في الضالع نهائيا، وشجعت ابن سعود على التصدي للجيش اليمني وإيقاف تقدمه نحو عسير، وهكذا شجعت ابن سعود كأداة ضغط لانتزاع معاهدة الصداقة والتعامل بين الإمام وبريطانيا عام 1934.