اليمن والبانيا (3).. لسنا ممن يذهبون إلى اليمن
عباس الديلمي
(مقبرة الأناضول) تسمية أو صفة لم تنحصر على اليمن إذ نشاركها مع سورية الشقيقة وما تميز به اليمن وباستحقاق موغل في التاريخ فوصفه بـ(مقبرة الغزاة) وكان اليمن سيتفرد بصفة أخرى هي (مصيدة النسور) لولا تنبه إخوتنا في البانيا لمخاطر ما دفعتهم إليه الإمبراطورية العثمانية مع انتصاف القرن السادس عشر الميلادي.
لجبالها ووعورة أرضها واستبسال وشجاعة أبنائها القتالية وصفت البانيا ببلاد النسور إذ يقول الدكتور جورج حنا في كتابه (البانيا بلاد النسور) أن الدولة العثمانية “كانت عندما تقلقها انتفاضة تحررية ضدها في البلاد العربية تسرع إلى استقدام فرقة من الجيش الألباني لإخضاعها كما كانت عندما تقلقها انتفاضة تحررية البانية تسرع إلى إرسال فرقة من الجيوش العربية وتضمها إلى الجيش العثماني لإخضاع الشعب الألباني الثائر.
ولسوء حظ الألبان أو لحسن حظهم أن إرسالهم للقتال في اليمن كان لأول مرة في القرن السادس عشر الميلادي (1567م) بعد إعلان اليمن أقوى انتفاضاته في وجه العثمانيين بقيادة الإمام المطهر بن شرف الدين قائد أول حرب عصابات في العالم العربي, كما يقول مؤرخون عسكريون، ونتيجة لما واجهوه من بسالة وقوة وبأس اليمانيين ولما لحق بهم من خسائر لقد خرجوا بنتجيتين أولاهما أن لا شأن لهم بقتال اليمانيين الأشداء, وثانيهما أن يسلكوا مسلك اليمن في مقاومة السيطرة والهيمنة العثمانية فتحاشوا القتال في اليمن مما حدا بالعثمانيين أن يدفعوا بهم تحت تأثير التحريض المذهبي سنة وشيعة, كما أسلفنا, فلم يستجيبوا لذلك وبدأوا في انتفاضاتهم التحررية وأبدى البعض منهم تعاطفه مع اليمن ولهذا لم يقتل منهم كما قتل من الأتراك وإلا لكان اليمن قد تسمى ووصف بمصيدة النسور كما وصف بمقبرة الأناضول.
ومن الشواهد على ما أشرنا إليه ما نقتبسه من بحث الكاتب محمد موفاكو “بين اليمن والبانيا صلات نضالية”.. حيث يقول: إن هذه الصلات النضالية بين اليمنيين والألبانيين لا نراها فقط في صفحات الوثائق التاريخية بل يمكن أن نطالعها أيضا في الأدب الشعبي الألباني وبشكل خاص في الأغاني الشعبية التاريخية وإلى حد ما في الأمثال الشعبية المتداولة حتى اليوم كالمثل القائل “ما يوجد في اليمن لا يمكن أن يسجله قلم” وغيره.
ويتطرق الباحث إلى أغان شعبية حزينة منها أغنية تنضح بالحزن يقال أنها لجندي الباني أجبر على الذهاب للقتال في اليمن ولأن الباحث لم يسرد أبياتاً من تلك الأغنية فإنه قد جاءنا بمطلع لأغنية شعبية البانية تعبر عن رفض الذهاب للقتال في اليمن والبقاء في البانيا لمقاتلة الدولة العثمانية, ويقول مطلع هذه الأغنية.
لسنا ممن يذهبون إلى اليمن
ولن نخرج أبداً خارج البانيا
كيف لا تصدر مثل تلك الأغاني الشعبية الألبانية وهو اليمن الذي من جاءه محاربا ما عليه إلا أن يترك عظامه تحت أقدام جبالها وأشلاءه مبعثرة فوق رمالها، وهذا ما دونته الذاكرة الشعبية قبل أقلام المؤرخين, وانظروا إلى ما أفرزه الوجدان الشعبي التركي من أغان تسجل معاناة الأتراك في اليمن أو ما اختزله المثل الشعبي الألباني ” ما يوجد في اليمن لا يمكن أن يسجله قلم” فهل يتعلم غزاة ومرتزقة اليوم من غزاة ومرتزقة الأمس؟!
ختاماً لم ينحصر حضور اليمن في الأغاني الشعبية التركية ولا على الألبانية وحسب, وهذا ما قد تكون لنا معه وقفه قادمة.