تسببت القطيعة المفاجئة في العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وكندا في تسليط الضوء على الديناميات السياسية الإقليمية التي وضعت ضغوطا غير مسبوقة وغير قابلة للإصلاح على “مجلس التعاون الخليجي”.
فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، تطورت الرؤية الشمولية التي كانت الأساس لـ”مجلس التعاون الخليجي” إلى نهج إقصائي متمحور حول الأمن في التعامل مع الشؤون الإقليمية. وكان “مجلس التعاون الخليجي” يؤدي أفضل أداء له كجامعة فضفاضة للدول الملكية التي كانت أسرها الحاكمة تحرس استقلالها الذاتي وتقاوم أي اقتراب من القضايا الكبرى التي تتعدى على السيادة الوطنية.
التفتت الإقليمي
في ظل استضافة الرياض لأمانة المجلس، ربما كان من غير المستغرب أن الأمين العام لـ”مجلس التعاون الخليجي”، “عبداللطيف بن راشد الزياني”، قد أصدر بيانا سريعا في 6 أغسطس دعما لاستجابة القيادة السعودية الغاضبة لانتقاد كندا لسجل حقوق الإنسان الخاصة بها.
لكن رد فعل “الزياني” الفوري يتناقض مع الغياب العام للبيانات العامة الصادرة عن الأمانة المجلس على مدار الـ15 شهرا الماضية منذ أن قام 3 من أعضائه -السعودية والبحرين والإمارات– بالتحول ضد دولة رابعة عضوة في المجلس هي قطر لثاني مرة في أقل من 3 سنوات.
ونتيجة لذلك، سرعان ما نأت الحكومة القطرية بنفسها عن ادعاء “الزياني” بالتحدث نيابة عن “مجلس التعاون الخليجي”، وأصدرت حكومتا الكويت وعمان بيانات خاصة بهما ركزت على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية ولكنهما لم تتخذا موقفا في النزاع، في حين عبرت البحرين والإمارات عن انحيازهما للجانب السعودي في الخلاف، وهو تباين في المواقف جلب الصدع الخليجي إلى السطح مرة أخرى.
ومما لا شك فيه أن أزمة قطر لا تزال هي الانشقاق المركزي الذي أدى إلى تفتيت “مجلس التعاون الخليجي” منذ أن اندلعت في مايو 2017، ومع ذلك، ففي حين أن الأزمة الأولية قد استقرت في نمط معلّق، إلا إن تداعياتها تستمر في إحداث موجات متتابعة في المنطقة ككل، فمن الواضح أن صعود نهج صارم في التعامل مع الشؤون الإقليمية من قبل نخبة من صانعي السياسة في الرياض وأبوظبي قد حلت محل المرونة التي تمتع بها “مجلس التعاون الخليجي”.
أعطى التوجه الذي دام لعقود من الزمن لأعضاء العائلات الحاكمة الذين يشغلون مناصب طويلة الأمد ومناصب حكومية رفيعة، قدرا من القدرة على التنبؤ بصنع القرار في السياسة الخليجية، وبالرغم من حالة الركود الملحوظ، إلا أنها ضمنت أن عملية صنع السياسة كانت مستقرة بشكل عام.
وتجلى هذا النهج الهاديء والقابل للتنبؤ في السعودية على وجه الخصوص، حيث وفاة وزير الدفاع الأمير “سلطان بن عبدالعزيز” وشقيقه وزير الداخلية الأمير “نايف”، والملك “عبدالله”، ووزير الخارجية الأمير “سعود الفيصل” بين عامي 2011 و2015م بعد أن شغلوا مناصبهم الخاصة لعدد سنوات إجمالية يصل إلى 173 عاما.
محور جديد
سهّل موت أفراد العائلة المالكة السعودية هؤلاء قدرا من تركيز السلطة لم يسبق له مثيل في التاريخ السعودي في يد ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” البالغ من العمر 32 عاما، وفي هذه الأثناء في دولة الإمارات صعد ولي عهد أبوظبي الأمير “محمد بن زايد آل نهيان” على نحو مماثل كحاكم حقيقي خلف الكواليس، في ظل معاناة أخيه غير الشقيق حاكم أبوظبي ورئيس دولة الإمارات “خليفة بن زايد آل نهيان” من وعكة صحية مستمرة منذ سنوات.
وقام “محمد بن زايد” إلى جانب إخوته -مستشار الأمن القومي طحنون بن زايد ووزير شؤون الرئاسة منصور بن زايد- وابنه “خالد بن محمد بن زايد” الذي عيّنه نائبا لمستشار الأمن الوطني في عام 2017، بتحويل أبوظبي إلى إمارة متشددة يتحكم فيها الأمن ووسعت سيطرتها على الإمارات الست الأخرى التي تشكل دولة الإمارات، وبذلك، ابتعد عن إرث أسرته كوسيط إقليمي ورجل دولة كبير محترم في الخليج، وهي السمات التي ميزت والده الشيخ “زايد” الأب المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة الذي حكم البلاد حتى عام 2004.
وتشير القرارات الأخيرة، مثل إطلاق العمليات العسكرية في اليمن في عام 2015، وحصار قطر في عام 2017، ومجلس التنسيق السعودي الإماراتي الجديد في عام 2018 إلى الاحتكار الثنائي لـ”بن سلمان” و”بن زايد” كنقطة مركزية جديدة للسياسة الخليجية.
ومع إعادة تنظيم مركز الثقل الإقليمي في الرياض وأبو ظبي، وجدت دول “مجلس التعاون الخليجي” الأخرى نفسها في موقع الحاجة إلى اللحاق بالتطورات، وأرسلت كلا من الكويت وقطر قوات إلى اليمن بعد أن تعرضت القوات الإماراتية والبحرينية لهجوم كبير على معسكر في سبتمبر 2015، في حين رفضت عمان الانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات في اليمن.
وفي النهاية، تم طرد القوات القطرية من التحالف بعد أن بدأ الحصار المفروض على قطر، ومن المفارقات أن ذلك حدث بعد أيام فقط من وفاة جنود قطريين أثناء دفاعهم عن الحدود الجنوبية للسعودية مع اليمن، أما عمان، فقد أصدرت احتجاجا رسميا للسعودية في سبتمبر 2015 بعد تعرض مقر إقامة سفيرها في اليمن لضربة جوية في صنعاء.
مخاوف كويتية عمانية
وكان من الملحوظ أن الكويت وعمان لم تنضما إلى حصار قطر في يونيو/ عام 2017، وشارك أمير الكويت الشيخ “صباح الأحمد الجابر الصباح” في جولات دبلوماسية مكوكية محمومة في بداية الأزمة، وفي سبتمبر 2017، بدا أن العمل العسكري ضد قطر كان مطروحا على الطاولة ولكن تم تفاديه.
هناك جانبان من أزمة قطر يدركهما من يقررون السياسات في الكويت ومسقط، الأول هو طبيعة الضغط على الدوحة لتتوافق مع مجموعة من متطلبات السياسة الإقليمية التي تتماشى مع الأولويات في الرياض وأبوظبي والذي لا يقدم مجالا واسعا للاستقلالية أو الحل التوفيقي، والثاني هو ملاحظة أن الضغط على قطر بدأ في غضون أسابيع من تولي أميرها الجديد، الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني”، السلطة في يونيو 2013م.
بين عامي 2011 و2014، عانت الكويت من المناوشات بين اثنين من المتنافسين الطموحين على منصب ولي العهد حالما يخلف الشيخ “نواف الأحمد الصباح” شقيقه الشيخ “صباح الأحمد” كأمير للبلاد، وتسببت المعركة بين رئيس الوزراء السابق الشيخ “ناصر محمد الصباح” ونائب رئيس الوزراء السابق الشيخ “أحمد الفهد الصباح” في احتكاك كبير في الكويت انتهى برحيل “أحمد الفهد الصباح” إلى المنفى في عام 2015.
لكن التواجد في المنفى لمثل هذا الخصم الكبير الطامح للخلافة يوفر فرصة للتدخل المستقبلي المحتمل.
ولم يفُت المسؤولون في مدينة الكويت أن قاعدة دعم الشيخ “أحمد” تكمن في الدوائر الانتخابية القبلية والإسلامية السنية في الكويت، حيث لجأ مؤيده السياسي البارز، النائب المعارض السابق البارز “مسلم البراك”، إلى السعودية بعد إدانته في نوفمبر 2017 بتهمة اقتحام الجمعية الوطنية خلال الاحتجاجات في عام 2011.
في عمان، تصاعدت المخاوف بسبب الأنشطة السعودية الإماراتية في محافظة المهرة جنوب شرقي اليمن المتاخمة للحدود العمانية، التي طالما اعتبرت منطقة عازلة تفصل عمان عن مشاكل اليمن الداخلية.
وقد أذكت هذه الأنشطة ذكريات التوترات السابقة مع الإمارات، مثل الادعاءات بالإغراءات المالية للمواطنين العمانيين في شبه جزيرة مسندم في السبعينيات والثمانينيات، ودعوى وجود “خلية تجسس” إماراتية في عمان كشف عنها ظاهريا في عام 2011، وإشارات بقيام الإماراتيين بشراء الأراضي على نطاق واسع في عمان.
وقد راقب المسؤولون العمانيون عن كثب مع الحصار المفروض على قطر، وهم يدركون تمام الإدراك أن الدور قد يأتي عليهم في الضغوط للتوافق مع القيود الإقليمية المصممة في الرياض وأبوظبي.
مقاومة محتملة
ولكن في داخل الإمارات نفسها هناك شكوك بأن “محمد بن زايد” قد يواجه صعوبات من الجهود الرامية إلى تركيز السيطرة في أبوظبي وقلب الطبيعة الفدرالية للدولة الإماراتية والتوازن القائم بين الإمارات السبع، وقد كان حاكم دبي، الشيخ “محمد بن راشد آل مكتوم”، أبرز الغائبين عن الاجتماع الافتتاحي لمجلس التنسيق السعودي الإماراتي في جدة في 7 يونيو 2018، على الرغم من مناصبه الفدرالية كرئيس للوزراء ونائب رئيس لدولة الإمارات.
وقد عزز هذا الغياب تصورات مفادها أن المجلس الجديد كان مدفوعا من وليي العهد في كل من الرياض وأبوظبي دون التشاور مع حكام الإمارات الستة الأخرى في الإمارات، ويبدو أن مجموعة المشاريع المشتركة بين السعودية والإمارات التي أعلن في اجتماع جدة تتناقض مع نموذج سياسة عدم التدخل الذي تتباهى به الإمارات.
وظهرت علامات أخرى من التوتر المحتمل في دولة الإمارات على مدى الأشهر القليلة الماضية.
وأظهر الانشقاق الظاهري في مايو لنجل حاكم الفجيرة تساؤلات حول وجود ردات فعل مقاومة بين الإمارات الشمالية على المحاولات المزعومة من جانب أبوظبي للتأثير على اتجاه صنع القرار، وخلال العام الماضي، نجحت كل من الشارقة ورأس الخيمة في إقناع المستثمرين بالتقدم للحصول على مناقصات في مجال الطاقة في الإمارات القديمة التي تعاني من نقص النفط والغاز، وإذا نجح ذلك، فإن هذا من شأنه تنويع اقتصاداتها المحلية وجعلها أقل اعتمادا على التحويلات الفيدرالية من الحكومة المركزية في أبوظبي.
وقد فسر البعض ظهور الرئيس الإماراتي “خليفة بن زايد آل نهيان” بعد 4 سنوات من إصابته بسكتة دماغية على أنه يرسل رسالة تذكيرية مفادها أن “محمد بن زايد” لم يتسلم بعد السلطة النهائية رسميا، كما أن تحقيق “مولر” في الولايات المتحدة، والذي يُرجح أن يحقق في دور لعبته الإمارات في انتخابات عام 2016، يمكن أن يولد تداعيات سلبية لقيادة أبوظبي. وهناك قلق مماثل يتعلق بآثار الانتخابات الماليزية والتركيز المتجدد على التدفقات المالية في قضية فضيحة صندوق تنمية ماليزيا التي يشتبه بضلوع الإمارات فيها.
من السابق للأوان معرفة ما إذا كانت المقاومة الأخيرة لخطط “محمد بن زايد” في الإمارات، أو “محمد بن سلمان” في السعودية حول القدس و “خطة السلام” الخاصة بإدارة “ترامب” هي مجرد زوبعة مؤقتة أم أنها بداية لجهد مستمر للعودة إلى توافق الآراء الذي طالما تميزت به السياسة الخليجية، ومع ذلك، فقد تم بالفعل إلحاق ضرر كبير بالنسيج السياسي لـ”مجلس التعاون الخليجي” وخاصة العلاقات الاجتماعية (والاقتصادية) التي ربطت تقليديا شعوب شبه الجزيرة العربية.
ويبقى الخاسر الأول من هذا هو “مجلس التعاون الخليجي” نفسه لأنه أصبح غائبا من كل مرحلة من مراحل الأزمة القطرية، كما تم تجاوزه من قبل المحور السعودي الإماراتي الجديد في اليمن، بينما يشير إعلان يوليو/2018 لمجلس التنسيق السعودي الكويتي إلى أن دول الخليج العربي قد تعود إلى نمط ما قبل دول “مجلس التعاون الخليجي” لإدارة علاقاتها، وذلك باستخدام الأساس الثنائي للعلاقات، ما لم تحدث ردة فعل قوية ضد الرياض وأبوظبي من قبل جيرانهم الخليجيين.
المصدر/ كريستيان كوتس أولريخسن – المركز العربي واشنطن دي سي