سكة التطبيع البحرينية… ورقة اعتماد عند الأمريكيين

 

إسراء عامر الفاس

بعد نحو شهرين على انطلاق الحراك الشعبي في البحرين عام ٢٠١١م، كانت يد البطش الرسمي بدأت تطال المساجد. قرابة أربعين مسجداً هدمتها السلطة. من بينها مسجد أمير محمد البربغي، أقدم المساجد في المملكة، الذي تجاوز عمره ٤٥٠ عاماً (١٥٤٩م). ليسبق تشييد هذا المعلم التراثي الديني قدوم آل خليفة -كغزاة للبحرين- بأكثر من ٢٣٠ عاماً.
ليس مسجد البربغي وحده ما كان عرضة للاستهداف، مسجد الصحابي صعصعة بن صوحان كان عرضة للتخريب المتكرر. يمثل مسجد الصحابي الجليل، الذي توفي في القرن الأول للهجرة، مزاراً دينياً لطالما ارتبط اسمه بالبحرين. إلا أن تجاهل السلطات سمح بالتمادي في عمليات تخريب هذا المزار، وتعريض مقتنياته للسلب أكثر من مرة.
في بنده السادس، يورد إعلان اليونسكو أنّه “في حالة قيام أية دولة بتدمير متعمد لتراث ثقافي ذي أهمية عظيمة بالنسبة للإنسانية، أو بالامتناع عمداً عن اتخاذ التدابير الملائمة لحظر ومنع ووقف معاقبة أي تدمير متعمد لهذا التراث… فإنها تعتبر مسؤولة عن هذا التدمير وفقاً لما ينص عليه القانون الدولي.”
البحرين كانت مسؤولة عن تدمير وتخريب أكثر من معلم ديني وتراثي. فكيف تعاطت معها اليونيسكو؟
في العام ٢٠١٢م سمح للمملكة بإنشاء المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي، بالتزامن مع اختيار المنامة عاصمة الثقافة العربية، فيما كان دخان قنابل الغاز يُغرق القرى المحيطة بالعاصمة. تعاونت المنظمة مع السلطات البحرينية عبر المركز المذكور دون أن تعترض على ما لحق ببعض المعالم التراثية من خراب. أكثر من ذلك اختيرت البحرين لتترأس اجتماع لجنة التراث العالمي لليونسكو بدورته الثانية والأربعين، الذي استضافته البحرين بداية الأسبوع الحالي.. هكذا كانت تعري منظومات المجتمع الدولي زيف معاييرها.
بحرينياً، كانت السلطات تغدق الأموال على تلميع صورتها… الهروب من أزمات الداخل السياسية والاقتصادية كان هدفاً، إلا أن استرضاء الخارج كان الهدف الأبرز لنظام وُجد وتكرس واستبد بدعم من الخارج، منذ أن كانت الكلمة الفصل للبريطانيين إلى زمن سيادة الأميركيين على القرار الدولي.
في قمة الرياض في مايو ٢٠١٧م خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام عدسات الاعلام مقدماً شحنات دعم لملك البحرين. المواقف أنعشت الملك الذي تحاصره الأزمات: من جهة أغلبية شعبية فقدت كامل ثقتها ببيت الحكم، ينظر الملك إلى مطالبها بالشراكة السياسية كتهديد لسطوته، ومن جهة أخرى أجنحة نافذة ضمن بيت الحكم نفسه، بنظره هي من يمثل التحدي الأكبر، تزاحمه على القرار وعلى النفوذ. مع ذلك نجح الملك في كسب الرضا الأمريكي، الذي يفعل فعله على مستوى بيوتات الحكم في الخليج. إلا أن الدعم الأمريكي لم يأتِ بالمجان.
لم تملك ما يشبع شهوة ترامب المفتوحة على مال النفط الخليجي. سياساتها الاقليمية كانت كافية كأوراق اعتماد ترضي الأمريكي. على خط العلاقات مع طهران، تزايد المنامة على الامريكيين أنفسهم في خطابها الاستعدائي تجاه إيران، وعلى خط آخر، تشرع أبوابها لتطبيع العلاقات مع كيان العدو، في وقت تمر فيه علاقات الآخرين من تحت الطاولة.. هذا ما يسجله ترامب للبحرين… وهذا ما يُقدمه آل خليفة كمعتمدين أمريكيين في بلادهم.
سكة التطبيع البحرينية
خلال ترؤسها لاجتماع لجنة التراث العالمي لليونسكو بداية الأسبوع الحالي، استضافت البحرين وفداً صهيونياً رفيع المستوى للمشاركة في أعمال اللجنة. من قلب المنامة وقف المسؤولون الصهاينة يلتقطون صور “السيلفي” أمام عدسات وكالات الأنباء العالمية، وحظي وفد “اسرائيل” بحفاوة استقبال، في البلد الذي يُنفى فيه أصحاب الموقف السياسي المختلف.
وعلى قاعدة أن لا مصلحة فوق مصلحة البحرين، كانت قناة “نيوز 24” الصهيونية تنقل عن مسؤول بحريني أن بلاده “ستكون أول دولة خليجية تعلن عن علاقات دبلوماسية مع إسرائيل”، لأن “البحرين لا تعتبر إسرائيل عدوا”. والكلام المنقول لم يكن مستغرباً. مسار التطبيع البحريني مع العدو ليس جديداً، هي سكة تتراكم منذ دعوة ولي العهد سلمان بن حمد آل خليفة العرب للتواصل مع “الشعب الاسرائيلي” في العام ٢٠٠٠م، مروراً بلجوء “أميرة” بحرينية لأحد مستشفيات الكيان لتلقي العلاج، لسلسلة المواقف والاجراءات المتسلسلة… مؤخراً في مايو الماضي تحديداً بينما كان الفلسطينيون يخرجون في مسيرات العودة رفضاً للاحتلال، كانت البحرين ومعها الإمارات تشاركان في فعالية رياضية صهيونية في القدس المحتلة تحت عنوان إحياء ذكرى “تأسيس إسرائيل”.. بالتزامن مع الفضيحة، أتى ما هو أكثر وقاحة تغريدة لوزير خارجية البحرين يؤيد فيها ما وصفه بحق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، بعد اعتداءات شنها الكيان على الأراضي السورية.. هكذا كانت البحرين تعبد طريقها نحو اشهار التطبيع.
في حمأة الغضب الإسلامي بُعيد إعلان دونالد ترامب عزمه نقل سفارة بلاده إلى القدس، كان ملك البحرين يرسل وفداً دينياً إلى القدس نفسها متجاهلاً كل الغضب الإسلامي. جال الوفد في شوارع القدس المحتلة بحماية اسرائيلية، وعبر الإعلام العبري نقل”رسالة سلام في محاولة لتحفيز التسامح الديني العالمي” التي حملها من ملك البحرين. ولم يكن عبثاً أن أطلق الوفد على نفسه اسم “هذه هي البحرين”.. في رسالة أخرى يقول فيها حمد بن عيسى: هذه هي البحرين التي أريد، البلد الأكثر “تسامحاً” مع الاحتلال.
باسم التسامح الديني، داس ملك البحرين على مشاعر العالم الاسلامي وأقدس قضاياه. ملك التسامح يشابه المحتلين، تحت عينه وسمعه هدم نحو أربعين مسجداً بعد دخول قوات درع الجزيرة إلى بلاده، وخلال سنوات ما بعد ٢٠١١م رعى الملك وقوع أكثر من 347 انتهاكاً طال علماء دين، بينهم 99 شخصية جرى اعتقالها، والبعض خضع لمحكمات غير عادلة وصلت أحكامها للإعدام، و19 عالم دين بحريني لم يطلهم أي تسامح دون جرم اقترفوه فأُسقطت جنسياتهم، من بينهم آية الله الشيخ عيسى قاسم أكبر قامة دينية على مستوى الخليج.
لا التسامح الديني عرفه أبناء البلد، ولا تراثهم الديني حفظه النظام. لتكون هذه العناوين مجرد شماعة رفعها ملك القبيلة الحاكمة في هرولته نحو التطبيع، مكرساً وجوده كأحد معتمدي السياسة الأمريكية في عهد صفقة القرن.. عازلاً بذلك منافسيه، مكرساً سطوته على حكم لا يسمح بأن يشاركه فيه أحد.
*إعلامية لبنانية

قد يعجبك ايضا