مشاهدات اليوم الثاني في الحديدة

 

عبدالجبار الحاج

ليست هذه الزيارة إلى الحديدة هي الأولى خلال الثلاثة الأشهر من هذا العام فهي الزيارة الثالثة والأقصر. وان كانت زيارتنا هذه ضمن جولة متابعة الميدان عسكريا في ضوء التصعيد العسكري على الساحل منذ الأسبوع الماضي وما أثير من مزاعم وقوع المطار والميناء والدريهمي كليا تحت سيطرة ما تسمى بالشرعية التابعة للعدوان ، فإن هذه الزيارة ليست منفصلة عن أولويات زياراتي السابقة والتي كانت لعمل ودراسات قمت بها شخصيا .. وهي جملة قضايا مترابطة على الصعيد الوطني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وارتباطها مع الهدف من التغطية للوضع الميداني في جولتنا هذا الأسبوع لم تبعدني عن ذاك النشاط السابق المتصل بعناوين نهب الأراضي الزراعية والعقارية للدولة والمواطنين في آن واحد ..
كنا مع زميلنا رئيس التحرير في صحيفة الثورة الصديق عبد الرحمن الاهنومي أول فريق إعلامي صحفي كان له السبق في كشف حقيقة الوضع في الحديدة وتمكنا من تفنيد مزاعم السيطرة على مطار الحديدة وحي الدريهمي مع ما في الحملة من خلط بين الدريهمي كحي في مدينة الحديدة ومديرية الدريهمي ومن خلال جولتنا في مدينة الحديدة والمنصورية وبيت الفقيه والحسينية وأجزاء من الجراحي والتحيتا ومناطق من الجاح ..تبدلت الصورة لدى الناس الذين صدقوا الاشاعة من المحافظات الأخرى وجن جنون. أصحاب الحملة والإشاعة حتى أننا نفاجأ بأن احد التابعين لهم أنزل لنا صورة تبدو من مكان لم يكن احدنا قد التقط الصورة منه ..
في مرورنا على هذا العدد من المديريات وعندما نقطع كل هذه المسافات محاطين بوضع خال من أي مظاهر تؤشر على دوران معارك أو حتى كلام لدى السكان عن وجود مظاهر توحي بانفجار وشيك ..فكل ذلك لم يكن له أي مؤشر .. في كل الزيارات ووضع المديريات في الحديدة كلها تشير إلى أنها لاتزال بعيدة.. بعيدة عن مجرد الهدف الذي أشاعته أكاذيب الحملة الإعلامية المترافقة مع التصعيد على الساحل .. وهي بالتأكيد على علاقة وصلة ومرتبطة بزيارة المبعوث الأممي هذا الأسبوع لصنعاء وأجندته وما كان يرتجى منها من انتزعوا تنازلات لو أدى الضغط الإعلامي والتصعيد جزءاً من أهدافه التي كان أملهم أنها قد توفر وفق نتائجها المأمولة ..
الحملة خابت وانفضحت أكاذيبها وارتدت سلبا على موجهي الحملة وصناع التصعيد بقرار من دول العدوان .
عندما كنا نمضي وجهتها وقطعنا مسافات طويلة وزرنا مديريات عديدة كانت الصور تتزاحم في راسي فلم تقتصر مهمتنا على تسليط الضوء والصورة على الجانب العسكري والحربي المحض في معركة الساحل الواقعة الآن على جيوب متقطعة ومنقطعة عن بعضها ومكشوفة الظهر مقطوعة الوصل والاتصال بأي مؤخرة في نقاط الاختراق هنا وهناك في مناطق الساحل الغربي فهذه مهمة صحفية محفوفة بالمخاطر ولاتقل شانا عن دور القوات والمقاتل والتضحية بل مساوية لها لما يقدمه فيها الصحفي والإعلامي من بطولات اقتحامية يسجل فيها السبق في نقل الصورة المعبرة ومن حضوره مباشرة وفي قلب الحدث والتي ينقلها إلى وطنه وإلى العالم فتلك جزء من المعركة ..
وكنا كفريق واحد قد توزعنا المهام بحيث يتناول كل منا المشهد والصور بالصيغة التي يراها هو مترابطة مع جوانب وقضايا أخرى وفق ما يراه بحيث يتكون ملف يتناول الوضع عامة وبصورة أعمق وأوسع من أن ينحصر جميعنا في صورة واحدة هي المعركة العسكرية رغم أهميتها ..من هنا سأتولى مهمة الربط بين الجانب العسكري الميداني وتأثيراته من نواحيه الوطنية كافة وبين المسالة الاقتصادية للسكان هنا في تهامة ووضعهم الاجتماعي وبين الزراعة والصيد وعلاقتها بالإنتاج والاكتفاء من عدمه وعلاقة الإنتاج الكلي ونسب توزع غلالها على السكان وانحصارها على رؤوس الإقطاع والرأسمال النهبوي مع نسبة حرمان السكان من أي إنتاج زراعي وتأثير ذلك على الوضع المعيشي وكذا على روحية ومواطنية ووطنية السكان تجاه مخاطر الغزو والاحتلال ..
لنصل إلى وضع الإجابة على سؤالين ..
لماذا تنتشر ظاهرة التسول في الحديدة أكثر من غيرها ؟.
لماذا تتسع الهوة السحيقة بين المواطن والوطن فتسود مشاعر اللامبالاة لدى قطاع واسع من السكان؟!
لتكن تهامة مجرد نموذج مكثف ولكنها ليست النموذج الوحيد الآن ..
ولذلك علاقة بلماذا تنتشر ظاهرة التسول وتصبح ظاهرة وليست حالة استثنائية هنا وهناك؟!! ولماذا لم يعد التسول سلوكا منبوذا وعاراً في العرف والقيم في المجتمع بل غدا ظاهرة اجتماعية سائدة لا تنتقص المتسول ولاتنبذه ..
لماذا الحديدة كجزء من تهامة تشهد علينا أنها اليوم خاصرة اليمن الرخوة أو ننعتها كذلك ؟. ولماذا يعزف سكانها الغالب عن أن يكونوا جيشها الذي لايهزم وجدار الوطن المنيع ؟؟؟؟؟
إذا تحدث التاريخ عن أن البحر الأحمر ظل هدفا لمطامع القوى الكبرى على مدى القرون منذ الروم وحتى البرتغال في الزمن الوسيط فإن وقائع التاريخ شهدت أحداثا وغزوات كانت تهامة فيها وساحلها الطويل من أول نقطة في المندب حتى آخر نقطة أعالي عسير إن لم نذهب أعلى من تلك النقطة كساحل يمني كانت فيه تهامة الجدار الصلب والمنيع وهو ما شهدته عهود ودول يمنية ليست الدولة الرسولية إلا واحدة منها ذلك أنها امتدت زمنيا لقرنين ونصف قرن قوة وامتدادا وتوحدا وذلك لتوفر شرط الحد الأدنى من العدالة بين الناس والحد الأعلى من السيادة مع وجود اكبر أسطول بحري حربي امتد من سقطرى إلى أقصى ظفار على طول ساحل بحر العرب إلى جزر فاطمة ودهلك التي لا ندري متى آلت إلى الحبشة وفي أي عهد بعد الدولة الرسولية.
العدالة والسيادة شرطان مترابطان للقوة لبقاء الأسوار المنيعة للأوطان ..
أما لماذا تتحول أو تحولت سواحل تعز والحديدة وحجة وجيزان وعسير على مدى القرن العشرين حتى اليوم وضمرت إلى وضع خاصرة رخوة … واليوم هي اشد رخاوة واهتراء من أي وقت ومن أي معركة مضت خلال القرن العشرين ..
ثم لماذا خاضت بعض مناطقها حروبا تشهد على بطولات أهلها أيام الدول اليمنية المنيعة والعصية على الانكسار لقرون من الزمن على صعيد الحروب الوطنية وكسر الغزاة في البحر ومياهه العميقة والبعيدة وكذلك في حروب منها حروب في سياق الحروب الداخلية في حالة الزرانيق وغيرهم مع الإمام يحيى مثلا في العشرينات على سبيل المثال .. ولا ننسى أيضا أن تلك الحروب تزامنت مع حرب وطنية.. فعام 1904 كما اتفق المؤرخون بان بداية نشوء الحركة الوطنية في التاريخ الحديث فتعود إلى ذلك العام الذي دعا فيها الإمام يحيى إلى مقاومة الاحتلال العقماتي التركي لليمن انطلاقة مسار الحركة الوطنية اليمنية ..
لكن القضايا مترابطة ببعضها البعض ونحن نتحدث عن لماذا تكون هذه المساحة من الوطن أو تلك من اليمن جدارا صلبا وسورا منيعا في عهد وسياسات مرحلة معينة في حين تتراجع وتنهار وتضعف إلى أن تغدو خاصرة رخوة بسبب من أخطاء جسيمة في السياسة وإهمال أو تواطؤ في السيادة وضرب للاقتصاد العام وغياب للعدالة والمساواة ..
فالإقطاعيات تتسلق السلطة سريعا نعم .. لكنها لا تدافع عن الأوطان إبان المحن بل وعلى استعداد للتواطؤ لقاء أي وعود أو إغراء من الأجنبي الاحتلالي .. ذلك لأنها بطبيعتها غارقة في خطط النهب والاستيلاء والاستئثار بموارد وخيرات البلد ما ينجم عنه اتساع الهوة بين الملكيات ذات المساحات والأرقام الخيالية للقلة وبين تزايد مساحة الفقر والجوع واتساع دوائر التسول وهنا تراكم اللامبالاة الوطنية والضعف والوهن في وجه المخاطر من قبل الغالبية السكانية المحرومة ..
أي صحفي الآن في الحديدة ذهب لتسجيل الحدث العسكري مالم تشده وتستفزه صور الفقر والتسول على طول تهامة وصور الاستيلاء من القلة على مساحات وديان تهامة الخصيبة من وادي مور وسردد ووادي سهام وغيرها وغيرها واقعة تحت أيدي القلة فإن أي صحفي لايثيره ولايستفزه هذا المشهد فإنه لا يرى صورة الحرب الحقيقية التي يعاني منها سكان تهامة منذ عقود عدة ..أي صحفي لا يتوقف أمام صور الحرب مجتمعة في ما يتراكم من معاناة أبناء تهامة فانه يصير مجرد آلة تشتم رائحة الدم والبارود فيلاحقها بآلة التصوير وليس بصحفي يمتلك أحاسيس ومشاعر الوطنية والكرامة الإنسانية ودرجاتها مجتمعة…
صور الراسمال العقاري النهبوي تتفشى في مدن الحديدة ومراكزها كافة وباتت الدولة منذ الثمانيات وعاء لطبقة النفوذ الناهب لأراضي الدولة أولا ولأراضي الفلاحين المساكين ثانية على حد متساو مع نشوء قوانين تتسع ويتسع لها روح القضاء والقاضي الفاسد بتفشي النهب والمظالم .
و صور التوحش الإقطاعي النهبوي على يمينك ويسارك أينما وليت وجهك في تهامة أكنت في باجل أو الضحي أو الزيدية شمالا.. أو إن اتجهت جنوبا على جانبي الطريق أو توغلت في أعماق المزارع بمئات وآلاف المعاد والهكتارات لتجد نفسك في كل الطرق والمحطات والأسواق ونقاط الطرق أمام فقر مدقع ومجاعة حقيقية تجتاح غالبية السكان من خلال فرق التسول الجماعي المكتظة في الأنحاء والأسواق وكل مكان عام .

قد يعجبك ايضا