عادل بشر
كثيرة هي قضايا ” المواريث ” التي تمتلئ بها المحاكم وتكفي زيارة واحدة إلى اقرب محكمة لنكتشف مدى فظاعة الجرائم التي ترتكب بسبب الميراث فذاك يضع السم لأخيه حتى يكون هو الوريث الوحيد لوالده, وآخر يقتل والدته ليتمكن من التصرف في مالها.. وغيرها من القضايا التي نستعرض في هذا العدد إحدى أبشعها.
توفى الحاج “علي” بعدما بلغ من العمر عتيا وصل إلى ثمانين عاما عاشها مكافحا في سبيل تامين مستقبل أولاده من بعده، ولأنه نشأ منذ صغره في منطقة مشهورة بالزراعة والفلاحة فقد اقتصر حلمه على امتلاك مزرعة كبيرة خاصة به وسعى جاهدا لتحقيق ذلك الحلم حتى وجده حقيقة ملموسة على ارض الواقع ليرحل بعد ذلك بقلب مطمئن تاركا المزرعة لأولاده، غير أنه لم يكن يعلم أن هذه الأرض ستحول الإخوة المتحابين إلى أعداء متناحرين وأن دماء ستسفك وأنفسا ستزهق.
بعد أن فارق الأب الحياة تولى الابن الأكبر مهمة رعاية الأسرة وإدارة شؤون المزرعة تماما كما كان الأب يفعل، متبعا في ذلك خطوات والده خصوصا وأنه عاصر نضال الأب في الاعتناء بالمزرعة وإدارتها بنجاح وكان في السنوات الأخيرة يده اليمنى في كل شيء .
حاول الابن الأكبر المحافظة على حلم والده قدر المستطاع وفي نفس الوقت بذل جل جهوده لرعاية إخوانه الذكور والإناث وتوفير كل ما يطلبونه، ولكنه نسي أو تناسى أن لهم حقا في المزرعة مثله ولابد أن يأتي يوم ويطالبونه بذلك الحق طال العمر أو قصر .
لم تطل فترة غياب ذلك اليوم فبعد سنوات قليلة من وفاة الأب قرر الإخوة الآخرون الحصول على حقهم من ميراث والدهم في المزرعة حسب ما يحدده الشرع والقانون وبدأت الفكرة من الأبناء الذكور المتعلمين الذين أرادوا الاستقلال بحياتهم وتحقيق أحلامهم في العيش في المدينة ولن يتسنى ذلك إلا بأخذ نصيبهم في المزرعة والتصرف به كما يشاءون وقاموا بإخبار أخيهم الكبير بما يجول في خاطرهم من أفكار ونوايا طالبين منه مساعدتهم على تحقيق أحلامهم المرجوة واقتسام المزرعة ولكنه ثار غضبا عند سماع ذلك وأخبر إخوانه أن ما يتحدثون عنه بعيد عنهم بعد السماء عن الأرض ولن يتم تقسيم المزرعة إلاّ على جثته.
لم يصدق الشابان موقف أخيهما الرافض اقتسام تركة الأب وحاولا الضغط عليه عن طريق اخذ موافقة أخواتهما البنات المتزوجات وقاما بعرض الموضوع ثانية بناء على رغبة الجميع في الحصول على نصيبهم من المزرعة ولكنه أصر على موقفه السابق مما زاد الأمر سوءا، حيث أحس إخوانه من خلال ذلك أنه يريد الاستحواذ على نصيبهم والاستيلاء على المزرعة وإبقاءها كاملة تحت تصرفه وكأنه مالكها الوحيد.
بعد مفاوضات طويلة وتدخل عقلاء الحي في القضية وافق الأخ الأكبر على توزيع الورث بشرط أن تظل المزرعة ملكا لأبناء الحاج علي وألا يدخل فيها أي شخص آخر وبذلك منع على إخوانه التصرف في نصيبهم أو بيعه لأي شخص آخر.
وافق الإخوة على هذا الحكم وفرحوا بموافقة أخيهم على اقتسام الأرض وبدأت التجهيزات للقيام بذلك ولكنهم اكتشفوا أنهم لم يستفيدوا شيئا طالما وأنهم لن يستطيعوا بيع نصيبهم والاستفادة من ثمنه في العيش بعيدا عن الفلاحة والزراعة.
وقبل إن تبدأ لجنة التقسيم عملها في توزيع الإرث بين الورثة اخبر الإخوة شقيقهم الأكبر عن رغبتهم في بيع نصيبهم من المزرعة له وبذلك تكون المزرعة كاملة من نصيبه وحده فقط فوافق بكل سرور على عرضهم ولكن المبلغ المطلوب كبير وهو لا يملك شيئا منه وسيتطلب الأمر سنوات عديدة حتى يستطيع تسديد ثمن الأرض لهم.
أثارت هذه الكلمات غضب أحد الإخوة الذي لم يستطع تحمل شروط شقيقه الأكبر وضغوطه عليهم فاندفع نحوه محاولا العراك إلا أن الموجودين قاموا بالإمساك به ومنعه من الوصول إلى أخيه وكانت هذه الحادثة كفيلة بإفشال عملية اقتسام الأرض.
عاد الجميع إلى منازلهم وقد أصبح الإخوة أعداء متناحرين ولم تعد القضية ميراثاً يجب تقسيمه وإنما حقاً اعتبره الورثة مغتصبا ويجب تحريره.
في منزل زوج إحدى الأخوات المتزوجات اجتمع الإخوة مساء يتباحثون حول كيفية تخليص حقهم من قبضة أخيهم الكبير وقادتهم أفكارهم الشيطانية إلى طريقة واحدة وهي التخلص منه نهائيا، عندها سيخلو لهم الجو وسيتصرفون بميراثهم بكل حرية وأريحية.
حاول بعض الإخوة اعتراض هذه الفكرة الشنيعة ولكنهم في الأخير وبدفع من آخرين وافقوا عليها واجمعوا على تنفيذها وفي صباح اليوم التالي حزموا حقائبهم واستقلوا سيارة زوج إحدى شقيقاتهم موهمين الناس أنهم مغادرون إلى المدينة، وفي منتصف الطريق الذي يربط المنطقة بالسوق المركزي أوقفوا سيارتهم وانتظروا حتى وصل شقيقهم الأكبر على متن سيارته كعادته في الذهاب إلى السوق وقاموا باعتراض سيارته وإخراجه منها والاعتداء عليه بالضرب والطعن بجنابيهم حتى أغمى عليه وظنوا أنه فارق الحياة ثم تركوه مضرجا بدمائه وواصلوا طريقهم إلى المدينة معتقدين أن أحدا لن يشك في أنهم الفاعلون.
بعد قرابة ساعة وصلت سيارة أخرى قادمة من السوق ووجد راكبوها المجني عليه غارقا في بركة دماء ولا يزال فيه نفس، فقاموا بإسعافه إلى المستشفى وهناك شاء القدر أن يفيق من غيبوبته بعد تلقي العلاجات الأولية ليخبر من وجدوه وهم من أبناء منطقته أن الجناة هم أخواه الاثنان وزوج شقيقتهم وحمّلهم أمانة إبلاغ الشرطة عن المجرمين.
كان هذا آخر ما نطق به المجني عليه لأنه فارق الحياة متأثرا بجراحه ووجد الحاضرون أنفسهم يحملون مسؤولية كشف الجريمة فقاموا بإبلاغ شرطة مركز المديرية الذين بدورهم تواصلوا مع أجهزة الأمن في المدينة وأعطوهم معلومات وبيانات عن الجناة وأماكن تواجدهم ليتم القبض عليهم في اليوم التالي وأثناء التحقيق معهم ومواجهتهم بالحقائق والأدلة اعترف الجناة بجريمتهم وأنهم قاموا بقتل أخيهم لأجل الحصول على حقهم في الميراث الذي كان سببا في تدمير أسرة بأكملها.