جمال عبد الناصر في مئويته
محمد ناجي احمد
تمر العقود ويظل جمال عبد النصر أفقا في العروبة وصانعا لها كمشروع دولة.
جاء على موعد مع التاريخ ليضع العروبة في مسار الجماهير ،ولينقلها من العاطفة إلى المصالح المشتركة للجماهير العربية .
كتب عنه الكثيرون ،متحمسين ومتنكرين ،وفي الكتابة عنه تجلى المثقف في انتمائه ووطنيته وعروبته ،وسقط القناع عن مثقفين منهزمين سرعان ما التحقوا بقطار السادات والتطبيع مع الكيان الصهيوني ،والتنكر لأهداف الأمة العربية .
في كتابه “اقنعة الناصرية السبعة ” الصادر في طبعته الأولى عام 1976م –نحا لويس عوض منحى إدانة النظام الناصري ،ومحاكمته ،ووصفه بالفشل اقتصاديا ،والنيل من مشروعاته الكبرى ،وكان في كتابه يدين أكثر منه موصفا موضوعيا ،رغم تقديمه لنفسه على أنه حكم بين كتابي “عودة الوعي ل” توفيق الحكيم “وبين “الوعي المفقود ” لمحمد عودة .
يقارب “لويس عوض “بتلميح يعجز عن التصريح ،بين شخصية “هتلر “و”اشتراكيته الوطنية ” وشخصية “ناصر ” ونهجه . ومن ذلك تأويله لما قاله جمال عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة “عن البطولة والدور ،كشخص وأمة .
يلوي “لويس عوض”عنق الحقيقة في كتابه سابق الذكر ،حين يفسر نهج عبد الناصر طريق العروبة والقومية العربية ،وما سماه ب” تصدير الثورة ” وتفسيره لهذا الطريق بأنه كان خيارا انتهازيا من أجل الاستمرار في الحكم ؛أي هروب من استحقاقات تعميق الثورة في الداخل ، كي لا ينجرف كبرجوازي صغير في تعميق الثورة ،فيكون اللقاء مع ملايين المعدمين ! وهو قول يناقض الالتقاء الفعلي بين جمال عبد الناصر والجماهير العربية ،متجاوزا بذلك كل التيارات اليسارية والقومية والإسلامية ، كان يتجلى بموقف الجماهير من تأميمه لقناة السويس ، وصموده ضد العدوان الثلاثي ، واحتشاد السوريين واليمنيين وجماهير الجزيرة العربية كلما كان لها موعد مع في الساحات . وعند تقديمه لاستقالته بعد هزيمة يونيو 1967م ، وحين موته كان هدير الجماهير يسقط كل هذيانات ،وخيانات بعض المثقفين .
ألم يقل غالي شكري بأنه تعلم من اثنين كيف يحلق, أحدهما سلامة موسى والثاني جمال عبد الناصر ،الذي جعل من العروبة حقيقة تتشكل في العقل والوجدان العربي.
لم تكن “القومية العربية ” في صراعها القومي مع الغرب والصهيونية ذروة الامبريالية في المنطقة ،ولم تكن “الاشتراكية ” كطريق اجتماعي واقتصادي –هروبا من أجل تكريس حكم الفرد كما يزعم لويس عوض ،وإنما كان ذلك الطريق حتميا من أجل كينونة الأمة ،وكرامة غالبية الناس. كان ذلك تكاملا بين نهج اجتماعي واقتصادي في الداخل ،وصراعا قوميا يتعلق بالدائرة الحيوية للوجود المصري في إطار عروبته وحيويته .
توصيف “لويس عوض ” في كتابه سابق الذكر ،بأن جمال عبد الناصر لم يكن مع الفقراء من فلاحين وعمال ،وإنما “كان يحسن الحديث إلى الفقراء” تدحضه حقيقة التحام “ناصر “بقوى الشعب العامل ،ووعيه الموضوعي بأننا في مرحلة توفيقية لا تحتمل صراعا طبقيا ،والأمة في طور نهوضها الحضاري ،تتشكل هويتها في مواجهة الآخر .
ظل “اليسار الماركسي “في غربة عن الجماهير ،تنطلق رؤاه من تحليلات “المقاهي السياسية ” عاجزا عن خلق حراك وحركات اجتماعية جماهيرية على المستوى المصري والعربي.
لم يقل “جمال عبد الناصر “في الميثاق ب”الاشتراكية العربية ” بل نفى أن تكون الاشتراكية عربية أو إسلامية ، هي عنده طريق اجتماعي واقتصادي ،والقومية صراع كينوني يتعلق بحتمية وجود الأمة العربية .
في كتابه “مساءلة الهزيمة ” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات عام 2001م – يستعرض محمد جابر الأنصاري آراء العديد من مواقف المثقفين تجاه عبد الناصر،محللا ومستخلصا،متفقا ورافضا :
فالقول “بأن عبد الناصر كان “جلادا وطاغية ” هو اختصار مخل لظاهرة معقدة لا جدال في أنها في الحكم النهائي عليها –واحدة من أكثر ظواهر التاريخ العربي الحديث إيجابية .لكن المبالغة في سمة من سمات الظاهرة ،تدعو للشك في من يسوقون هذا التقييم ،وهم في الأغلب الأعم من خصومه الطبقيين والسياسيين …” ثم يستعرض الأنصاري موقف نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش في “نجيب محفوظ –صفحات من مذكراته ” ،يقول محفوظ”أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير أني قلت كل ما أريد قوله في أعمالي الروائية ،وعبَّرت عن كل آرائي خلال فترة حكم عبد الناصر ،والرأي الذي لم استطع المجاهرة به ،أوصلته للناس عن طريق الرمز” كتب محفوظ “ثرثرة فوق النيل “و”أولاد حارتنا “وسلسلة من الأعمال التي تحتوي على نقد لاذع للمرحلة الناصرية ،وكذلك كانت ذروة إبداع “توفيق الحكيم” في فترة حكم جمال عبد الناصر ،ومن ذلك “السلطان الحائر ” وعشرات الأعمال الروائية والمسرحية والمقالية . فأي كاتب استطاع أن ينقد أسلوب السادات ؟ كما تشير إلى ذلك لطيفة الزيات .
لم يكن كتاب “عبد الله القصيمي”” العالم ليس عقلا” لجمال عبد الناصر بأنه ” أعلى مراحل الاستغلال والرجعية “سوى انحياز مبطن للرجعية العربية ممثلة بالسعودية ،حين يراها أقل خطرا مما سماه “أعلى مراحل الاستغلال والرجعية “!
تحمس “ميشيل عفلق ” لجمال عبد الناصر كما يورد ذلك “محمد جابر الأنصاري “في كتابه “مساءلة الهزيمة ” ،وكتب عفلق بعيد معركة السويس عام 1956م محذرا من زوال ظاهرة القائد جمال عبد الناصر “لو زال عبد الناصر فإن ذلك سيرجع بالعرب عشرات السنين إلى الوراء ،إلى مزيد من الاحتلال والتجزئة والفساد والانحلال ،لأن سياسة عبد الناصر الاستقلالية العربية قد دفعت قضية العرب وإمكانياتهم درجات حاسمة إلى فوق …إن جمال عبد الناصر هو فعلا وبالذات موضوع وهدف لهذه المعركة التي يشنها الغرب الاستعماري”.
بعد ذلك انقلب ميشيل عفلق وحزبه على هذه الرؤية والموقف ،أثناء وبعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة ،فكتب ساطع الحصري عام 1963م كما يورد “الأنصاري ” ” أ فليس من الغريب أن ينسى ميشيل عفلق وحزبه كل ذلك ” !