إيهاب شوقي
كتاب الشرق الأوسط الجديد الذي أصدره شيمون بيريز في عام1996، تنبع أهميته وخطورته من التطبيق العملي والذي يشي بأنه ليس مجرد كتاب يحمل بين ضفتيه أفكارا ومقترحات، وإنما خطة عمل يتم تطبيقها على مراحل.
وليس هنا مجال لعرض الكتاب، وإنما رصد لتطبيق أفكاره بشكل عملي، بهدف توقع الخطوات القادمة في الإقليم والتحسب لها.
وكثير من الدراسات التي تناولت كتاب بيريز، ركزت على التشكيك في نواياه، ونحن بالطبع نتفق مع ذلك، ولكننا نرى أن الكتاب ليس للتمويه ولا التضليل، بل هو مقترح واقعي صهيوني له وجاهته لدى الكيان الإسرائيلي، بل وله خطواته التنفيذية التي بدأت بالفعل في التحقق!
مصدر مصداقية التطبيق الصهيوني لمشروع بيريز:
ووجاهة مشروع بيريز بالنسبة لـ”اسرائيل” تأتي من انطلاقه من تحليل واقعي مفاده أن الاستراتيجية التقليدية والقائمة على “الوقت والفراغ والكم” قد سقط مضمونها مع التطور التكنولوجي وتطور الصواريخ الباليستية والذي أبطل عامل الوقت بسبب سرعة الصواريخ وتجاوزها لمسافات شاسعة في وقت قياسي، وكذلك عامل الفراغ، حيث أبطلت الصواريخ جدوى الموانع الطبيعية، والكم، حيث تستطيع الصواريخ تجاوز الأسلحة والعتاد المتراكم، وبالتالي سقطت أيضا نظريات العمق الاستراتيجي.
هذه الوجاهة التي انطلق منها التعديل الاستعماري لبيريز هي مصدر مصداقية المشروع بالنسبة للصهاينة، وهي ما تجعلنا مقتنعين أكثر واكثر بأن “إسرائيل” تسعى لتطبيق الشرق الأوسط الجديد.
الاقتصاد هو العقيدة البديلة
القارئ الجيد لكتاب بيريز وأفكاره لا بد وأن يخرج بخلاصة نهائية لما استعرضه وحاول إثباته ومن ثم أوصى به واقترحه، وهذه الخلاصة مفادها أن ان كل العقائد المتعلقة بالصراع سواء كانت قومية أو دينية أو ثارات وطنية، يمكنها أن تذوب وتتلاشى بفعل المصالح الاقتصادية والرخاء والقضاء على الفقر والذي لن يتحقق سوى بالسلام!
وهذا نلمح ظلاله حاليا في تبريرات إعلامية ورسمية للتطبيع، وبشكل مكثف يثبت أن الهدف هو استبدال كافة العقائد بعقيدة المصلحة!
أطروحات الكتاب وتطبيقها الراهن عمليا
دعونا هنا نبحر مع بعض أهم أطروحات الكتاب ونرصد تطبيقها العملي ونتوقع بناء على ذلك الخطوة القادمة في الإقليم:
1 – أطروحة التطبيع على شواطئ البحر الأحمر
يتحدث بيريز عن “كونسرتيومات دولية تتولى تنفيذ المشاريع التي تتطلب استثمار رساميل هائلة بإشراف البلدان ذات العلاقة في المنطقة علاوة على إطراف أخرى ذات مصلحة بالأمر أيضا، ومن الأمثلة على هذه المشاريع، قناة البحر الأحمر-الميت، مقرونة بتطوير التجارة الحرة والسياحة على امتدادها، وإنشاء ميناء مشترك اسرائيلي أردني سعودي وتطوير الطاقة الكهرومائية وتحلية المياه”.
ولنتأمل الفقرة القادمة من كلام بيريز:
“يمكن لنا أن نبدأ في نقطة البحر الأحمر، فقد تغيرت شطان البحر الأحمر مع الزمن وأصبحت مصر والسودان واريتريا تقع على احد الجوانب فيما تقع اسرائيل والأردن والسعودية على الجانب الآخر وهذه البلدان تجمعها مصلحة مشتركة، ويمكن القول انه لم يعد هناك أسباب للنزاع، فأثيوبيا من بعد نظام منجستو واريتريا المستقلة حديثا تريدان إقامة علاقات سليمة مع جاراتهما بما في ذلك اسرائيل، في حين أن مصر وقعت بالفعل اتفاقية سلام مع اسرائيل، أما الأردن والسعودية واليمن فتريد تأمين حرية الملاحة والصيد وحقوق الطيران”.
التطبيق العملي الراهن عبر مشروع “نيوم”
مشروع نيوم كما تم إعلانه، ووفقا لوكالات الأنباء جاء كما يلي نصا :
” أعلنت السعودية عن خطط لبناء مدينة ضخمة تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار على ساحل المملكة المطلة على البحر الأحمر في إطار حملة وطنية ضخمة لتنويع اقتصادها.
وقال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إن المنطقة التي تبلغ مساحتها 26500 كيلومتر مربع والمعروفة باسم “نيوم” ستركز على صناعات تشمل الطاقة والمياه والتكنولوجيا الحيوية والطعام والتصنيع المتطور والترفيه”.
ولنتأمل هذه الفقرة من الإعلان:
“سوف يجذب نيوم الاستثمارات والشراكات الخاصة والعامة. وستدعم المنطقة أكثر من 500 مليار دولار خلال السنوات المقبلة من قبل المملكة العربية السعودية، وصندوق الاستثمار العام السعودي، والمستثمرين المحليين والعالميين.
تقع المدينة التجارية والصناعية في المنطقة الشمالية الغربية للمملكة وهي المنطقة الأولى في العالم التي تمتد عبر ثلاثة بلدان، وتمتد حدودها إلى الأردن ومصر المجاورتين.
وبجوار البحر الأحمر وخليج العقبة، وبالقرب من طرق التجارة البحرية التي تستخدم قناة السويس، فإن المنطقة ستعتمد على طاقة الرياح والطاقة الشمسية فقط.
وتهدف المدينة إلى تقديم سكانها “نمط حياة شاعري يقترن بفرص اقتصادية ممتازة تتفوق على أي مدينة أخرى. وسوف يجتذب السعوديين والمغتربين، كما تفعل جميع المجتمعات العالمية الأخرى”.
الدور الاسرائيلي في مشروع نيوم:
كشف تقرير جيروساليم بوست معلومات هامة عن دور “اسرائيل” في المشروع، وأهم ما جاء بالتقرير:
“أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن مشروع “المدينة الذكية” الذي تبلغ تكلفته 500 مليار دولار على بعد كيلومترات قليلة من إيلات، ذكر إنشاء منطقة اقتصادية مشتركة مع الأردن ومصر، مع إغفال دولة واحدة بين الدولتين.
يتحدث عدد من الشركات الإسرائيلية إلى صندوق الاستثمار العام بالمملكة العربية السعودية حول تطوير المساحة المقترحة البالغة 26500 كيلومتر مربع.
علمت صحيفة جيروزاليم بوست، أن المشروع يعدّ ضربة قوية لمقاطعة الجامعة العربية منذ عقود طويلة للدولة اليهودية.
“المدينة الذكية” ستستضيف شركات التكنولوجيا الفائقة العاملة في مجموعة من المجالات، بما في ذلك الطاقة الشمسية والمياه والتكنولوجيا الحيوية والتكنولوجيا الروبوتية وتكنولوجيا الأغذية، وكلها مجالات تعتبر الشركات الناشئة والشركات الإسرائيلية أكثر رسوخًا بها من المنافسين في الدول العربية.
بسبب الحساسية الدبلوماسية للمشروع، لا يمكن لأي شركة إسرائيلية الكشف عن تفاصيل الاتصال مع الصندوق السعودي، الذي يبلغ حوالي 230 مليار دولار.
السعوديون ليسوا راغبين في التعاون مع الإسرائيليين رسمياً، ولكن عندما تأتي شركة رأس المال الاستثماري من القطاع الخاص، يكون من الأسهل بكثير إنشاء جميع أنواع التعاون في مجالات المياه والطاقة والتكنولوجيا الزراعية والمواد الغذائية.
وقد شاهدت الصحيفة مراسلات بين الدبلوماسيين العرب ورجال الأعمال الإسرائيليين تؤكد أن المحادثات جارية بشأن التعاون الاقتصادي، وأن عددا من الشركات الإسرائيلية تبيع بالفعل أدوات الأمن السيبراني للحكومة السعودية.
وقال رجل أعمال إسرائيلي على دراية وثيقة بالمدينة الذكية إن العديد من الشركات الإسرائيلية ستكون قادرة على العمل بشكل علني – وقد تتعاون الحكومة الإسرائيلية علانية مع السعودية والأردن ومصر – إذا ظهر اختراق دبلوماسي في المفاوضات مع الفلسطينيين.
* الخطوة المتوقعة
بعد التطابق الظاهر بين أطروحة بيريز ومشروع نيوم والمناخ التطبيعي المحيط به وبعقول الجماهير العربية والإسلامية حاليا، يمكننا بسهولة توقع شرارة البدء بل وتفاصيلها والتي يمكن أن نراها ونقرأ عناوينها في الأيام القادمة.
وقد كشفها بيريز في أطروحته وكشف كيف سيبدأ التطبيع الكبيرعندما قال في كتابه “ويمكننا كخطوة أولى التركيز على القضايا الإنسانية مثل التعاون في عمليات الانقاذ البحري والجوي واقامة شبكة اتصالات للانذار المبكر من المناورات البرية والبحرية، كما ويمكن الحفاظ على النظام الاقليمي من خلال المشاريع المشتركة، أبحاث، تطوير مصادر الغذاء من البحر، وكذلك السياحة، أما إقامة حلف استراتيجي فستكون خطوة ممكنة في مرحلة متقدمة”.
2 – غزة أولا وتطبيقها على قضية القدس المحتلة
في كتابه وهو يتحدث عن خطة غزة أولا، يكشف بيريز طريقة التفاوض الاسرائيلية، حيث يقول انه لو عرض خطة غزة لقوبلت بالرفض، وان الحل يكمن في أن تكون غزة مقدمة وليست نهاية المطاف وأن تأتي بطلب فلسطيني تستجيب له اسرائيل لأن ذلك يوحي بانتصار فلسطيني اذا ما استجابت اسرائيل .
اي ان “اسرائيل” تنفذ ما تريد وتوحي للعرب بأنهم منتصرون!
* التطبيق العملي الراهن عبر أطروحة “أبو ديس”
ما قاله بيريز بخصوص غزة أولا، يذكرنا بقضية أبو ديس بديلا عن القدس وأنها إذا ما جاءت بطلب عربي ممزوج بأن هناك مفاوضات لاحقة لوضع القدس فإن هذا التنازل الفاضح عن القدس سيقدم على هيئة انتصار عربي!!!
* الخطوة المتوقعة
من طريقة التفاوض والتفكير الصهيوني الذي كشفه بيريز، يمكننا توقع الضغط على الفلسطينيين لإجراء مصالحة وتوحيد في الآراء بخصوص قضية القدس، مفاده أنها تكون كأمر لاحق في التفاوض وأن تكون مفتوحة لحرية العبادة، مع تقديم أبو ديس التي ورد ذكرها في التقارير أنها كانت مقترحا سعوديا للسلطة للقبول بها كعاصمة للدولة المزمع إقامتها.
على أن يكون المقترح فلسطيني وتستجيب له “اسرائيل” بما يوحي انه انتصار عربي!
3 – بيريز وكواليس الأحداث الراهنة
أن حديث بيريز عن الحدود المرنة بنزع الأسلحة وتوفير عمق آمن لـ”اسرائيل”، وكذلك عن الهيكلية القائمة على الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية بجيش كونفدرالي شرق الأردن وإبقاء الضفة منزوعة السلاح، والحكومة والتي يجب أن تكون متفقة مع المشروع الشرق أوسطي في جانبيها الأردني والفلسطيني، يشي بالتسويات الموجودة بالكواليس هذه الأيام، حيث الضغط على المصالحة لتشكيل الممثل الفلسطيني في الكونفدرالية وإلقاء سلاح المقاومة وتصفية القضية نهائيا!
(كاتب عربي من مصر)
Next Post
قد يعجبك ايضا