العروبة فوق الجميع
عمر زين *
عرف القرن التاسع عشر الميلادي واشتهر في أوروبا بأنه عصر القوميات: عصر وعي الأمم والشعوب لذاتها: بأرضها وحدودها وبتاريخها وهويتها وعاداتها وتقاليدها وتكوينها النفسي المشترك…،وراحت تنشئ وتبني دولها المتميزة والمستقلة على أنقاض الامبراطوريات الدينية والشمولية وخاصة الاستعمارية منها.
بهذا يكون الوعي القومي الذي ابتدعته وجسدته الأمم والشعوب الأوروبية خير هدية لأمم وشعوب الأرض كافة وبالتحديد والتخصيص منها أمّتنا العربية التي سارعت منذ أواسط ذلك القرن الميلادي إلى تبني واعتماد هذا الوعي القومي وإطلاق الحركة القومية العربية، والحركة العروبية (وهما بالمناسبة تعبيران لمدلول واحد) وتحديده بأنه: الحركة الواعية لوجود الأمة العربية المتميز والمستقل، والعاملة على تجسيد هذا الوجود في مؤسساتدستورية واحدة (سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية) وغيرها كثير.
ونقول إن المفهوم العلمي والثابت للحركة القومية العربية أو للحركة العروبية انطلقت الحركات الشعبية والجماهير، وتنظيماتها السياسية والنضالية والكفاحية وإبداعات مفكريها وانجازاتهم في استخراج النظريات والتحليلات المناسبة للظروف المناسبة والبرامج الفكرية، وانخراط بعض الأنظمة العربية القطرية (الوطنية) في خط الحراك والنضال القومي العربي الذي غطى ساحة الوطن العربي بحدوده القومية، وإن بأنماطو أحجام مختلفة بين بلد وآخر تبعاً لاختلاف واقع وظروف البلد عن الآخر…
لقد كان الصراع المحتدم والمستديم الذي طبع القرن العشرين الميلادي، ولا يزال على الدوام بين قوى الحركة القومية العربية أو الحركة العروبية من جهة، وبين قوى الاستعمار الغربي على اختلاف أسمائه ومعه الحركة الصهيونية وطليعتها الكيان الصهيوني وقوى أنظمة حكم الرجعية العربية من جهة أخرى. ففي قلب هذا الصراع ودائماً في ظل اختلاف واختلال موازين القوى، ودائماً لصالح هذا الثالوث المناهض والمعادي لقوة الحركة القومية العربية (العروبية) المندفعة بكل قواها في سبيل الوحدة والتحرر واستعادة فلسطين،ودحر الوجود الاحتلال الصهيوني، وتقرير المصير، واستعادة كل شبر مستلب ومحتل من الوطن العربي في الإسكندرون، وفي عربستان، وفي الجزر المتنازع عليها مع إيران، إلى جانب حاجات الأمة العربية في التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية والتجدد الحضاري وتحقيق الاستقلال القطري والقومي الفعليين والحقيقيين، على طريق الاستقلال والوحدة القومية فعلياً لا قولاً، ومواربة كانت قوى المعسكر المعادي والمجابه لقوى الحركة القومية العربية جاهزة على الدوام وبدون توقف أو انقطاع- بالرغم من هزائمها في العديد من المعارك هنا وهناك لأمن الوطن العربي- لصراع الخطط والأفكار التي كلها تقصد إلى منع قوى الحركة القومية العربية من تحقيق أهدافها القومية والوطنية من خلال (الانتداب- الاستعمار والاحتلال المباشر- التقسيم والاستقلال الوطني كما هو في سايكس بيكو- ووعد بلفور، وقيام الكيان الصهيون يفوق أرض فلسطين.
ولعل أخطر أساليب القوى المعادية لمسيرة الحركة القومية العربية هي تشديد العمل دائماً على توطيد اللحمة بين تحالف قوى: الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية واختلاف السياقات والعداوات ومنع التقارب والتفاهم بين الأنظمة العربية وأخطرها التنافس غير الشريف فيما بينها حتى وصل بنا الأمر إلى تجمعات متنافسة إلى أن وصلت للعدوات والانغلاق: فجامعة الدول العربية انشئ إلى جانبها: مجلس تعاون دول الخليج؟؟ (هذا بدون توصيف لهذا الخليج!؟) ومشروع الاتحاد المغاربي والى جانبه صراع الصحراء بين المغرب وجماعة الصحراء؟! والتنافس غير الشريف وغير المبرر اللهم إلاّ استمرار الخلاف كأن نقول: لبنان أولاً والعراق أولاُ ومصر أولاً؟! تماماً كما خرجت إلى التداول مع بدايات القرن العشرين التنظيرات التي تقول: بالقومية الفينيقية والقومية الفرعونية وغيرها… وكلها بوجه القومية العربية والتي هي المظلة للجميع. فيما الحقيقة والواقع توضح هذه السياقات التي ليس لها إلا هدف واحد هو الإمعان في التجزئة لأمة العرب لمصلحة المعادين لهذه الأمة والمتمثلين في: الكيان الصهيوني أولاً وفي دول الرجعية العربية ثانياً ولا فرق هنا في الترتيب بين أولاً وثانياً.
ولعل خير ما نختم به هذه الخاطرة اليائسة في هذه الأيام، هو استحضار ما خلص إليه المفكر القومي العربي الفذ ابن خلدون ساطع الحصري من التابعية العراقية يوم تصدى للدعوات القومية: الفينيقية والفرعونية وغيرها بمقولته الخالدة: (العروبة فوق الجميع) وهذا ما أثبتت الأيام حتى اليوم صحته: بتراجع هذه الدعوات وهذا ما سيكون عليه مصير دعوات: لبنان أولاً والعراق أولاً ومصر أولاً… الخ. فالكل أجزاء في كل: هو الوطن العربي: ولا فرق بين متقدم ومتأخر فالكل متساو في نهاية المسار وبالتالي عندما تكون العروبة أولاً، يعني ذلك أن لكل دولة عربية منها هي أولاً.
* الأمين العام لاتحاد المحامين العرب (سابقاً)