أمير الكراهية
أحمد فؤاد
تبحث الدول وأنظمة الحكم الطموحة عن أدوار أكبر من حدودها، مدفوعة بأطماع أو بأحلام، لا يهم، الأهم أن الدور يرتب أثمانًا باهظة على الدول، حتى إذا ما كانت تمتلك عناصر القوة الشاملة، القوة المؤثرة العابرة أصلًا لحدودها.
مملكة آل سعود من زمن طويل تسعى إلى دور ضخم خارج حدودها، مدفوعة بأحلام المؤسس للإمبراطورية، وتخطيط أجهزة وقوى عالمية، تلاقت الإرادات على صفحة الصحراء، ونجحت جزئيًا في اجتياز طريق طويل كلله بتوحيد غالبية أجزاء شبه الجزيرة العربية.
توقفت الأحلام السعودية عند حدود الصحراء لعقود، فلم تستطع عقول بني سعود في أي مرحلة تقديم مشروع يتجاوز فقر الخيال المرتبط بالبادية إلى الغنى الحضاري للعواصم العربية التقليدية، بغداد والقاهرة ودمشق وبيروت، فحولت كل إمكانياتها إلى سهام تضرب ظهر أي مشروع عربي يتصوره عدوها.
تحولت المملكة إلى خدمة الكيانات العالمية الكبرى الفاعلة، لتحصل على توكيلها الحصري في الشرق الأوسط.. فعلت هذا مع بريطانيا إبّان سطوتها العالمية، ثم تحولت إلى تابع خلف السياسة الأمريكية، ولما اكتشفت مكانة الكيان الصهيوني قبلت أن تكون التابع الثاني في المنطقة، مقابل تنسيق المصالح والأدوار من وراء ستار طوال العقود الماضية.
الآن أصبحت السعودية على موعد مع ما يظنه ابن سلمان تأسيسها الثاني، وضع قواعد مشروع حديث على قواعد قوة جديدة، لا يشترك مع القديم إلا في المظلة الأمريكية والعلاقات الصهيونية، لكن الثمن الذي سيدفعه ابن سلمان يبدو أضخم من قدراته، فالسعودية في هذه اللحظة لا تملك مؤثرًا خارج حدودها سوى المال.
عوضًا عن تكامل لازم بين العرب، يستفيد من اتساع الثروة والجسد في جزيرة العرب، ويقوده العقل الممثل في الحواضر العربية الأخرى، التي كانت تاريخيًا هي التأسيس الفعلي للحضارة العربية الإسلامية، يريد البيت السعودي الحاكم إسقاط تجربة توحيد الجزيرة العربية، والتي نجحت بمؤثرات خارجية غير منكرة، على حلم إقامة خلافة آل سعود على امتداد الأرض العربية، مستفيدًا من الفراغ الحاصل بعد ثورات -ما يسمى- الربيع العربي.
في سعيه لتحقيق حلم لا يملك أدواته، يتخيل الجالس على عرش الرياض أن للمال سطوة كتابة التاريخ، وتوهم أن الغرب الذي ساعد سابقًا لتحقيق مصالح مشتركة، سيساعد مرة أخرى مقابل الثمن، فهب يوزع من فوائض البترول على كل من قبل بيع ذمته وضميره.
يتناسى ابن سلمان أن للمال حدودًا، كما أن للقوة حدودًا، وأن للمشروع الحضاري أو الوحدوي شروطًا هائلة، أولها الإيمان، وليس آخرها القوة المعنوية أو القوة الناعمة، التي تجعل من كلمة المشروع مسموعة خارج الحدود، وتؤثر في تحريك الحشود والجماهير خلف هدف واحد.
فضل ابن سلمان ومن ورائه الدائرة الضيقة الحاكمة شراء وعي الجماهير العربية، عن طريق شراء إعلاميين وكتاب وصناع الرأي العام، في مصر على سبيل المثال، أصبح للسعودية فرقة كاملة من العازفين يسيرون بإشارة من أحمد قطان، سفير سلمان بالقاهرة، يظهرون الولاء الكامل والدفاع الشرس عن كل من ينتقد ولي نعمتهم، أو يقترب من سياساته.
جوقة العازفين كانت على موعد مع رد الجميل، خلال السعي السعودي للاستيلاء على جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، بذلوا الغالي والرخيص لتبرير قرار النظام المصري بالتخلي عن الأرض، وهو موقف فارق، شهد فَقدُ النظام المصري لكل ارتباط له بالشارع، وانقلب التأييد الجماهيري الكاسح سابقًا إلى مرارة مكتومة في القلوب.
لكن اللافت في أدوات سلمان بالقاهرة أنها نجحت في بذر الكراهية لكل ما هو سعودي، والمعارضة المتعاظمة للنظام الحاكم تعود في جزء منها إلى “ثأر” حقيقي زرعته السياسات السعودية، التي اعتمدت على وجوه مكروهة شعبيًا، وتصادمت بالكلية مع مكونات المجتمع المصري.
لليسار المصري، وفي القلب منه الناصريون ثأر قديم مع آل سعود، و”اليمين الديني” يعتقد أن سلمان قد سلمهم للأمن المصري ورفع حماية كانت السعودية تؤمنها لهم سابقًا، وجماعة الإخوان المنحلة وتابعوها بدأوا موسم العداوة المفتوحة مع السعوديين منذ عهد عبدالله، اما الأقباط والعلمانيين فبينهم وبين السعودية ما صنع الحداد سلفًا.
ربما لم ينجح شخص في جمع المصريين على كراهية دولته أكثر مما فعل ابن سلمان، والأغرب من فعله، هو استمراره بالقدر نفسه في أداء رسالة الكراهية.