تجربة حركة التحرر الفيتنامية 12
عبدالجبار الحاج
علينا ان نلقي الأضواء الكاشفة في كل الزوايا والكواليس التي أنتجت تلك الصيغة لاتفاق جنيف للفترة من.. إلى.. من خلال الوقوف على ما طالته مطالعاتنا وأمكننا البناء عليه.
فالاتحاد السوفييتي يراهن على قرار فرنسي بعدم الانضمام إلى مجلس الدفاع الأوروبي وبات الموقف الفرنسي قيد التنفيذ وبالمقابل قايضت فرنسا مقابل موقفها دعما سوفييتيا يفضي إلى اتفاق فرنسي فيتنامي يسمح لفرنسا بالخروج بماء يحفظ وجهها ، زد على ذلك ان أعلن رئيس وزراء فرنسا بير فرانس هذا التي قادته سوء الصدف في أوضاع وأزمات وانكسارات تتوالى على فرنسا من أقصى الشرق في محنتها في الهند الصينية حتى ليجدها العدو في وضع يرثى له، هزيمة ساحقة في فيتنام وخسارة محققة في كمبوديا ولاوس. وتصعيد غير متوقع تشنه جبهة التحرير الجزائرية واشتعال الثورة الجزائرية الكبرى التي استأنفت مسيرة شعب الجزائر اندلعت هذا العام الـ54 قوية وواسعة الانتشار.
والصين خارجة هذا العام من الحرب الكورية العنيفة والهائلة التضحيات.وقد وجدت في انتصار الثورة الكورية على اشرس حرب شنتها امريكا وعدد من دول جنوب شرق آسيا وقيام دولة بقيادة الزعيم كيم ايل سونغ على حدودها..
خرجت الصين من هذه الحرب بثمن من التضحيات البشرية وتلطخت الهيبة الأمريكية بهزيمة مرارتها ورغبة الانتقام ماثلة بالمقاطعة والحصار الاقتصادي إلى اليوم.
انتزعت الصين مكانتها عنوة والتي فرضت نفسها في مؤتمر جنيف لاعبا رئيسيا ، رغم رفض أمريكا الاعتراف بها راحت وتناقش وتشترط و تتحرك كدولة كبرى في الملعب السياسي الدولي..
غير انها وللسنة الرابعة من انتصار الثورة ملزمة بخطط واستراتيجيات صناعية عسكرية وفي كل الصناعات الكبرى تحتاج إلى ان تتفرغ لها..فقيام دولة فيتنام الديقراطية بقيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي تكون حدودها الجنوبية مع شمال فيتنام آمنة وقد تأمنت حدودها الجنوبية للتو مع الشمال الكوري وانجزت دبلوماسيتها على هامش المؤتمر اتفاقات على الحدود مع الهند وبورما وان بقيت على غير حسم وترسيم مع الحدود لكنها ضمنت هدوءاً وسلما على حدود اطول دولة معها إلا بما يكفي من الوقت للانشغال باستراتيجية البناء الاقتصادي الطموح ونجحت بتنفيذ الهدف الطموح في سنوات الخمسينيات ومطلع الستينيات.
هذا عن خلفية الصين التي كانت المحدد لوجهتها في المؤتمر.
إزاء هذه الصور والمحددات التي حكمت السوفييت والصين ودورهما في التفاوض والاتفاق.. يجب ان لاننسى ان ضمان السوفيت عدم انضمام فرنسا لمجلس الدفاع الأوروبي كان امرا مقترنا باستمرار ( بيير فرانس ) هذا رئيس الوزراء الفرنسي 54/ 58 ، إذا أعطى مهلة محددة لمؤتمر جنيف مهددا بالاستقالة مالم يخرج باتفاق أو لم ينجز الاتفاق على خلال المهلة. ما جعل السوفييت يدفع بوتيرة متسارعة خشية من انقضاء المدة واستقالة بيير فرانس وبالتالي خشية من انتخابات مبكرة في فرنسا قد تأتي برجل يطيح بقرار عدم الانضمام إلى مجلس الدفاع الاوروبي.
بالنسبة لفرنسا لم تكن لترجو أكثر من اتفاق ينضم انسحابها ولاتروم أكثر من غطاء تخفي فيه وجهها الملطخ بالوحل الفيتنامي. وكانت بنود الاتفاق الذي تنتهي تنفيذ احد بنوده بحسب الجدول بانسحاب آخر جندي فرنسي لها من فيتنام في ابريل 56.
حتى هذا لم يمض كما أرادته فقد تنكر لها عملاؤها الجنوبيين في ظل رئاسة دييم الذي بموجب الاتفاق ستخضع حكومته عام 56 لاستفتاء الشعب بالوحدة والاستقلال.
فقد قام دييم بتشجيع وإيعاز أمريكي بطرد الإداريين الفرنسيين القائمين على إدارة شركاتها.
وفي فيتنام الشمالية صدرت قرارات بتأميم الشركات الفرنسية الواقعة هناك.
غير أن المصيبة الكبرى التي ستلحق بفرنسا سياسيا وعسكريا. هي امر لم يكن في حسبانها.
تفجر الثورة الجزائرية الكبرى..
كانت الجزائر بالنسبة لفرنسا قطعة منها وهكذا جرى فرنسة الجزائر بمافي ذلك فرنسة اللغة.
لا بل بلغ الأمر حد إخضاع الشعب الحزائري للاستفتاء على دستور فرنسا فيما اسمي بالجمهورية الخامسة وهي الجمهورية التي أتت بديغول إلى الرئاسة عبر انقلاب عسكري عام 58 واستمر فيها حتى عام 60م…
وهو دستور منح الرئيس صلاحيات. رآها ديغول محاولة لاستعادة الهيبة الفرنسية وتساقطت الحكومات تلو الحكومات في فرنسا بسبب هزيمتها في الفيتنام وتعاظم انتصار الثورة الجزائرية ومثول فرنسا لهزيمة محتومة في الجزائر ستنال الاستقلال عام 62 ومن ثم يصعد ويأتي اليسار إلى سدة الحكم عام 65 بقيادة العظيم هواري بومدين…
وكانت فيتنام والجزائر وبقيت العقد التي لا تقوى فرنسا على الخلاص من كوابيسهما ولذلك تخبطت السياسية الفرنسية تحت ثقل الهزيمة الفيتنامية. ولما حاولت ان تعوض عن هزيمة الفيتنام راحت تضخ إمكانات وقوى مضاعفة للتعويض عن فيتنام بالحفاظ على الجزائر.
خلال الأعوام 54 إلى 56م مرحلة الانسحاب الفرنسي المحتوم والمذل من فيتنام خلال هذه المدة راحت تغرق في الجحيم الجزائري المشتعل النيران على مساحة هي أضعاف أضعاف المساحة الفيتنامية حتى انها ضخت من جيوشها في حرب الجزائر أعدادا هائلة بلغت خمسمائة ألف في عام 55 و56 م وبلغت المليون جندي عام 59 م ومن الطيران 600 مقاتلة حربية إضافة الهيلو كابتر ومن البحرية وسلاح الدروع بأرقام مضاعفة لتغرق مرة أخرى في معركة أصعب وهزيمة أصعب وأمام شعب وثورة لا تقل أن لم تكن اشد ضراوة.
على أية حال الحرب الفرنسية الجزائرية تحتاج إلى حيز أوسع من الحيز الفيتنامي.
بقي أمامنا ونحن نتحدث عن الخلفيات والكواليس لكل القوى التي حضرت أو شاركت في مؤتمر جنيف ان نتناول أداء المفاوض الفيتنامي والذي كان يرأس وفدها (فام………. )…..
ثم علينا أن نقف أمام الخيارات الممكنة أو المتاحة التي سيتحرك عليها الفيتناميون.
يجب علينا أن نعرف عن هذا الفيتنامي المفاوض انه حامل معه خيارات شعبه وقرارات قيادته ومهارته تكمن في التحقيق الخلاق للخيارات الشعبية والقرارات الاستراتيجية لقيادة حركة التحرر الفيتنامي.
إذ ليس أمام المفاوض الفيتنامي هذا مساحة للتقدير الشخصي بل أمامه تحقيق خلاق لمبادئ وأهداف خاض هو معركتها منذ البداية وسيعود في خضمها جنديا يستكملها في الميدان كأي جندي نظامي أو مليشاوي أو مقاتل ريفي يجمع بين الفلاحة والقتال. كل ذلك يجتمع في وعي وأداء المفاوض..
يالها من صفات فريدة ومكونات شتى لا يجيدها إلا هذا الطراز من المفاوض الذي لا يطلب صلاحيات تصرف أو قراراً شخصياً بتفويض.
ثم ان الخلفية الأكثر تأثيرا في توجيه وصلابة المقاتل والمفاوض وهي الخلفية الجامعة.هي ان تجربة التحرر من جهة وصلابة الإرادة الثورية في التغيير من جهة وفي خضم معارك وصراعات خاضها الشعب مع القوى الاستعمارية الكبرى منذ الثلاثينيات بوقائع الأحداث العنيفة والدامية.ومرات يضطر فيها إلى إقامة انموذج الإصلاح الزراعي والعدالة الاجتماعية على المساحة والسكان الذي بات وحدة سياسية تمارس وتنفذ وتتحقق عليها برامح الثورة الفيتنامية وداخل كل جزء من الأرض المحررة فيضطر إلى الصدام المسلح مع القوى التي تناهض الثورة وبرنامجها.
لذلك ومن ذلك كله تشكلت الهوية الوطنية ونمت وتطورت إلى درجة من الحساسية التي تتملكها بحيث لم تضع لخيارات التنازلات أي مبرر أو امكانية..
من هنا سنت الوطنية الفيتنامية سنة لا تقبل بالمساس مطلقا من هنا كانت هذه الحدة أو عدم التسامح ورفض إعطاء شيء مقابل دعم ما هذا وفيتنام في أحلك ظرف وأمس حاجة لحليف قريب أو بعيد.
لذلك تميزت علاقتها بالدول الكبرى كالسوفييت والصين بعدم التنازل أو مستوى من المساومات ما جعل هذه الحاسية تختلف مع السوفييت فاختارت حليفها اليوغسلافي جوزيف تيتو عوضا عن السوفيت في إحدى المراحل..
ومع الصين بلغت حد حرب عسكرية على الحدود لمدة شهر وتوقفت حيث ادعت الصين الانتصار وكذلك ادعت فيتنام.وإلى اليوم لم تتخل فيتنام عن جزر صارت بيد الصين منذ قرون عدة.حتى انها توصلت مع الصين إلى اتفاق لاستثمار الحكومتين مناصفة دون إشارة إلى من تتبع هذه الجزر.
ليس هذا فحسب ، فقد بنيت جسور العلاقة بين الثورتين والحركتين أولا ومن ثم لاحقا عقب انتصار الثورتين اي بين البلدين فيتنام والجزائر لتكون نموذجا..
ولن ننسى أن الصين الشعبية كانت أول دولة توجه دعوة رسمية لجبهة التحرير الجزائرية وحكومتها المؤقتة قبل الاستقلال بسنوات..فكان أول اعتراف بحكومة الثورة في الجزائر عدى مصر عبد الناصر قادم من الصين وفيتنام الديمقراطية..
في الحقيقة هنا في التجربة الفيتنامية تتجلى أمامنا قيمة من القيم والأخلاقيات الثورية التي تحلى بها الفيتناميون تجاه شعبنا العربي في الجزائر ففي حين كانت فرنسا تجند الآلاف من الجزائريين سواء أكانوا من المرتزقة أو أولئك المجبرين على التجند. وخاض الآلاف من هؤلاء الجزائريين معارك وحروب تحت قيادة الجيش الفرنسي في فيتنام حتى انه عند استسلام القائد الفرنسي في معركة ديان بيان فو. وقع مابين ثلاثة إلى أربعة آلاف من الأسرى ومثل هذا العدد من الجرحى ناهيك عن القتلى الذين لم يعرف عددهم في احصائيات هذه المعركة.
القيمة الأخلاقية الثورية التي ردت بها قيادة فيتنام ان كانت اول حركة تستقبل آلاف الثوار الجزائريين لتدريبهم على فنون القتال وألوان ومراحل حرب العصابات في الحرب الوطنية الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي.
بذلت قيادة حركة التحرر الفيتنامية بفروعها وأشكالها التنظيمية والإدارية والاجتماعية والسياسية ، وطبقت على امتداد سنوات الحرب نماذج نظامها على كل المناطق التي كانت تقع تحت سيطرتها الكاملة ، فمكنت الفلاحين من ان ينعموا بملكية الأرض من خلال القضاء على الإقطاع واستصلاح الأراضي وإعادة بناء وتطوير شبكات الري وإيصالها للأراضي التي كانت لم تصلها بفعل احتكارها من كبار الإقطاعيين المسيطرين بالكامل على الأراضي المحاذية لضفتي الأنهار الرئيسية والفروع وذلك عبر برنامج للإصلاح الزراعي. ونشر برامج محو الأمية ومراكز محو الأمية.
ثم انه وفقا للبرنامج الإداري وفي المناطق التي احكموا سيطرتهم عليها منحوا المناطق تلك حق إدارة شؤونهم بعد ان أزاحوا تلك العناصر والنظم الاستبدادية بأن تمتع الفلاحون وعموم السكان بحرية إدارة شؤونهم.
ونعمة أخرى ان كل منطقة واقعة تحت سيطرة ألفيت منه لم يتعرض فيها السكان للقمع أو الاعتقال. مثل هذا الوضع كان السكان يجدون أنفسهم في حالة أنهم وقعوا تحت سيطرة الأنظمة العميلة يخسرون كل هذه المكاسب. وهي ما جعلت السكان عموما يقارنون ويميلون بل ومن ثم ينضمون للفيت منه.
سأعقد مقارنة لوقائع وأحداث القمع بين المناطق الواقعة تحت سيطرة قيادة ألفيت منه والحزب الشيوعي الفيتنامي خلال متابعة ومراقبة سلوك الأطراف في تنفيذ اتفاق جنيف. ففي تقارير لجنة الرقابة الدولية المكلفة بمراقبة بنوده جاء بالتقرير صراحة ان المناطق الواقعة تحت سلطة ألفيت منه. ثم تلك الواقعة في نطاق جمهورية فيتنام الديمقراطية لم تحدث ولم تسجل اللجان أي حالة اختراق أو اعتقال لأي كان ممن تورطوا في تلك المعارك.
(…….)
نجح الحزب الشيوعي بقيادة هوشي منه في بناء تنظيم سياسي واحد بقيادة موحدة وهو بناء تنظيمي على قدر كبير من الأهمية والضرورة في مركز صناعة الاستراتيجية الحربية.إذ نجح في خلق إطار سياسي يضم الحركات الثورية التحريرية في لاوس وكمبوديا فكانتا على سبيل المثال ألفيت منه في الفيتنام والباثيت لاو في لاوس هما أجنحة عسكرية تنفيذية لاستراتيجية وتكتيك مصدرها الحرب القرار الموحد في إطار قيادة العامة للحزب الشيوعي للهند الصينية. وفي المرحلة التالية أي مرحلة الاحتلال الأمريكي المباشر في الستينيات والسبعينيات ستنظم إليه فصائل جبهات التحرير التي ستتشكل في كمبوديا وتلك التي أعادت بنيانها التنظيمي في مواجهة نظام دييم العميل الذي نفذ انقلابا أمريكيا ضد نظام الإمبراطور ( باي داي) الذي كان تابعا لفرنسا قبيل انسحابها. كجبهة تحرير جنوب فيتنام باسم الفيتكجنج. ثم ان كل الأجنحة العسكرية في جنوب فيتنام الجنوبية ولاوس وكمبوديا كانت تنضوي في إطار قيادي واحد بقيادة جياب قائد حرب التحرير الوطنية في عموم بلدات ؤ الصينية الثلاث. وقيادة هوشي منه الأمين العام للحزب الشيوعي.