الأوضاع السياسية في اليمن ونجد والحجاز قبل مجزرة تنومة

مجزرة الحُجاج الكبرى..كتاب للباحث حمود الاهنومي يوثق لجريمة آل سعود بحق حُجاج اليمن.. “الثورة” تنشر الكتاب في حلقات

الحلقة الثالثة/
الاتراك يرحلون عن اليمن وسباق بريطاني- إيطالي- سعودي لكسب الولاء ات وإقامة التحالفات
كيف واجه الإمام يحيى نزعة التوسع السعودية في أراضي عسير ودعمها للإدريسي للاستيلاء على الحديدة
الحلقة الثالثة
قبل الشروع في تفاصيل مــجــزرة الــحــجــاج في تـنـومـة يحسُنُ إيقافُ القارئ على المشهد السياسي العام الذي كان عليه الــيــمــن ونجد والــحــجاز لما لها من علاقة بالحدث المراد بــحــثه.

فأما الــيــمــن :
فقد خضع جنوبُه للاحتلال البريطاني منذ عام 1839هـ وكان الإنجليز قد أنشأوا إماراتٍ وسلطناتٍ في ما كان يسمى بالجنوب العربي، كانت تدين لهم بالولاء والطاعة، مقابل التزاماتٍ مادية ومعنوية يتقاضاها أولئك الأمراء والسلاطين.
وأما في شماله فقد بُويِعَ الإمــام يــحــيـى حميد الدين إماما بعد وفاة والده الإمام المنصور بالـلـه محمد بن يحيى حميد الدين، في شهر ربيع الأول 1322هـ/ 1904م، وكان قد وُلِد في عام 1286هـ/ 1869م، ونشأ في صنعاء، وأخذ العلم عن والده وعلماء عصره .
كان معظم شمال الــيــمــن يرزح تحت الاحتلال العثماني، ولكنَّ ثورات الــيــمــنيين بقيادة الأئمة، وعلى رأسهم الإمام المنصور بالـلـه محمد بن يحيى حميد الدين ثم ابنه الإمام المتوكل على الـلـه يحيى بن محمد – زعزعت كيانَ الاحتلال، وألحقت بالأتراك خسائرَ فادحة اضطرَّتهم لعقدِ صلحِ دعَّان عام 1911م، والذي بموجَبه انتزع الإمــام يــحــيـى اعترافَ الخلافةِ العثمانية بزعامته الروحية والسياسية والثورية لليمنيين.
لكن هزيمة الأتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى (-1914 1918م) هي التي عجَّلت بخروجهم من الــيــمــن، فأُعْلِن استقلالُه، ودخل الإمــام يــحــيـى صنعاء في صفر 1337هـ/ نوفمبر1918م .
في تلك الحرب كان الإمام قد وقف موقفا إسلاميا مشرِّفا، يحكيه القاضي الشماحي أحدُ المعارضين له بقوله: “ولكن الإمــام يــحــيـى كان أعمقَ القادة فكرا، وأشرفَهم موقفا، فوقف موقفَ الحياد، ولم يطعن الأتراكَ لا من الأمام ولا من الخلف التزاما منه باتفاقية دعان، وبأنهم مسلمون، يحاربون مستعمِرًا كافرًا (هم الإنكليز وحلفاؤهم)، ولم يقِفْ به هذا الاعتقاد عند حدِّ المتارَكة للأتراك، بل أمدَّهم بالمال، ولم يعارِضْ مَنْ أحبَّ التطوعَ من الــيــمــنيين للقتال معهم ضد الإنكليز” .
بعد استقرار الإمــام يــحــيـى في صنعاء ذهب لإخضاع وإصلاح القبائل والمناطق الــيــمــنية الأخرى، كلواء تعز، ووصابين وزبيد، وكانت بريطانيا قد احتلت ميناء الحديدة في العام 1337هـ، ثم سلَّمته في 22 جمادى الأول 1339هـ، الموافق 31 يناير1921م لحليفها السيد محمد بن علي الإدريسي حاكم المخلاف السليماني ، ليشتدَّ أوار المواجهة بين جيش الإمام وعساكر هذا المتغلِّب الإدريسي في تهامة، وقد ردَّ الإمام على تسليم بريطانيا للحديدة إلى حليفها الإدريسي باستعادة الضالع والشعيب والأجعود.
كانت تهامة وبعض المرتفعات المُطلة عليها – من جنوب الحديدة جنوبا إلى القنفذة شمالا – تحت حكم السيد محمد بن علي الإدريسي، وقد سلَّمته بريطانيا ميناءَ الحديدة مكافأةً له على خدماته لها في الحرب العالمية الأولى وبعدها، ونكايةً بخصمها اللدود الإمــام يــحــيـى الذي يَرْفَع شعارَ تحريرِ عدن ومحميات الجنوب بين الحين والآخر.
ومع ذلك فقد كانت هناك بعضُ الاضطرابات والتمرُّدات في مناطق حكم الإمــام يــحــيـى؛ إذ أرسل في عام 1337هـ/ 1919م سيفَ الإســـلام أحمد بن قاسم حميد الدين “لإتقان أمور لواء إب”، وأرسل في نفس السنة الأميرَ علي بن عبدالـلـه الوزير لإخماد فتنة في حُبَيش، والمقاطر .
كما يبدو أن بعضا من أعوان الإمــام يــحــيـى ورفقاء دربه في جهاد الأتراك تخلَّوا عنه، أو سجَّلوا امتعاضهم ضد بعض سياساته لا سيما بعد دخوله صنعاء؛ فهذا القاضي عبدالوهاب الشماحي كان قد فارقه مغاضِبا له عام 1331هـ/ 1913م منصرِفا إلى التدريس في ظفير حجة، ومثله فعل سيف الإســـلام أبو نيب محمد بن الهادي شرف الدين، حيث تفرَّغ في الأهنوم للدراسة والتدريس، وكذلك القاضي علي بن عبدالـلـه الإرياني، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات العشائرية والأمراء، بحسب رواية القاضي الشماحي .
(خريطة اليمن والحجاز ونجد)
وفي تلك الفترة حدَثَتْ أيضا عدةُ تمرُّدات ومشاكل داخلية، منها تمرُّد أميرِ حجة السيد يحيى بن ناصر شيبان، وأخيه محسن في حجة عام 1337هـ/ 1919م ، وتمرد شيخ حاشد الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر، ثم فرار ابنه لاحقا إلى ابن سعود، ومنها حركة السيد محمد بن علي الوزير في وادي السر ببني حشيش عام 1341هـ/ 1923م، والشيخ علي مطلق بهمدان صنعاء، وحركة بعض السادة آل النعمي عام 1339هـ ضد عامل الإمام في الشرفين، وكذلك موالاة الشيخ أحمد الزيحي في الشرفين للإدريسي .
لقد كانت الفترة من عام 1918م إلى 1923م أهمَّ وأخطرَ ما مرَّ على الــيــمــن في تاريخها المعاصر، بسبب جسامة الحوادث التي تعرَّضَتْ لها البلاد، فالأخطار المُحْدِقة بالــيــمــن كانت عظيمة، والقوى المتربصة كانت كبيرة، ومعاول الهدم والتجزئة كانت مشحوذة، والباحثون عن الزعامة والمنافع كانوا متربِّصين بالإمــام يــحــيـى الدوائر .
في الجانب الآخر وبعد خروج الأتراك من الــيــمــن مباشرة، بعث كثيرٌ من مشايخ الــيــمــن الأسفل وتهامة الرسائلَ والبعوثَ إلى المندوب السامي البريطاني في عدن، طالبين منه الدعمَ الفوري لمواجهة قوات الإمــام يــحــيـى الزاحفة إلى مناطقهم، وقد علَّق المندوبُ السامي في عدن على سيل الرسائل والبعوثِ المُرْسَلة إليه في هذا الشأن بقوله: “إن الحاصل في تلك المناطق من الــيــمــن أن كلَّ مقدم، وكلَّ عاقلِ حارة، وكلَّ شيخ يريد الاستقلال بنفسه، حيث وصله مندوبون لأكثر من 12 شيخا، وكلُّهم يطلبون الاستقلال والدخول تحت الحماية البريطانية”. “وأوردت الوثائقُ البريطانية أسماءَ الكثير من أولئك المشائخ الذين فضَّلوا الإنجليز على الاندماج في دولة الوحدة” التي كان يسعى إليها الإمــام يــحــيـى .
وأما الــحــجــاز:
فكان يتولى أمرها الشريف حسين بن علي، ابن عون، ولد سنة 1270هـ/ 1854م في الأستانة، وكان أبوه منفيا فيها، وعند اشتعال الحرب العالمية الأولى اتصل به البريطانيون؛ إذ كان ينقِم على الأتراك، فثار عليهم في الــحــجاز، وأمدَّه الإنجليز بالسلاح والمال، ووعدوه بتمليكِه على العرب، لكنهم تملَّصوا عن وعودهم له، وذهبوا – حتى قبل أن تنتهي الحرب – ليقتسموا بلاد العرب مع الفرنسيين فيما بينهم، فيما سمي باتفاقية سايكس بيكو.
في عام 1340هـ/ 1922م بعث الشريف الحسين بن علي ملك الــحــجاز وفدا إلى الإمام، فردَّ عليه الإمام بإيفاد وفدٍ يمني مماثل، مع قصيدةٍ غرّاء تدعو إلى الوفاق بين الأمة العربية ، ثم وفد على الــيــمــن الرحالة العربي أمين الريحاني وصاحبه قسطنطين يني ، وقد حملا معهما رسالة من الشريف حسين بشأن عقدِ اتفاقيةِ تعاونٍ تحت شعار (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الـلـه جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران:103)، وقد أورد الريحاني في كتابه (ملوك العرب) البنود المقترحة في تلك الاتفاقية ، وبينما عاد صاحبه قسطنطين يني بذلك المشروع إلى الــحــجاز، أكمل الريحاني طريق رحلته إلى العراق ثم إلى نجد في تلك السنة.
ورغم حِرص الإمــام يــحــيـى على سرِّية مشروع تلك الاتفاقية عن كل أحد ، لكن لعل أخبارها قد تسرّبت إلى مسامع بريطانيا وحلفائها؛ وعلى رأسهم ابن سعود سلطان نجد آنذاك، الخصم اللدود للشريف حسين ملك الــحــجاز؛ ومما يدل على ذلك ما صرَّح به الريحاني من أن (جروترد بل) كاتبة أسرار المندوب السامي البريطاني في العراق أخبرته – عند لقائها هناك – “بأمورٍ تتعلَّق” برحلته، يضيف الريحاني قولَه: “لم أستغرِبْ علمَها بها؛ لأني أعلم أن وكلاء إنكلترا السياسيين ومندوبيها في البلاد العربية يتبادلون التقارير السِّرِّيَّة من حينٍ إلى حينٍ”.
ومع ذلك فإن الشكَّ يراودُني حول الريحاني نفسه، أنه هو الذي ساهم في تسريب خبرِ تلك الاتفاقية بشكلٍ أو بآخر إلى ابن سعود نفسِه في ذلك العام، وأنه كان يؤدِّي مهمة إنجليزية في إيقاع العرب ببعضهم، وهو الذي كان يحمل الجنسية الأمريكية، والذي كان يحرص على تطويعِ الحكَّام العرب لرغبات الإنجليز، بمبرِّر ضرورة التعامل معهم.
جديرٌ بالذكر أنه بعد ذلك طاب له المقام في حضرة سلطان نجد ابن سعود، وكتب في سيرته كتابه (تاريخ نجد الحديث)، الذي ملأه تبجيلا وتعظيما لابن سعود، وثناء وإشادة به وبحكمه.
ومع ذلك فقد كان الشريف حسين أيضا يحاوِلُ إقناعَ الإمــام يــحــيـى بمصالحة الإنجليز، فقد “كان ولده فيصل يحاول عبر مستشارِ الإمامِ إقناعَ الإمــام يــحــيـى بأهمية التقارب مع بريطانيا لعلاقاتٍ فيها مصلحة الأمتين” .
صرَّح الريحاني بمهمته لمَّا استثْبَته الإمــام يــحــيـى عن بيتِ القصيد في رحلته، والذي حمله على ترحاله إلى الــيــمــن، فقال: “هما بيتان، الأول: أن تتفقوا والإنكليز، والثاني أن تعقدوا معاهدة مع ملك الــحــجاز” ؛ وتؤكِّد ذلك الوثائق البريطانية المعاصرة لهذه الأحداث؛ حيث تتحدَّث أنه إذا تمَّ عقدُ معاهدة بينهم وبين الإمام فإنهم يقترِحون إعطاءَه مبلغا معيَّنا من الإعانات الشهرية، التي كان يتلقاها حلفاء بريطانيا في المنطقة ولا سيما ابن سعود في نجد .
وافق الإمــام يــحــيـى – بحسب الريحاني – على مشروع اتفاقية تحالفٍ مع الشريف حسين، ولم يتحقَّق شيء فيما يتعلَّق ببريطانيا، وهذا بالتأكيد سيزيد من نقمة بريطانيا على دولة الإمــام يــحــيـى.
أما علاقة الــيــمــن بنجد فلم تكن هناك أيةُ علاقةٍ تربط الإمــام يــحــيـى حميد الدين بعبدالعزيز ابن سعود، حيث لم يكن قد حصل أيُّ تماسٍّ بين حدودِ بَلَدَيهما حتى ذلك الوقت.
وفي المخلاف السليماني في جيزان وما جاورها كان السيد محمد بن علي بن أحمد الإدريسي قد أعلن دعوته للإمامة في مدينة صبيا عام 1906م، معتمدا على النفوذ الروحي والثروة المعنوية التي حققها جده السيد أحمد الإدريسي بعلمه وجهوده في الوعظ والإرشاد لأهل المنطقة، وقد عقد السيد محمد الإدريسي مع إيطاليا معاهدة تحالف عام 1912م، ثم وقَّع معاهدة تحالف أخرى مع الإنجليز عام 1915م.
كان الإدريسي أول حكام الجزيرة العربية اصطفافا مع بريطانيا في مواجهة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، واستخدمه الإنجليز دميةً طيِّعة لمواجهة خصومهم، ولم يكُن يُحَرِّك ساكنا إلا بأوامرهم، مقابل حصوله على مساعدةٍ شهريةٍ مقدَّرة بـ1000جنيه ، وكانت علاقته بالإمــام يــحــيـى متَّسمة بالتفاهم في بداية الأمر، لكنه بعد تحالفه مع إيطاليا ثم مع بريطانيا اتَّسمت بالتجاذُب والاختلاف حتى وفاته في مارس 1923م .
عقب ذلك حدَثَتْ منازعاتٌ شخصيةٌ بين ابنِ السيد الإدريسي وأخيه، استغلها الإمــام يــحــيـى في تحرير الحديدة والصليف واللحية وميدي عام 1925م، ولما رأت بريطانيا تقدُّم جيوش الإمــام يــحــيـى في شمال تهامة وتحفُّزَه للانقضاض على ما بقي في يد الإدريسي من أراض يمنية، رأت أن أفضل الحلول لمنع حدوث هذا هو كفُّ يدها عن مساعدة الإدريسي الضعيف، فلا يبقى أمامه سوى اللجوء إلى الحماية السعودية؛ لتقف نجد بدعم بريطانيا في مواجهة الــيــمــن.
وبالفعل كان هذا ما حدث، حيث أُعْلِنَتْ اتفاقية مــكــة عام 1926م بين الإدريسي وابن سعود، بموجبها دخل المخلافُ السليماني تحت السيادة السعودية، مقابل احتفاظ الإدريسي بشؤونه الداخلية ، لكن السعوديين انقلبوا لاحقا على عملائهم الأدارسة، وقَضَوا على إمارتهم المتطفِّلة نهائيا، وضموها إلى سيادتهم.
وأما عــســير:
والتي من ضمن أراضيها أبها وخميس مشيط وتـنـومـة والنماص فقد كان يحكمها حسن بن عائض، والذي ولي الأمر مستقلا بعد خروج الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918م، لكن بسبب نزعة التوسع السعودية في أراضي عسير استطاع جيش ابن سعود إخضاعَها لسيطرته؛ ولم يقف ابن عائض مكتوف اليد فاستنجد بالشريف حسين ملك الــحــجاز، فاستعاد (أبها).
أرسل ابن سعود جيشا من الإخوان (الغطغط) بقيادة ولده فيصل عام 1340هـ /1922م، فظفر فيصل بعد معارك حامية، ودخل (أبها) في صفر عام1341م، فأقام فيها حامية، وعاد إلى الرياض بعد نحو ستة أشهر، وانتهز حسن بن عائض فرصة عودة فيصل وخلوِّ الجو له، فجمع قوته وأعاد الكرة على الحامية السعودية في أبها وأميرها عبد العزيز بن إبراهيم، لكنه أخيرا ظفر به واقتاده أسيرا إلى الرياض .
بقيَت بعض قبائل بني شهر من عسير تأنف الخضوع لابن سعود، وتدين بالولاء لشريف الــحــجاز، فظلَّت حالة الاشتباك بينهم وقوات ابن سعود من الإخوان بقيادة عبد العزيز بن إبراهيم حتى مرور قافلة الــحــجيج اليمانية.
… بقية الفصل الأول في الحلقة القادمة إن شاء الله

قد يعجبك ايضا