26 سبتمبر أم الثــــورات اليـمنيـــة

> الموقف العدائي للنظام السعودي من أي تحول استراتيجي يمني يكرر نفسه في ثورة 21 سبتمبر والعدوان المستمر

> النظام السعودي كان وما زال أحد أكبر ممولي الثورات المضادة لثورة الـ26 من سبتمبر

> خصلات من شعر سيدات القصر دفعت القبائل للوقوف ضد ثورة الدستور

إعداد/ جمال أحمد الظاهري

تأتي الذكرى الـ(55) لثورة 26 من سبتمبر واليمن لا يزال يصارع من أجل استكمال تلك تحقيق الأهداف الستة التي أعلن عنها في صبيحة يوم 26 من سبتمبر عام 1962م من إذاعة صنعاء, ويتعرض لهجمة شرسة تستهدف وجوده كجغرافيا وتاريخ ومعتقد ومستقبل..
ومخطئٌ جداً من يعتقد أن ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر قامتا فقط للقضاء على نظام حكم الامامة , وطرد الاستعمار البريطاني فقط.
فقد أثبتت الأحداث السياسية والحروب التي تلت قيامهما, وحتى يومنا هذا أنهما قامتا من أجل التحرر من التبعية والوصاية والارتهان للخارج الذي سلب اليمن حريته في اختيار حاضره ومستقبله, وفي مقدمة هؤلاء أدوات المستعمر المتمثلة في الكيانات العربية التي أوجدها لخدمة مصالحه وأهمها الكيان “السعودي” الذي أثبتت الأحداث أنه الراعي الرسمي والحصري لدول الاستكبار والاستعمار ومصدر كل ويلات وانتكاسات الأمة العربية والإسلامية.
وحين نقول إن اليمن وربما المنطقة العربية برمتها لا تزال في ثورة مستمرة كانت بداياتها ما أفرزته الحرب العالمية الثانية من تقسيم للجغرافيا الطبيعية والسياسية اتفاقية (سايكس بيكو) الذي صاحبه إعلان دولة المحتل الصهيوني, ووجود دولة آل سعود والإمارات الخليجية الأخرى, ككيانات مهمتها الرئيسية رعاية وحماية المصالح الاستعمارية التي لن تتأتى إلا بإخضاع الشعوب ومحاربة أي توجه ثوري لها يهدد أو يكشف الدور الاستعماري في تخلفها وتبديد ثرواتها.
لذلك نقول إن أي حركة أو انتفاضة أو عمل يأتي في إطار توجه الثورة اليمنية الأم 26 سبتمبر وأهدافها الستة الرئيسية التي حالت الأقدار دون استكمال تنفيذها يعد عملاً ثورياً شعبياً ووطنياً بامتياز, وخاصة حين توجه هذه الحركات أو الثورات من نفس الخصوم الذين واجهوا ثورة 26 من سبتمبر 1962م, وفي هذا السياق نعيش مخاض المولود الطبيعي الـ21 من سبتمبر 2014م التي حملت على عاتقها استكمال بقية الأهداف الستة وفي المقدمة استرداد سمعة ومكانة ودور اليمن في صنع الحدث على المستوى الإقليمي والدولي, وبما يتناسب مع تاريخ وحضارة وموقع اليمن (الجيوسياسي) الذي يعتبر الأهم والأخطر على المستوى العالمي.

لسنا هنا بصدد التوثيق أو السردية التاريخية للثورة, ولكن من المفيد التذكير بملامح الحالة التي كان يعيشها الشعب اليمني, والتفاعلات والأحداث المحيطة باليمن ودور الجوار العربي والمحيط الإقليمي الذي لم يغب يوماً عن الساحة اليمنية, ولكي نذكر القارئ وأنفسنا بأهمية وقيمة الثورة الأم (26 من سبتمبر) رأينا أنه لا بد من استعراض بعض المحطات والإرهاصات التي سبقت قيام هذه الثورة وقد اخترنا أن تكون البداية من أحداث العام 1948م مع نبذة بسيطة ومرور سريع على بداية المرحلة التي كتبت نهايتها ثورة 26 من سبتمبر 1962م.
من النضال إلى الاستبداد
قامت المملكة المتوكلية اليمنية عام 1918م بقيادة الإمام يحيى حميد الدين, كنتيجة لما انتهت عليه الحرب العالمية الأولى, ونضال اليمنيين ضد التواجد العثماني فورثتهم بعد حروب وتضحيات كبيرة قدمها أبناء اليمن تحت قيادة الأمام يحيى حميد الدين الذي برع في الاستفادة من الجغرافيا اليمنية الصعبة, وأجاد في استخدام العاطفة الدينية في تأليب المشاعر العدائية تجاه الأتراك الذين خرجوا منها بهزيمة كبيرة وخسائر فادحة.
النجاح والانتصارات التي حققها الإمام يحيى والفترة الطويلة للنضال ضد الأتراك ومن ثم الحرب التي خاضها مع المملكة العربية السعودية والتي انتهت بتوقيع اتفاقية الطائف التي خرج منها بهزيمة وخسارة جزء كبير من الأرض التاريخية لليمن (عسير وجيزان ونجران) والتواجد البريطاني في الجنوب والعلاقة المتطورة لهذا المستعمر مع الجار السعودي جعلته يتجه إلى انتهاج سياسة منغلقة وانعزالية جعلت من اليمن سجناً كبيراً لا يعرف من بداخله عما يحدث في العالم من حولهم شيئاً.
ثلة بسيطة من أسرة البيت الحاكم أو المقربين منها وأعداد أقل من العامة ممن منحتهم الأقدار فرصة الخروج من اليمن والاطلاع على ما حققته البلدان الأخرى من نهضة وتطور وعمران عكس نفسه على حياة الشعوب فكانوا الطلائع ونواة الحركات والمطالب الحقوقية والتصحيحية والتنويرية التي أسست للكثير من الانتفاضات وصولاً إلى ثورة الـ26 سبتمبر 1962م.
ثورة الدستور (1948م):
كان من الطبيعي وكنتيجة للحكم الظالم والإدارة الفاسدة والمتخلفة, وأيضا لاحتكاك البعض مع تيارات فكرية معينة بالخارج مثل محمد محمود الزبيري, ولما أبداه الإمام يحيى من نوايا بشأن توريث الحكم لإبنه أحمد أن تظهر حركات معارضة لسياسات الإمام وكان العام 1948م التاريخ الأهم والمفصلي الذي أسس لبدايات النهج الثوري المسلح, الذي سمي بـ(الحركة الدستورية), التي كان أول عمل تقوم به قتل الإمام يحيى, ومبايعة عبدالله الوزير إماماً جديداً لليمن.
وكان الذين خططوا لثورة الدستور يدركون أنهم إن أقدموا على الإطاحة بالإمام يحيى فإن أبناءه وبالأخص أحمد الذي كان أميراً لتعز لن يستسلم وسيقود ثورة مضادة لذا فقد أعدت الخطة على أن يتم القضاء على الإمام وولي عهده أحمد في نفس الوقت.
نجح فصيل التنفيذ في صنعاء وقتل الإمام يحيى وفشل الفصيل الموكل إليه تنفيذ الاغتيال للأمير أحمد وتمكن من الوصول إلى الحديدة التي استطاع منها أن يتواصل مع شيوخ واعيان المناطق التهامية وقبائل حجة وكون جيشاً كبيراً سماه (أنصار الله).
قاد هذا الجيش بنفسه صوب صنعاء التي كان عبدالله الوزير قد أخذ فيها البيعة لنفسه إماماً واستعد لمواجهة جيش الإمام أحمد الذي كان قد حصل على دعم ومساندة الملك سعود الذي اقتنع بما جاء في رسالة الإمام أحمد إليه التي طلب فيها منه تأييده وعدم اعترافه بإبن الوزير ومده بالسلاح والمال كي يسترجع ملك أبيه (الشرعي) تنفيذاً للاتفاقية الموقعة بينهما والتي أنهت الحرب وسميت باتفاقية (الطائف) التي من بنودها مساندة بعضهما في حال حصول أي تمرد على أي منهما, الأمر الذي مكنه من شراء الولاءات واستقطاب الكثير من أبناء القبائل للقتال إلى جانبه.
موقف الدول العربية من الثورة
كانت معظم دول الجامعة العربية السبعة نظماً ملكية وهي مصر والسعودية والعراق واليمن والأردن، بينما كانت كل من سوريا ولبنان ذات نظام جمهوري، ولذلك كانت سوريا ولبنان أكثر ميلاً وتعاطفاً مع الثورة على عكس باقي دول الجامعة العربية التي اتخذت موقفا عدائيا من الثورة.
وكان الموقف الأردني هو الأكثر وضوحاً في عدائه للثورة, والأسرع في الاعتراف بأحمد ملكاً لليمن، ومثله كان الموقف السعودي، وساهمت على نحو إيجابي في مساعدة أحمد سواء بالمساعدة المادية العسكرية، أو عن طريق التأثير في وفد الجامعة العربية، وعرقلة وصوله لليمن، وإن كانت قد اتخذت في الظاهر الموقف الذي اتفقت عليه دول الجامعة العربية، وهو الوقوف على الحياد، حتى يعود وفد الجامعة العربية لليمن بتقريره عن الوضع في اليمن.
وعن دور المملكة السعودية وبقلم الكاتب الصحفي المصري الشهير محمد حسنين هيكل –وبالرغم من الحديث عن المساعدات التي قدمتها السعودية لأحمد من ذخيرة وسلاح ومال فإنه يمكن القول إن المساعدة الفعالة والأهم من جانب السعودية تركزت في عاملين اثنين:-
الأول :- عرقلة عمل وفد الجامعة العربية عن طريق استدعاء الوفد إلى الرياض، وتأخير وصوله إلي اليمن حتى ينتهي أحمد من القضاء على الثورة.
الثاني :- استغلال نفوذ الملك عبدالعزيز على شوافع اليمن، لتجنب انضمامهم إلى جانب الثورة، بالإضافة إلى اكتساب دعمهم لأحمد.
أهمية ثورة الدستور:
ثورة الدستور (1948م) وإن لم يكتب لها النجاح إلا أنها مثلت الأساس لباقي الثورات والشرارة لحركات متمردة عديدة, بدأت بالمطالبات بتحسين الأوضاع وببعض الحقوق الإنسانية وبإدخال بعض التحسينات وإشراك الشعب في اتخاذ القرار مع بقاء النظام الإمامي, ولكن ما عقب فشلها من حملات القتل والدمار والتصفيات والنهب والسلب والتشريد وملاحقة الدستوريين, خلق مزاجاً مختلفاً وأهدافاً أبعد من مجرد الإصلاح والتقويم:
وعن ذلك وحسب توصيف ترجمان اليمن ومستبصر مستقبله الأديب والشاعر الكبير عبدالله البردوني لثورة (48): بمثابة تدريب للانفجاريات الوطنية, فمع مطلع الخمسينيات انتقل التمرد من الجبال إلى ثكنات الجيش فتوالت الأخبار عن تمرد (بلك القناصة) في إب و (بلك داحش) في ريمة وكانت هذه الجمرات الصغيرة أول الحريق الكبير الذي تنامت عوامل اتقاده حتى أوصلت إلى حركة الجيش بتعز عام 1955م انتهى الاقتباس.
ومثلما كانت ثورة الدستور البداية والحجر التي حركت الماء الآسن كانت حركة 1955م بداية لحراك عسكري من داخل مؤسسة تتبع النظام نفسه وهذا الأمر مثل تطوراً نوعياً في مسيرة النضال الثوري.
(الباهوت) والقبضة الحديدية:
ومع ظهور طموح الأمير عبدالله أخو الإمام احمد لتولي عرش اليمن التف حوله بعض الضباط ورتبوا له لقاءً مع عدد من رجال الجيش منهم المقدم أحمد الثلايا وغيره من الضباط والمدنيين المنضويين في الحركة الوطنية.
استغل الأمير والضباط حادث اصطدام الجيش بقبائل في منطقة الحوبان القريبة من تعز فاقنعوا الجيش بضرورة الإطاحة بالإمام احمد أو إجباره على التنازل لأخيه عبدالله وفعلاً تنازل خطياً, بتاريخ 31 مارس عام 1955م، حيث قام المقدم أحمد يحيى الثلايا, بقيادة فرقة من الجنود لمحاصرة الإمام في قصره في مدينة تعز, وطالبوا الإمام بتسليم نفسه وكان لهم ذلك.
اختلف قادة الانقلاب فيما بينهم حول مصير الإمام, فبعضهم اقترح قتله, والبعض الآخر اقترح أن يستبدل به أخاه الأمير سيف الإسلام عبدالله, وفي أثناء ذلك قام الإمام بفتح خزائن قصره واشترى جنود الثلايا, كما قامت سيدات الأسرة المالكة بقص شعورهن ووضعوها في أظرف وأرسلوها إلى القبائل وكتبوا لهم “يا غارة الله بنات النبي”. فهجمت القبائل على تعز وفشل الانقلاب, واستعاد الإمام أحمد السيطرة وقتل قادتها ومنفذيها ومن ضمنهم أخواه عبدالله والعباس.
وفي صيف عام 1959م، سافر الإمام أحمد إلى روما للعلاج وحينها اعتقد البدر أن الفرصة مواتية للبدء بتنفيذ مشروعه الإصلاحي فأنشأ مجلساً نيابياً برئاسة القاضي أحمد السياغي, وألقى خطاباً في احتفال للجيش, أثار هذا الخطاب حفيظة أفراد الأسرة الحاكمة فثاروا ضده ما دفعه للاستعانة بالقبائل لإخماد ثورتهم.
وفور عودة الإمام احمد إلى اليمن من رحلة علاجية إلى روما, ألقى خطاباً مليئاً بالوعيد والتهديد لخصومه ومنافسيه من المشايخ والأعيان, وقام بإلغاء كل ما قام به البدر من إصلاحات من روما, الأمر الذي استفز مجموعة من العسكريين الشباب الذين قرروا أن يضعوا حداً ونهاية لأسطورة الرجل المدرع الذي لا يستطيع أن يقف أمامه أو يقضي عليه أحد.
ثلاثة من الضباط وهم/ الملازم عبدالله العلفي, والشهيد الملازم عبدالله اللقيه, والشهيد محسن الهندوانة, وجهوا إليه وابلاً من الرصاص فوقع أرضا بتسع طلقات, ولكن الأقدار شاءت أن يعيش قعيداً طريح الفراش لمدة ثمانية عشر شهرا وثلاثة عشر يوما حتى وافته المنية في التاسع عشر من شهر سبتمبر 1962م.
وبعد وفاته خلفه ابنه الإمام البدر في الحكم وكان قرار تعيين عبدالله السلال قائداً للحرس الملكي من أول القرارات التي اتخذها الإمام.
الانتقال من المطالبة بالإصلاح
إلى تغيير النظام
بعد فشل جميع الحركات السابقة تطور الأمر إلى الانتقال من محاولات التخلص من إمام واستبداله بإمام آخر إلى حراك ثوري يسعى إلى الإطاحة بالنظام الإمامي الرجعي واستبداله بنظام جمهوري, فتأسس تنظيم الضباط الأحرار في ديسمبر 1961م كتنظيم ثوري سري عمل على توحيد وجهات النظر الثورية وبلورتها في قالب تنظيمي سري وهيكلة التنظيم وترتيبه القيادي, وتسمية ممثليه في مجلس قيادة الثورة الذي اختير فيه شخصان هما: الرئيس/ عبداللطيف ضيف الله و الملازم/ علي عبدالمغني, أحد أبرز قيادات الضباط الأحرار.
ليلة الـ26 من سبتمبر
توفي الإمام أحمد في 19 سبتمبر عام 1962م على أيدي الثوار، وخلفه ابنه الإمام البدر, وفي هذه الأثناء، تناقش ضباط الجيش إذا كان هذا هو الوقت المناسب للقيام بالانقلاب أو الانتظار حتى عودة الأمير الحسن من الخارج للقبض عليهما معاً في وقت واحد.
حانت ساعة الصفر واكتمل توزيع الأدوار وحددت الأهداف الهامة التي يجب السيطرة عليها في الساعات الأولى للمواجهة, وأعلن العقيد عبدالله السلال قرار التحرك وأمر بإعلان حالة التأهب القصوى في الكلية الحربية بصنعاء وفتح جميع مستودعات الأسلحة ووزعها على الضباط الصغار والجنود.
اختيرت الكلية الحربية لتكون مقر القيادة والسيطرة على القوات التي تقوم بالثورة, وقد استخدم في التنفيذ 13 دبابة من اللواء بدر، 6 عربات مصفحة، مدفعين متحركين، ومدفعين مضادين للطائرات,.
وفي مساء 25 سبتمبر، جمع عبدالله السلال القادة المعروفين في الحركة القومية اليمنية والضباط الذين تعاطفوا معها أو شاركوا في محاولة انقلاب الثلايا عام 1955م, وصدرت الأوامر للضابط والخلايا وبدء التحرك, وكانت الإشارة عند سماع القصف على قصر الإمام البدر.
تم تحديد الأماكن الهامة التي يجب السيطرة عليها وتأمينها – قصر البشائر (قصر الإمام) قصر الوصول (قصر استقبال الشخصيات الهامة) الإذاعة, الاتصالات التيلفونية, قصر السلاح (مخزن السلاح الرئيسي) ومقرات الأمن الداخلي والمخابرات.
توجهت وحدة من الضباط الثوريين مصحوبة بالدبابات إلى قصر البشائر. وقاموا باستخدام مكبرات الصوت لدعوة الحرس الملكي للتضامن القبلي وتسليم الإمام بدر الذي تقرر إرساله للمنفى بسلام, ولكن الحرس الملكي رفض الاستسلام وفتح النار على وحدة الضباط، مما دفع الثوار إلى الرد بقذائف المدافع والدبابات.. حيث كانوا قد قرروا استخدام الدبابات والمدفعية منذ البداية واستمرت معركة القصر حتى استسلم الحرس الملكي في صباح اليوم التالي.
سقطت الإذاعة بسرعة بعد مقتل ضابط ملكي واحد, وانهيار المقاومين, أما مخزن السلاح فكان أسهلها، فكان يكفي أمر مكتوب من العقيد السلال لفتح المنشأة ثم تنحية الملكيين منها وتأمين البنادق، المدفعية والذخيرة.
استسلمت الاتصالات التليفونية بدون مقاومة, ولم يحدث أي اشتباك بالنسبة لقصر، فقد ظلت الوحدات الثورية هناك آمنة بحكم تواجد وتأمين الدبلوماسيين والشخصيات الهامة التي جاءت لتبارك لولي العهد الجديد.
نجحت الثورة ولكن الإمام البدر استطاع الهروب ليقود ثورة مضادة, حشدت لها إمكانيات هائلة وحصلت على دعم عسكري ومالي وسياسي سخي من قبل النظام السعودي, الذي لم يرقه ما حدث في اليمن من تغيير وما نتج عنه من وضع ونظام جديد يتناقض مع طبيعة بقية الأنظمة في الجزيرة العربية والخليج.
الوضع في صباح يوم الثورة
في صباح 26 سبتمبر، تم تأمين كل المناطق في صنعاء وأعلنت الإذاعة أنه قد تمت الإطاحة بالإمام البدر ونظامه وحلت محله حكومة ثورية جديدة بنظام جمهوري, وبمجرد سماع الإعلان باشرت الوحدات الثورية في مدن تعز، حجة، وميناء الحديدة تأمين مراسي السفن، المطارات ومنشآت الميناء.
يقول المناضل/ عبدالسلام صبرة في شهادته عن ثورة 26 من سبتمبر المدونة في كتاب (أسرار ووثائق الثورة اليمنية) الطبعة الرابعة الصادرة عن مؤسسة العفيف الثقافية):
أن اليمن قدمت على طريق الثورة أشجع رجالها وخيرة أبنائها, وقد بدأت مع الهمسات الأولى للمناضل المحلوي ورفاقه بعد تربع الطاغية يحيى حميد الدين على عرش اليمن, وواصلت نموها مع أصوات المطاع ورفاقه ومع صرخات الزبيري والنعمان ونشاط مطيع دماج وآخرين, أمثال زيد الموشكي والخادم الوجيه ووعي وتضحيات آل أبو رأس وبيت الشايف إلى جانب مواقف وبطولات آل القردعي والحميقاني.
وكانت هذه الثورة – والحديث لصبرة- الوليد الشرعي والمكتمل النمو لثورة 1948م ولحركة 1955م وما تخللهما وتبعهما من أحداث وتمردات أبرزها انتفاضة حاشد وبمشاركة مشائخ بكيل الأحرار ثم الفدائية الجسورة للشهيدين اللقية والعلفي والشهيد الهندوانة في مستشفى الحديدة.
وعن أهداف الثورة وما تحقق منها يقول صبرة: ولن نتردد عن القول في أن الثورة بعد أن تمت بنجاح قد تعرضت لعوامل المد والجزر, وأنها – لأسباب خارجية عن طبيعتها- لم تحقق أهدافها كاملة, ذلك لأنها قد تعرضت منذ الأسابيع الأولى لأشرس وأعنف ما تعرضت له ثورة في العالم أجمع.
السيطرة على الجغرافيا
شهدت بدايات الثورة عدداً من محطات الصراع بين قادة الثورة الأمر الذي عزز الأمل لدى الإمام البدر ومن التف حوله من أبناء القبائل والأنظمة الرجعية في المنطقة وفي مقدمتها السعودية في إمكانية القضاء عليها بثورة مضادة, فشنوا حملة كبيرة, كادت تنجح في وأد الثورة لولا الدعم العسكري المصري السريع .
ففي 30 سبتمبر، وصل العميد المصري علي عبدالخبير لتقييم الموقف وتقدير احتياجات مجلس قيادة الثورة اليمني, وعلى الفور تقرر إرسال كتيبة صاعقة للمساندة وحراسة الرئيس السلال، ووصلت إلى مدينة الحديدة في 5 أكتوبر.
تسارعت الأحداث وقامت السعودية بإرسال قوات إلى الحدود اليمنية, وأرسل ملك الأردن رئيس أركان جيشه إلى الأمير حسن لإجراء مباحثات.
ازداد التوتر حين انكشف للقيادة المصرية ضخامة وقوة التدخل السعودي, ففي الأيام الممتدة بين 2 و8 أكتوبر، غادرت أربع طائرات شحن سعودية محملة بالسلاح لإرساله إلى القبائل اليمنية الموالية للإمام, ولكن الطيارين اتجهوا إلى مدينة أسوان المصرية, كما أعلن سفراء ألمانيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، والأردن، دعمهم لنظام الإمام بينما أعلنت مصر، إيطاليا، وتشيكوسلوفاكيا، دعمها للثورة الجمهورية.
وفي عام 1963م قام الإمام البدر بتشكيل جيشين – واحد تحت قيادة الأمير حسن في الشرق والثاني تحت قيادته في الغرب, وسيطر الجيشان على معظم شمال وشرق اليمن، بما فيه من مدينتي حريب ومارب باستثناء صعدة – التي كانت تحت سيطرة الجمهوريين.
وكانت هناك مناطق مثل مدينة حجة، حيث كان الملكيون يسيطرون على الجبال بينما سيطر المصريون والجمهوريون على المدينة وقلعتها.
عن تلك الأيام يقول اللواء محمود عادل أحمد في كتابه الذي نُشر عام 1992م تحت عنوان “ذكريات حرب اليمن 1962 – 1967م”, ما مفاده أنه في 29 سبتمبر1962م تم مناقشة القرار في مجلس قيادة الثورة, وخلصوا إلى أنه من الضروري إرسال قوات مصرية, لردع الملكية التي تحاول إجهاض الثورة اليمنية وفعلاً تم إرسال قوات مصرية بسيطة لمساندة الثورة, ونتيجة للأحداث ولكثرة اللاعبين وضخامة المساعدات التي يتلقاها الإماميون, وجد ناصر نفسه مضطراً لزيادة هذه القوات لتصل في عام 1965 ما يقدر بـ 55,000 جندي مصري، تم تقسيمهم إلى 13 لواء مشاة ملحقين بفرقة مدفعية، فرقة دبابات والعديد من قوات الصاعقة وألوية المظلات..
الانسحاب المصري من اليمن
بحلول عام 1967م، تركزت القوات المصرية في مثلث الحديدة، تعز، وصنعاء للدفاع عنه, بينما قامت القوات الجوية بقصف مواقع في جنوب السعودية وشمال اليمن, وفي أغسطس، قام عبدالناصر باستدعاء 15,000 جندي لتعويض الجنود الذين فُقدوا في حرب ذلك العام مع إسرائيل.
وفي مؤتمر القمة العربية بالخرطوم الذي عُقد بعد الحرب، أعلنت مصر بأنها مستعدة لسحب قواتها من اليمن, واقترح وزير الخارجية المصري محمود رياض إعادة إحياء اتفاق جدة لعام 1965م وقبل الملك فيصل الاقتراح، ووعد البدر بإرسال قواته للقتال مع مصر ضد إسرائيل.
وقع عبدالناصر والملك فيصل الاتفاقية التي نصت على سحب القوات المصرية من اليمن ووقف المساعدات السعودية للملكيين وإرسال مراقبين من ثلاث دول عربية محايدة هي العراق، السودان، والمغرب.
حصار السبعين يوماً
مثّل انسحاب القوات المصرية من اليمن بعد حرب سنة 1967م خسارة كبيرة ونقطة ضعف في دفاعات وتماسك الجمهوريين, وفي ذات الوقت ازدادت قوات الملكيين من حيث العدد وتمدد نفوذهم, في ظل دعم سعودي إماراتي كشفته الوثائق التي تطرقت لدور أمير بيحان ومنطقته في تهريب السلاح والمرتزقة إلى الجانب الملكي.
استغل الملكيون الخلاف الذي نشب بين رموز وقادة الثورة – عبدالله السلال وبين القادة الجمهوريين الآخرين مثل عبدالرحمن الإرياني، حسن العمري، وأحمد محمد نعمان, وانسحاب القوات المصرية ونفذوا حملة كبيرة في نوفمبر 1967م نتج عنها انحسار سيطرة الجمهوريين وفرض حصار شامل على العاصمة صنعاء دام (70) يوماً.
وكادت الثورة المضادة يومها تنجح في القضاء على الثورة والنظام الجمهوري, ولكن الثوار المحاصرين في صنعاء تماسكوا ورفضوا الاستسلام ورفعوا شعار (الثورة أو الموت) وعينوا الفريق حسن العمري قائد الجيش رئيساً للحكومة وقد كان قرارهم موفقاً, حيث أبدى مع بقية رفاقه بطولة وجسارة نادرة, هذا القرار وما أبداه الضباط والجيش من فدائية جعل الناس يلتفون حولهم من كافة الفئات والشرائح, وخاضوا العديد من المعارك داخل المدينة وعلى أطرافها حتى أنكسر الحصار.
هذا الصمود والاستبسال جعل النظام المصري ورغم هزيمته في 67 يقرر معاودة مد الثوار بالسلاح والذخيرة والطعام عبر جسر جوي زودوا من خلاله الصامدين بالطعام والوقود والأسلحة الخفيفة والمتوسطة والذخيرة,
الاتحاد السوفيتي كان حاضراً ومعبراً عن مجمل المنظومة الاشتراكية فقد مد المحاصرين بالعتاد الحربي والغذاء والوقود والخبراء والطائرات المقاتلة والقاذفات, الصين فعلت نفس الشيء وشارك طيارون سوريون في قيادة الطائرات اليمنية ونفذوا الكثير من الهجمات على معسكرات الملكيين المحاصرين للعاصمة صنعاء حتى انكسر الحصار.
شكل آخر من الصراع القطبي
دعم الثورة المضادة لم يتوقف على ما قدمته السعودية من دعم غير محدود للإمام البدر, ولم يكن هدف كل داعميها مساندة الإمام, رغم أن مجمل الأنظمة الملكية وقفت إلى جانب الملكيين ومدتهم بكل ما يحتاجونه ومن هذه الدول الأردن التي أرسلت الخبراء والذخائر والسلاح وإيران والإمارات وألمانيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، وبلجيكا, وكندا وبريطانيا التي كانت تحتل الجزء الجنوبي من اليمن.
كان الدور والدعم البريطاني حاضراً وبقوة, وقد تعاطت بريطانيا مع الثورة على أنها خطر يتهدد وجودها في عدن, إلى جانب أن هذه الثورة تخوض حرباً مع صنيعتها (السعودية) ولم يطل الأمر فتدخلت بشكل مباشر وقصفت بطائراتها مدينة البيضاء بتاريخ 15 أكتوبر.
المؤرخ والكاتب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل كتب عن نماذج للتدخل وسمى الذين شاركوا في الحرب في ذلك قال في كتابه (لمصر لا لعبدالناصر): إن إسرائيل قامت بإعطاء شحنات من الأسلحة كما أقامت اتصالات مع المئات من المرتزقة الأوروبيين الذين يقاتلون بجانب الملكيين في اليمن, وقامت إسرائيل بإنشاء جسر جوي سري بين جيبوتي وشمال اليمن, وبعد ثلاثة عقود من الحرب، أكد الإسرائيليون كلام هيكل.
دول عديدة كان لها نفس الموقف العدائي للثورة منها – باكستان وفرنسا التي رأت في الأمر فرصة للانتقام من النظام المصري الذي يساند الثورة في الجزائر وبحكم طموحها وتواجدها في جنوب البحر الأحمر وفي محاذاة مضيق باب المندب, فجندت المرتزقة وأرسلتهم إلى اليمن كذلك فعلت إسرائيل التي كانت في حالة حرب مع مصر عبدالناصر ورأت في الأمر فرصة للنيل من القوات المصرية المنتشرة في اليمن فمدت الملكيين بالسلاح والخبراء وقامت بعمل جسر جوي كان يسقط السلاح والذخائر والمساعدات على معسكرات الملكيين.

قد يعجبك ايضا