محطات في تجربة حركة التحرر الفيتنامية “5”

 

 

عبدالجبار الحاج

في الفترة بين 1947 ـ 1950 و أمام القوات الفرنسية الضخمة، حديثة السلاح والعتاد، المتمتعة بتأييد ودعم قوى من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب كان خيار الفيت منه. هو تراجعها عن المدن الرئيسية والمواقع الإستراتيجية، والطرق المهمة؛ وفرارها إلى الجبال الشمالية والمناطق الحدودية مع الصين، حيث كثفت غاراتها على الجنوب .
وزاد الأمر صعوبة تأخُّر الاعتراف والدعم السوفيتيَّين الموعودَين؛ وتنكُّر الحزب الشيوعي الفرنسي لها، وإعلان زعيمه موريس ثوريه ، أنه لا يمكنه فعل شيء، يحوّل موقف فرنسا في الهند الصينية؛ ونقْض الأمريكيين عهودهم بمناصرة الشعوب المغلوبة على أمرها.ولم يثن هذا الخذلان في نفوس قادة فيتنام الشمالية، وعلى رأسهم هوشي منه. في الوقت نفسه، عرض الإمبراطور باو داي آخر أباطرة. فيتنام وابن آخر ملوكها. المحسوب والمرتبط بقوى الاستعمار .في يونيه، من مقر إقامته في هونج كونج، التفاوض مع فرنسا لتحقيق وحدة فيتنام واستقلالها.
بدأت فرنسا، في سبتمبر 1947، إعداد حملة عسكرية شرسة، بقيادة الجنرال إتين فالوي ، رئيس الأركان؛ سُمِّيت “الهجوم الشتوي”. وضمت ستين ألف جندي، في ست كتائب مشاة، وثلاث كتائب مدرعة، وكتيبتَين محمولتين جواً، وأربع كتائب مدفعية، وكتيبة مهندسين، وثلاثمائة دبابة، منها دبابات برمائية، والمجموعة الرابعة مقاتلات المكونة من أربعين طائرة، وعشرات القطع النهرية، وكميات ضخمة من الأسلحة والمعدات: الأمريكية والبريطانية.
وتكهن المراقبون الأمريكيون، في الهند الصينية، بفشل الهجوم الفرنسي الوشيك. وقدروا أنه سيخفق في استعادة الاستقرار، وقد يُزْرِي بالهيبة الأمريكية في آسيا؛ فطالبوا حكومتهم بالتدخل الفوري، لمنعه. وسرعان ما أبلغ السفير الأمريكي في باريس، جيفرسون كافري ، إلى وزارة الخارجية الفرنسية قلق وزير الخارجية الأمريكي، جورج مارشال، وتحذيره من أن هذا الهجوم، سيكون له تأثير سلبي في الرأي العام الأمريكي، وفي الكونجرس، الذي سيعيد النظر في مسألة الدعم المالي لأوروبا، وخاصة فرنسا. إلا أن السلطات الفرنسية، أكدت له أن ما سيحدث، ليس هجوماً ضخماً؛ وإنما هجمات محدودة؛ للسيطرة على محطات البث الإذاعي، ومخابئ الأسلحة التابعة لقوات الفيت منه؛ والقضاء على ثغرات الحدود، التي تُهرَّب خلالها الأسلحة الصينية. كما أكدت أن الخسائر المتوقعة، لن تزيد على خمسين قتيلاً. ولم تكن هذه هي الحقيقة، وإنما كان الهدف الفرنسي هو قطع طرق تدفق الأسلحة عبر الحدود الصينية، وقتل قادة الفيت منه أو أَسْرِهم، وتدمير قواتها النظامية (التي ذكرت التقارير أنها تم تنظيمها في سرايا مستقلة، ضمت كل سرية مائة رجل، فضلاً عن قائدها وأفراد اتصالاتها. وقسمت إلى ثلاث فصائل قتالية، كل فصيلة من ثلاث مجموعات، لكل مجموعة قائد، برتبة رقيب ، وثلاثة مساعدين معهم بنادق آلية، ومساعد رابع يحمل قنابل يدوية).
كان ميدان الهجوم شمال هانوي وشمالها الغربي، بالقرب من ثاي نجوين ، وباكان ، وشييم هوا ، وتوين كوانج . وبدأ بعملية، سميت “عملية ليا” ، حيث تقدمت طلائع القوات الفرنسية، في 7 أكتوبر 1947، من الشمال إلى الجنوب نحو منطقة مراكز قيادة الفيت منه، في باكان ، عقب إسقاط 1137 جندي مظلات عليها. واستولت على المخازن الكبرى للطعام والذخيرة، ومحطة الإذاعة. ولاذ القادة العسكريون ورجال الحكومة بالفرار. ثم اندفع رتل فرنسي مدرع، تسانده المدفعية وسلاح المهندسين، شمالاً، من قلعة لانج سون، على امتداد الطرق ، إلى مدينة كاو بانج . وتقدمت كتيبتا مشاة، بمحاذاة النهر الأحمر، عبْر توين كوانج ثم بمحاذاة نهر جام ، إلى شييم هوا
واستمرت هذه المرحلة من الهجوم إلى 8 نوفمبر؛ وأسفرت، كما أعلن الفرنسيون، عن ثمانية آلاف قتيل من الفيتناميين.
بدأت المرحلة الثانية من الهجوم، في 20 نوفمبر، وامتدت إلى 22 ديسمبر؛ إذ اندفعت 18 كتيبة من هاي دونج ، إلى الجزء الشمالي من دلتا النهر الأحمر، في شرق هانوي وشمالها الشرقي، حيث قاتلت في جنوب فيت باك Viet Bac، فوجَين من الفيت منه قتالاً عنيفاً. وتقدمت تشكيلات أخرى نحو شمال هانوي مباشرة. وفي الوقت نفسه، تمكنت كتيبتان من رجال القبائل، في جبل تاي T΄ai، وهم من المعادين للشيوعيين، من طرد وحدات الفيت منه من الجبال، بين النهرَين: الأحمر والأسود.
عُدَّت هذه العملية أهم عمل عسكري في تاريخ فرنسا. أسفرت عن 9500 قتيل من الفيت منه؛ واحتلال القوات الفرنسية تاي نجوين، وتوين كوانج، والمدن والقرى في غرب إقليم الفيت باك وشماله. في وقت تواصلت مفاوضات باو داي مع المندوب السامي الفرنسي، في الهند الصينية، إيميل بوللار ما أسفر عن اعتراف باستقلال محدود.
اقترنت مرحلة تراجع الفيتناميين هذه، بإعداد معسكرات التدريب، وتوحيد القيادة المركزية العسكرية، والاستعداد للمقاومة الشاملة؛ فضلاً عن مواصلة حروب العصابات، في الجنوب. ومن ثَم…
بدأت، في نوفمبر وديسمبر 1947، موجات هجوم فيتنامية مفاجئة، في المدن والقرى والغابات. أحرزت نجاحاً، جعل الفرنسيين في موقف الدفاع؛ إذ اقتصرت جهودهم على حماية أنفسهم، وتأمين خطوط إمداداتهم الطويلة. وتكبدوا خسائر هائلة: بشرية ومادية، اضطرتهم إلى التقهقر، في يناير 1948، إلى دلتا النهر الأحمر. وبلغت 3300 قتيل، وأربعة آلاف جريح، و18 طائرة، و38 قطعة نهرية، و255 دبابة وآلية، ونحو ثمانية آلاف قطعة سلاح. وقُدَّرت نفقات الهجوم بنحو 34 مليون دولار، شهرياً. وكانت تلك أكبر هزيمة، منيت بها القوات الفرنسية، منذ عودتها إلى الهند الصينية، عقب الحرب العالمية الثانية؛ حتى إن أكثر المراقبين الأمريكيين، حتموا بأن فرنسا، لن يكون في مقدورها شن هجوم آخر مماثل.
وفي أبريل 1948، ازداد الفيت منه قوة؛ إذ احتشدوا في 32 كتيبة نظامية، و137 كتيبة إقليمية، ضمت جميعها 300 ألف جندي (من الملاحظ أن عدد هذه الكتائب قد ازداد، في يونيه 1951، إلى 117 كتيبة نظامية، بينما تناقص عدد الكتائب الإقليمية إلى 37 فقط) ؛ في مواجهة 115 ألف جندي فرنسي، يدعمهم 300 ألف جندي فيتنامي جنوبي. وكان معظم أسلحة الثوار غنائم من القوات الفرنسية. ولم تتوافر لهم الأسلحة والإمدادات، إلاّ بعد استيلاء الشيوعيين على الحكم في الصين الشعبية. فاستفحلت عملياتهم، عامَي 1948 و1949، خلف خطوط القوات الفرنسية، بل في مراكزها ومواقعها، المنتشرة في مختلف الجبهات؛ ما أجبرها على إخلاء معظم تلك المواقع. وجعل الإدارة الأمريكية تبدأ تمويل الحرب الفرنسية، بصورة كاملة.
حملت فرنسا الإمبراطور السابق، المَنْفي، باو داي، على العودة إلى بلاده؛ غير أنه أصر على البقاء في أوروبا، ريثما تتمكن القوات الفرنسية من إقرار الأوضاع تماماً في فيتنام. فاستعاضت منه باريس بحكومة، في هانوي، رأسها أحد ساسة فيتنام الموالين لها، هو نجوين فان كسوان الذي عاش معظم حياته في باريس؛ وهي حكومة لم تلقَ أيَّ تأييد.
وما لبث وزير الخارجية الأمريكي، دين أتشيسون، أن لام في فبراير 1949، الحكومة الفرنسية لوماً شديداً، على تقاعسها عن تهيئة الأوضاع، جدياً، لعودة باو داي؛
واجتزائها بحكومة هشة، يسخر منها الجميع، في فيتنام. وحذَّر من أن بقاء الأوضاع على هذا النحو، ينذر بانتصار الشيوعيين، واستيلائهم على السلطة. ومن ثم، بادر الرئيس الفرنسي، فنسون أوريو إلى إبرام اتفاقية الإليزيه
، في مارس 1949، مع الإمبراطور المنفي، باو داي، والتي نصت على تعهد فرنسا بتوحيد فيتنام كلّها، سياسياً؛ لتضم الهند الصينية، وأنام، وتونكين، في “دولة فيتنام”، تحت حكم باو داي، وسيطرة فرنسا على الشؤون العسكرية، والعلاقات الخارجية لهذه الدولة.
لم تُرْضِ الاتفاقية دين أتشيسون، الذي انتقد عليها عجزها عن كسب تأييد الفيتناميين؛ بل رفض الاعتراف بحكومة باو داي. ولم يرغم الأمريكيين، في أواسط 1949، على التخلي عن تشددهم، إلا استشراء المد الشيوعي في العالم، ولا سيما ..لاسيما سقوط الصين في يده، واقتراب قواتها الشيوعية من سواحل تونكين، والتعاون العسكري بينها وبين الفيت منه؛ فضلاً عن ضغط المسؤولين الفرنسيين على نظرائهم الأمريكيين، وتأكيدهم أن “الولايات المتحدة الأمريكية، لا تقدر جيداً دور فرنسا في قتال الشيوعية العالمية؛ وأن عليها أن تقدم العون والدعم الكاملَين لها”. وهكذا، باتت واشنطن أمام خيارت ثلاثة: التزام الحياد، أو الاعتراف بحكومة باو داي، أو التعامل مع هوشي منه. وقد آثرت الخيار الثاني، وانبرت تستحث الدول الآسيوية الأخرى، مثل الهند، على أن تحذو حذوها.

قد يعجبك ايضا