محطات في تجربة حركة التحرر الفيتنامية”4″
عبدالجبار الحاج
تشبه المرحلة التاريخية من الحرب الفيتنامية الفرنسية خلال الفترة 1945 – 1950م حالة الحرب اليمنية مع دول التحالف فتجد دول العدوان نفسها تغرق في مستنقع استنزاف كلما احتاجت إلى المال الكثر والسلاح استنزفت نفسها واقتربت من الهزيمة …
في حين أن اليمن تعيش الآن مرحلة تخلق حركة تحرر وطنية شاملة ستمتد في كل اليمن وسنذهب إلى متابعة مشهد استعار المواجهات العسكرية من جهة ..بل هي من جهة أخرى مرحلة البناء والاستعداد للمعارك الحاسمة وهي مرحلة تشبه حالة اليمن التي تجد نفسها شعبا وحركة تحرر تتخلق الآن ستتولى مهمات حروب التحرير القادمة وبالتالي ستغدو كواليس التسويات مجرد أوهام وسراب في خيال قوى العمالة والخيانة في الداخل وقوى العدوان .
لننظر مشهد كيف استنفزت فرنسا المدعومة بسخاء امريكي بالمال والسلاح والخبراء والاستخبارات والإعلام .
استعار المواجهات، الفرنسية ـ الفيتنامية
( قرر قادة ( الفيت منه ) التصدي للقوات الفرنسية، وتلك البريطانية المتعاونة معها. فقصفوا، في 24 سبتمبر 1945، سايجون قصفاً كثيفاً، بمدافع الهاون والرشاشات؛ فانقطعت عنها الكهرباء والمياه، وشلت الحياة فيها تماماً. وفرّ عشرون ألف مواطن فرنسي إلى الفنادق والثكنات الفرنسية. واندفع رجال الفيت منه المسلحون، عبْر طرقات المدينة، وأغاروا على المطار؛ وأحرقوا السوق المركزية؛ ودهموا السجن، وأطلقوا مئات السجناء الفيتناميين. وهجموا على ضاحية سيته هيرو حيث قتلوا مائة وخمسين فرنسياً، واقتادوا أكثر من مائة رهينة.
إزاء ذلك ترددت الولايات المتحدة الأمريكية في اتخاذ موقف ما، ولم تبدِ اعتراضاً، بعد أن علمت أن البريطانيين أعادوا تسليح الجنود اليابانيين، في جنوبي فيتنام، ثم سلموا معداتهم العسكرية الأمريكية إلى الوحدات الفرنسية، وبدأوا بالتراجع إلى الجنوب. باستثناء أنها أرسلت سبعة وكلاء، برئاسة المقدم ( بيتر ديوي ) ، من مركز قيادة مكتب الخدمات الإستراتيجية؛ بهدف إطلاق أسرى الحرب الغربيين، والبحث عن المفقودين الأمريكيين. وقد انضم ديوي إلى العميد دوجلاس جراسي، قائد القوة البريطانية المكلفة نزع أسلحة اليابانيين. وقد اختلفا؛ فأمر جراسي بإخراجه من سايجون، ثم سقط ديوي قتيلا على أيدى أحد الفيتناميين في 26 سبتمبر 1945. ولم تفعل واشنطن شيئا؛ رداً على ذلك.
رداً على ما فعله الفيت منه، عيَّن شارل ديجول الجنرال جاك فيليب ليكلرك (قائد فرقة الدبابات، الذي حرر باريس من القوات الألمانية عام 1944) قائداً للقوات الفرنسية في الهند الصينية ..
نصحه الفريق الأول دوجلاس ماك آرثر القائد الأمريكي العام لقوات الشرق الأقصى، بضرورة التصدي للثوار بكلّ قوة، قائلاً له:
“اجلب إلى المنطقة أكبر عدد ممكن من القوات”.
في أكتوبر 1945، تمكنت قوات ليكلرك، البالغة 35 ألف جندي، من كسر قوات الفيت منه، التي كانت تحاصر سايجون؛ ثم انطلقت تمشط دلتا نهر الميكونج، والمرتفعات الشمالية وعمد المنسحبون خلال تراجعهم إلى تدمير الجسور في طريقهم ا. وأمكن فرنسا السيطرة على سايجون، وتأسيس إدارة جديدة فيها، وأعادوا بناء مواقعهم في المرتفعات الوسطى.
( أمّا في فيتنام الشمالية، فقد ظل هوشي منه يوطد الأوضاع، وينفذ برامج إصلاح ثورية، بحسب الحزب الشيوعي. في تلك الأثناء .
حسب قرار مؤتمر بوتسدام الذي. تناولت. الاشارة اليه في حلقة سابقة فعُبِّئ القوميون الصينيون وهو حزب الكومانتنج المضاد. للثورة الصينية. وعبئ لنزع سلاح اليابانيين، في الشمال. فوصل إلى هانوي القائد العسكري الصيني لوهان الذي كان يقود. احدى اقطاعيات. تشينج كاي. شيك. زعيم. الثورة المضادة فوصل في نوفمبر 1945، مائتا ألف جندي، يقودهم الجنرال لو هان احد قادة اقطاعيات جيش الكومانتنج . وأعملوا النهب والسلب، وصاروا أخطر، على الفيتناميين الشماليين، من الفرنسيين الغزاة أنفسهم. فانسحب منها ّ منها فونجين جياب، وكثير من رجاله)
وهو ما اضطر هوشي منه إلى قبول التفاوض؛ شريطة الاعتراف باستقلال فيتنام. ووحدتها وحق شعبها. حق تقرير مصيره وقامت باريس بإرسال جان سنتني ، ممثل الرئيس شارل ديجول. وفي الوقت نفسه، أرسل الجنرال ليكلرك سفنه الحربية إلى خليج تونكين، في فيتنام الشمالية؛ استعداداً للقصف، إنْ أخفقت المفاوضات. غير أنها نجحت، ووقِّعت، في 6 مارس 1946، وأسفرت عن استعداد فرنسا للاعتراف بفيتنام، دولة حرة، في إطار اتحاد فيدرالي فرنسي، يضم ، إلى جانب فيتنام، كلاً من كمبوديا ولاوس؛ على أن يصبح اتحاد الهند الصينية هذا عضواً في الاتحاد الفرنسي، طبقاً للدستور الفرنسي الصادر في صيف 1946؛ في مقابل سماح هوشي منه بوجود 25 ألف جندي فيها، طوال السنوات الخمس التالية، وإجراء استفتاء حول إعادة توحيد تونكين وأنام والهند الصينية. ما كان قبوله ذلك إلا اتقاء لخطر فرنسا؛ ريثما يتمكن من طرد القوات الصينية…
استكملت المحادثات، في مايو 1946، في مؤتمر فونتننبلو ، جنوبي باريس، الذي استمر ثمانية أسابيع، ولم يسفر إلا عن مسودة اتفاق، تدعم المطالب الاقتصادية الفرنسية، في شمالي فيتنام؛ ولا تقرر شيئاً، يتعلق بالهند الصينية (فيتنام الجنوبية)؛ على الرغم من إصرار هوشي منه على حسم وضعها، وجعْلها جزءاً لا يتجزأ من فيتنام. ولكن في الوقت نفسه، أعلن الأدميرال ثيرّى دارجنليو، المندوب السامي الفرنسي، حكومة منفصلة للهند الصينية؛ ما يعني نقض اتفاقية مارس الآنفة..
أيقن هوشي منه، أن الفرنسيين، لايريدون منح فيتنام استقلالها. واتفق مع رفيقه، فو نجين جياب، وهو وزير داخليته، على ضرورة الاستعداد للحرب. ومن ثَم، شرع الوزير يرفع عديد قوات الفيت منه ً، تدعمهم ميليشيا إقليمية، تسمى تو في Tu Ve؛ وميليشيا قروية، تسمى دو كيش . واندلع الاشتباك العنيف بين الطرفَين في هانوي، في 20 و21 نوفمبر 1946، في ميناء هايفونج الشمالية. قر ب هانوي ، حيث احتجزت الميليشيا الفيتنامية قارب تفتيش فرنسياً، كان قد اعتَقل بعض الصينيين. واقتحمت الدبابات الفرنسية شوارع المدينة، وردت الميليشيا الفيتنامية بقذائف الهاون.
استند الجنرال قائد القوات الفرنسية الجديد في فيتنام، إلى سماح رئيس الوزراء الفرنسي، جورج بيدو ، له باستخدام المدفعية ضد الميليشيات الفيتنامية، فسارع إلى مطالبة هوشي منه بإخلاء هايفونج من الميليشيات الفيتنامية، والاعتراف بالسيطرة الفرنسية على هانوي. ومن دون انتظار الرد، اجتاحت الميناء، صبيحة 23 نوفمبر 1946، الوحدات المدرعة، ووحدات المشاة الفرنسية؛ تدعمها الطائرات الفرنسية، والمدمرة الفرنسية سوفرون . ولم يوقف القتال إلا بعد سقوط 20 ألف قتيل مدني فيتنامي، حسب الرواية الفيتنامية؛ بينما أكدت المصادر الفرنسية، أن القتلى، لم يزيدوا على ستة آلاف. وفي 17 ديسمبر، دخل الفرنسيون هايفونج. وأبرق إتين فالوي إلى هوشي منه، يطالبه بنزع سلاح الميليشيات الفيتنامية في هانوي.
اجتاحت الاضطرابات هانوي، في 19 ديسمبر. وأغارت الميليشيات الفيتنامية على منازل الفرنسيين، وقتلت الكثيرين منهم؛ وقصفت محطة الكهرباء؛ وزرعت الألغام في شوارع المدينة، انفجر أحدها بسيارة الحاكم الفرنسي في تونكين (جان سنتن ) وأصابه بجرح بالغ؛ كما أسفرت الاشتباكات عن احتراق كثير من المباني المهمة والأشجار.
استعد هوشي منه للخروج من هانوي، بعد أن أسس قاعدة ريفية؛ ليدير المقاومة منها. إلا أن فو نجين جياب، دخل المدينة بقواته، التي انضمت إلى الميليشيات، وأذاع نداء إلى جميع الجنود والميليشيات، في كافة أنحاء فيتنام، بالقتال والصمود؛ لإخراج الفرنسيين.
خاض الفيتناميون، في ميناء. هايفونج، حرب شوارع. وكانت أسلحتهم بنادق فرنسية قديمة، ورشاشات أمريكية قديمة، ورشاشات آلية، من نوع برن بريطانية الصنع؛ وبنادق يابانية صغيرة ؛ والرماح والسيوف والمناجل؛ وقنابل يدوية، محلية الصنع، في مواجهة الدبابات الفرنسية، والمدفعية، والرشاشات الآلية. وسدوا الطرق بحواجز، من الأسِرَّة والأمتعة والأثاث والملابس؛ لعرقلة تقدُّم الدبابات. غير أن الميليشيات الفيتنامية؛ إزاء وطأة الهجمات الفرنسية، اضطرت إلى التقهقر إلى المناطق الريفية، في فيت باك د. ولجأ عندها هوشي منه إلى مدينة هادونج ، على بعد ستة أميال جنوب هانوي .
استمرت المواجهات شهرَين كاملَين، انسحبت الميليشيات الفيتنامية، في نهايتهما، عبْر نفق أرضي؛ لتحاصر عدة مدن، في الشمال، مثل: هوي، وفينه ، ونام دنه ، وهايفونج، وتقطع الاتصالات بها تماماً. وتمكنت من حصر كتيبة فرنسية، من 750 رجلاً، في هوي، 47 يوماً متواصلة. وقبل وصول النجدة الفرنسية، دمر الفيتناميون الجسور، وبثوا الألغام في الطرق، ودمروا معظم المباني، قبل تقهقرهم عن المدينة. إذ إن قواتهم، التي تضم الاف من رجال العصابات والميليشيات ـ لم يكن أمامها سوى الانسحاب. من امام القوات الفرنسية، البالغة 115 ألف جندي، بمن فيهم الجنود الفيتناميون الموالون لفرنسا. وتمكن الفرنسيون، في مارس 1947، من إعادة فتح معظم الطرق الرئيسية؛ وسيطروا على هانوي، ودلتا النهر الأحمر؛ وسلسلة نقاط حصينة، على امتداد الطريق على الحدود الصينية في الشمال.