سلطان العارفين وإمام الواقفين.. الحلقة الرابعة

*الشيخ الأعظم أحمد بن علوان
إعداد/عدنان أحمد الجنيد *
•حقيقة التوحيد عند ابن علوان :
قال ـ قدس الله سره ـ في فتوحه مانصه:
« وليس حقيقة التوحيد أن لا شريك له في الملك إذ هو كذلك، من قبل أن يأمرك بذلك.
ولكن حقيقة التوحيد أن لا شريك له في القلب ، ولا ثانٍ له في المحبة ، إذ هو أغنى الشركاء عن الشرك في كل حال » .
•حقيقة الإخلاص عند ابن علوان:
قال ـ قدس الله سره ـ في فتوحه مانصه:ـ
« وترى قوماً يدَّعون الإخلاص منذ أربعين سنة وأكثر من ذلك ، وما شهد لهم شاهد الحكمة ، ولا جاد على قلوبهم غيث الرحمة .
وذلك من حيث ظنوا أن الإخلاص كثرة الصلاة والصيام ، والحج والصدقة ، وذكر اللسان وخرط المسابح وهيهات .
إنما الإخلاص: تجريد القلب وتفريده، وتصحيح الحب وتجديده، ومراقبة الرب وتوحيده، وتفريق المال وتبديده، وتهذيب العزم وتسديده، وتصعيد الحنين وترديده، بصفة الواله العميد، والصبِّ الشهيد الذي تعلقت عين فؤاده بمشهوده وتشبثت أنامل قلبه بموجوده. فاستمسك بالعروة الوثقى، وانتقل بهمته إلى الطور الأعلى ، واستغنى عن كل أحد بالمولى (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) .
آخذاً بحجزة المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – داخلاً في صف من صدق ووفا، وتطهر من درن الشك وصفا ، وانقطع أثر حب الدنيا من قلبه وعفا.
فمنحه الله – عز وجل – المعرفة والحكمة، ومنحه الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – حسن الخُلق والسنة، ومنحه الصحابة – رضي الله عنهم – نور التصديق والعفة فعاش في الدنيا بأنفاسهم، لما شرب من رحيق كأسهم، ينتظر الانتقال وقد شدَّ ركائبه للترحال، وأعرض عن النفس والأهل والمال ذلك سيد الرجال وأبو الأشبال، وبدر الكمال » .
•حقيقة الفرائض والنوافل عند ابن علوان:
قال ـ قدس الله سره ـ في فتوحه مانصه:
« فالفرائض أن تطيعه ولا تعصيه .والنوافل أن تسعى في كل ما يرضيه .
فإذا أحرزت ذلك ظاهراً وباطناً ، واستصحبته ظاعناً وقاطناً ، صار القلب مسكناً والحبيب ساكناً .
فطهِّر الظاهر من الحركات المذمومة ، وطهِّر الباطن من الخطرات المشؤومة. فالحبيب الواحد لا يصلح له إلا قلب واحد ، وبعيد أن يسع مولاه وفي ضميره شيء سواه .
•ابن علوان (مجتهدٌ ومجددٌ):
كان شيخنا الأعظم ـ قدس الله سره ـ مجتهداً ومجدداً سواء في العلوم الشرعية أو في علوم التصوف .
* في التفسير: لم يكن مقلداً للمفسرين في تفسيرهم لآيات القرآن الكريم؛ لأنه فاقهم بعلوم اللغة بما فيها من بلاغة ومعانِ وألفاظ ومبانٍ . فعلى سبيل المثال تفسيره لقوله تعالى: [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ… ] وقوله تعالى:[ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا] وقوله ـ أيضاً ـ [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ]
قال ـ قدس الله سره ـ
أما قوله تعالى: [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ] فإنه أراد من هذه الأمة المحمدية.[ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ]، والسهو على وجهين:
ـ سهو في الصلاة كما يعرض فيها من الوساوس والخواطر، وهو ما يحتمله عفو الله تعالى لقوله: [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا]. وليس في وسع النفس الإنسانية دفعاً لكل خاطر.
ـ وسهو عن الصلاة وهو إيثار ما لنفسك من الحظوظ الدنيوية على ما لله، والتشاغل به إلى آخر الوقت والتباسه بوقت آخر، فهؤلاء هم المرادون بالآية.[الذين هم يراءون] أي يقصدون بالصلاة الحياء من الناس، والتعرض لحسن ثنائهم عليهم، وإقبالهم بوجوههم إليهم، أو ليأمنوهم على أموالهم ونفوسهم، فيحصلون بذلك على ما يريدون، والله أعلم بما يوعون [فبشرهم بعذاب أليم].
والماعون هو كل ما عَدِمه أخوك أو جارك ووجدته، فاحتاج إلى عاريته أو مواساة منه، فإن حَرمته ذلك فقد منعت الماعون.
وأما قوله تعالى : [وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا].
فإن طائراً هاهنا من التطُّير، وهو أن يصيبك شر أو بلاء، فتتطير بشيء تسمعه أو تراه، فتضيف ذلك الشر إليه وتحمله عليه.
وهذا مما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “لا طيرة”
فإذا أراد الله تعالى بذلك أنه قدم الأمر والنهي على ألسنة رسله، في تنزيل كتبه، وبَيَّن وعَيَّن، ووعد وأوعد.
فإذا كان يوم القيامة أقام الحجة عليهم بما أرسل إليهم، فيعترفون بذنوبهم، ويسارعون إلى مقت أنفسهم ولومها.
فالطائر الذي في أعناقهم هي اللائمة والمقت والتطير الذي يقع منهم عليها، [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].
وأما قوله تعالى : [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ]، كل من أخذت عنه دينك وعقيدتك، وعلمك وعملك، وسيرتك ومِلّتك، دعيت به، فإن كان مُحِقاً نجا ونجاك، وإن كان مُبطلاً هلك وأهلكك.
* في العقيدة: لم يقلِّد أيَّة فرقة لا الأشعرية ولا المعتزلة ولا غيرها، بل خالفهم في ذلك، فانظر كلامه في القضاء والقدر وغيرها من مسائل العقيدة فستجد البلسم الشافي والكلام الوافي الذي تطمئن إليه القلوب، وتزداد معرفة بعلاَّم الغيوب
قال قدس الله سره ـ:
وأما القضاء الذي يلزمنا العبارة عنه، والكشف عن مشيئة ما أشكل منه، فإنه على ثلاثة أوجه :
قضاء علم ، قضاء حكم ، قضاء حتم.
ـ فأما قضاء العلم: فهو العبارة الجامعة لكل ماسبق في أم الكتاب كَوْنه، وقَدّر فيه وقته وأينه، وهو ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، من أقوال الخلق وأفعالهم ونيّاتهم، وهو الإمام المبين، الجامع لأشكال الخلق أجمعين.
ـ وأما قضاء الحكم: فهو ما قضى الله به في محكم كتابه من الأمر والنهي، والأحكام والحدود، والشرائع والسنن، وهو موقوف من كل مُكَلّف على الاختيار لا على الاضطرار والإجبار، كما قال تعالى:[ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ]. [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]. [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] وما أشبه ذلك.
ـ وأما قضاء الحتم: فإنه ما قضى الله عز وجل به من خلق الخلق ورزقهم، وخيرهم وشرهم، ونفعهم وضرهم، وغناهم وفقرهم، وصحتهم وسقمهم، وخصبهم وجدبهم، وحياتهم وموتهم، وثوابهم وعقابهم، تدخل فيه الحسنة الدنيوية والسيئة، وتخرج عنه الحسنة الدينية والسيئة، وهو ما أراد الله عز وجل بقوله حيث أخبر عن الكفار:[ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ].
لأن الكفار كانوا في جاهليتهم لا يعرفون الحسنة إلا صحة الجسم، وكثرة المال، وذكورة الولد، وخصب البلاد، وما أشبه ذلك، ولا يعرفون السيئة إلا مرض الجسم، وقلة المال، وإناث الولد، وجدب البلاد، وما أشبه ذلك.
فنسبوا كل حسنة تأتيهم مما هذا سبيله من الله فضلاً، ونسبوا كل سيئة تأتيهم مما هذا سبيله من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تطيُّرا.
وأما القدر: فإنه مشتق من التقدير لا من القدرة، وتفسير لفظه: تأريخ المعلومات وتعينها متى تقع، وكيف تقع، وأين تقع، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقضاء وقدر، حتى العجز والكيس)، أي بقضاء وقدر، معلوم أو محكوم أو محتوم، على ما ذكرنا أولاً.
ومن هنا نعلم ونعتقد أن الله قضى بالمعصية قضاءً معلوماً، وقدّر كونها من فاعلها قدراً معلوماً. ولم يقض بها قضاءً محكوماً، ولا قدّرها قدراً محتوماً؛ لأن قضاءه الحق والمعصية باطل، وحكمه العدل والمعصية ظلم، وحتمه الجبر والمعصية تمكين، والله أجلّ وأعظم وأعدل وأكرم من أن يعيب شيئاً أو يقبّحه أو يذمّه أو يغضب منه أو يعاقب عليه، وله شركة فيه بمشيئتة أو إرادة أو قضاء محكوم أو قدر محتوم.اهـ .
وللاستزادة انظر كتابه (التوحيد) لا سيما الجزء الأخير الذي حوى عقيدته قدس الله سره .
* لم يقلد مذهباً :
فلم يكن منتمياً ولا مقلداً لأي مذهب من المذاهب الإسلامية، بل كان محمدياً صرفاً، وما ذُكر في مقدمة عقيدته بأنه شافعي المذهب، فإنما هو مدسوس عليه من قبل النُسَّاخ الذين جاؤوا بعد زمنه، وقد وجدنا في بعض النسخ المخطوطة أنه زيدي المذهب .وكل ذلك ليس بصحيح؛ لأن الأولياء الكُمَّل لا يتقيدون بأي مذهب كما حكى ذلك الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي في فتوحاته المكية.
ولأنهم ـ أيضاً ـ قد بلغوا مرتبة الاجتهاد، بل قد صار أخذهم من سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مباشرة دون واسطة. كذلك كلامه وقصائده ـ قدس الله سره ـ تثبت بأنه لم يكن شافعي المذهب، فقد قال ـ مشيراً إلى نفسه ـ
وخـذوا فمِـنْ بحـرِ الحقيقة تأخذوا ممَّـــن أتـــتــه بـــذلك الأنــبــــاءُ
ممَّـــن يـديــن بـديــن آلِ مـحـمــدٍ وعلــيه مــنهــم بــهـجــةٌ وضـياءُ
وهذان البيتان ضمن قصيدة طويلة في كتابه التوحيد .
فلاحظ هنا قوله: ( ممن يدين بدين آل محمد) فكلامه صريح لا يحتاج إلى تأويل . كذلك كيف يُقلِّد مذهباً من المذاهب وهو يُعدُّ إماماً من أئمة آل البيت ـ عليهم السلام ـ الذين أمرنا سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ باتباعهم، كما جاء في حديث الثقلين وهو حديث متواتر فاعتبر واستبصر.

* في التصوف: إن شيخنا الأعظم لم يُقلِّد الصوفية الذين سبقوه أو الذين عاصروه في ضرورة اتخاذ الشيخ المربي للمريد السالك، ولا بضرورة المبايعة ولبس الخرقة ولا بأمور أخرى. وقد تكلمت عن هذا الموضوع في مقابلة صحفية
* رئيس ملتقی التصوف الإسلامي

قد يعجبك ايضا