كفاح شعب وتاريخ وطن(4)
عبدالوهاب الضوراني
قبل قيام الثورة اليمنية المجيدة بأشهر وربما بأيام فقط كان يوجد نوع من التواصل والتنسيق العسكري المتبادل بين قيادات تنظيم حركة الضباط الأحرار في اليمن بزعامة المشير السلال قائد الثورة وإخوانهم أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر الذي كان يتزعمه حين ذاك جمال عبدالناصر ومجموعة من ضباط الجيش المصري الذي قاد ثورة يوليو عام 52م ضد الملك فاروق الأول وسرايا العرش الذي كان لا يزال تحت الوصاية والانتداب البريطاني، وهي المشاورات والجهود المكثفة التي كانت تجرى بينهما بسرية تامة والذي كان لاتحاد طلاب اليمن في القاهرة دور ايجابي وتعبوي أيضا عندما كان يقوم بدور الوسيط وتقارب وجهات النظر بين التنظيمين والقيادتين في كل من القاهرة وصنعاء والتي أثمرت تلك الجهود والمشاورات عن قيام الثورة اليمنية في الـ26 سبتمبر عام 62م كما كان يقوم الاتحاد أيضا بعملية التبادل والتعاون الثقافي والثنائي بين البلدين لأنه كان لا يوجد في ذلك الوقت أي نوع من العلاقات الدبلوماسية بين مصر في عهد الملك فاروق وبين اليمن في عهد الإمام أحمد والذي كان يضم تحت سقفه العديد من الشخصيات السياسية والثقافية وكبار المناضلين في اليمن بشطريه والذين كانوا يمارسون من هناك نشاطاتهم السياسية ونضالهم المشترك ضد نظام الأئمة في شمال الوطن ومقاومة الاحتلال البريطاني في جنوبه، كما كان الاتحاد يقوم أيضا بعدة نشاطات وفعاليات أخرى وإعداد منشورات سياسية وتعبوية كانت تبث يومياً وعلى الهواء مباشرة من راديو صوت العرب تدعو الشعب اليمني للانتفاضة والمقاومة والجهاد المسلح للتحرر من أنظمة الأئمة والقيام بثورة شعبية كبرى ضدهم في اليمن والتي كانت بوادرها ومؤشراتها واضحة وملموسة على الأرض وشرارتها كانت على وشك الاندلاع بين الحين والآخر، لا سيما أنه كان يوجد ثمة لغط وتوقعات بين الناس والكثير من تصرفاتهم وتحركاتهم التقليدية التي كان يشوبها دائما التحفظ والحذر بأنه كانت توجد ثمة استعدادات وتحركات للقيام بثورة ضد البدر كما كان لراديو صوت العرب الفضل أيضا في رفع الروح المعنوية بين أوساط الشباب واشعال جذوة الحماس الوطني في قلوبهم وحثهم على المقاومة والجهاد والتطوع في وحدات الجيش ومعسكرات التدريب والتعبئة العامة، وأن الإمام عندما علم وتناهت إليه أصداء ما يقوم به الاتحاد وقاداته من الأنشطة والفعاليات المناهضة لنظامه والتي أصبحت تهدده وتشكل خطراً أيضا ضد امبراطوريته في اليمن أمر بتعليقه وترحيل القائمين عليه فوراً وإعادتهم على نفقته الخاصة إلى اليمن للتخلص منهم والزج بهم في السجون والمعتقلات وشفرات سيوف الجلادين إلا أنه استمر بالرغم من ذلك في مزاولة نشاطاته وحملاته المناوئة والمكثفة أكثر من ذي قبل، ولا ننسى بالمناسبة التنويه بهذا الصدد بدور مصر عبدالناصر التضامني واللامحدود في دعم ومساندة الثورة اليمنية وتوطيد دعائم النظام الجمهوري حتى تسنى لهما رغم العراقيل والمؤامرات الوقوف على قدميهما كالجبال الرواسي حتى ارتفع علم الجمهورية خفاقاً في سماء الوطن.
عبدالناصر قام بزيارة تاريخية ومفاجئة لليمن تعتبر الأولى من نوعها بعد الثورة تفقد خلالها العديد من المواقع الأمامية ووحدات الجيش المصري الميداني التي كانت ترابط جنباً إلى جنب مع إخوانهم جنود وأفراد القوات المسلحة اليمنية الذين كانوا يتواجدون بعد الثورة في كل جبل وسهل وواد من ربوع اليمن للدفاع عن الثورة واسنادها بأرواحهم ودمائهم وبكل ما يملكون من الغالي والنفيس، وألقى خطاباً تاريخياً في ميدان التحرير دعا فيه الشعب اليمني للالتفاف والاصطفاف حول الثورة واسناد الشرعية والنظام الجمهوري الذي كان لا يزال في طور النشء والتأسيس والتخلص من آثار وتراكمات الماضي وكوابيس الأئمة التي كانت جاثمة طويلا فوق صدورهم والتي عزلتهم عن العالم والحياة المعاصرة وتفويت الفرض أيضا أمام الأطماع والمشاريع السعودية وقوى الاستعمار الخارجي الذين يحاولون دائما الاصطياد في الماء العكر والمستنقعات القذرة ويحاولون نهش مقدرات الشعوب والأقليات في الوطن العربي ليجعلوها دائما تحت رحمتهم وجزءاً من وصايتهم ونطاق نفوذهم الاقليميين.
عبدالناصرقال في خطابه أيضا وبالحرف الواحد: إن قوى الاستعمار في السعودية وغيرها يحاولون أن يجعلوا من اليمن مستعمرة لهم كبقية المستعمرات والمستوطنات التي أقاموها في الوطن العربي على انقاض شعوبها واستنزاف ثرواتها ومواردها وإن الفهود وأحفاد آل سعود يحاولون نشب أظافرهم في الجسد اليمني ليظل ينزف دماً لينهلوا منه حتى آخر قطرة. وقال أيضا إنه يجب على بريطانيا العظمى أن ترحل من جنوب اليمن المحتل كما رحل الأئمة والملوك من شماله. وحول النزاع الحدودي اليمني السعودي دعا عبدالناصر في خطابه أيضا الطرف السعودي وحكام الرياض للانسحاب الفوري والمباشر من جميع الأراضي اليمنية التي تحتلها خصوصاً منطقتي جيزان ونجران التي أكد في خطابه أنها أراض يمنية مائة في المائة وأنه حان الوقت للانسحاب منها وإعادتهما دونما قيد أو شرط للشرعية والسيادة اليمنية خطاب عبدالناصر آثار ضجة كبيرة داخل بلاط أصحاب الجلالة السعوديين كما أثار حفيظتهم أيضاً واعتبروه تهديداً لهم ونوعا من الاستفزاز والتدخل في الشأن اليمني السعودي مما أدى بالمقابل إلى تعزيز قواعدهم وآلياتهم وتحصيناتهم الدفاعية في العديد من المناطق الحدودية المتنازع عليها بين البلدين كالوديعة وشرورة وخميس مشيط وغيرها من الأراضي اليمنية الأخرى التي احتلتها والتي تزعم أنها جزء من الأراضي المشتركة والخاضعة للمقايضة وتندرج تحت الانتداب والوصاية السعودية.
زيارة عبدالناصر لصنعاء صاحبتها العديد من الحملات الإعلامية المكثفة التي كانت تندد دائما بالاحتلال السعودي لجزء من الأراضي اليمنية التي جعلت سمعة السعودية وحكامها أمام العالم بجلاجل وفي الوحل ويضربون أيضا أخماساً في أسداس ويقلمون أظافرهم، مصر غمرت الشارع اليمني بعد الثورة وفي زمن عبدالناصر والقوميين العرب بالعديد من الأناشيد والإيقاعات الوطنية الشهيرة والتي كان يأتي في طليعتها نشيد “الله أكبر” الذي كان له صدى وتأثير مباشرين في شحذ الهمم وإشعال جذوة الحماس والانتماء للوطن في قلوب الجماهير خصوصا الشباب الصاعد من جيل الثورة الذي هب من كل مكان لتلبية نداء الوطن والالتحاق بمعسكرات التدريب ومراكز التعبئة العامة والتواجد أيضا في الميدان وأرض المعركة، كما أرسلت بعثة من كبار علماء الأزهر ومشاهير الخطباء والمدرسين الذين كان له دور تنويري وتوعوي إيجابي في نشر الوعي بين المواطنين الذين كانوا لا يزالون يرزحون تحت وطأة العزلة وآثار الماضي ويعانون أيضاً من وطأة الجهل والانغلاق وتفشي الأمية.