اليمن.. وصراع هويات المشاريع الصغيرة
محمد أنعم
دول العالم المتعددة القوميات نجحت في حل المسألة القومية قبل قرون وأطفأت نيران الصراعات والنزعات القومية المتعصبة (الشوفينية) بين أبناء الوطن الواحد، بعد أن وصل الجميع إلى قناعة أن التعدد القومي جزء من الهوية الوطنية الجامعة التي تتوحد في إطارها مجموعة من الشعوب أو الأمم وان ليس كل قومية يمكن أن تكون مشروعاً لدولة مستقلة وإلا لكان العالم قد دُمر بحروب المتعصبين القوميين، والذين تصدى لهم مفكرون وسياسيون بقوة وناضلوا من اجل الانتصار للقيم الإنسانية العظيمة..قيم التعايش والإخاء والعدالة والمواطنة المتساوية ورفض الاضطهاد القومي والعرقي .
المهم..في واقع اليمن ليس هناك قوميات ولا أعراق ولا أقليات أثنية ولا يحزنون، وأبناء الشعب اليمني يتحدرون من أصل واحد ويجمعهم الدين واللغة والعادات والتقاليد في إطار دولة واحدة منذ آلاف السنين.. وما يحدث اليوم من تأجيج للصراعات المناطقية والمذهبية في عدن وحضرموت وتعز مثلاً يقف خلفها من فقدوا مصالحهم الشخصية وجُن جنونهم من المتغيرات الكبيرة التي حدثت في عهد الوحدة اليمنية المباركة.. وليس أمامهم من خيار إلا التحالف حتى مع الشيطان وإضفاء القداسة على العصبيات لضرب الهوية اليمنية..
لماذا كل هذا النزق السياسي والممارسات الحمقاء.. مجنون في تعز خرج يقدم نفسه كالمناضل مانديلا..وبن بريك يُقْسِم انه سيناضل مثل غاندي لـ(تحرير) حضرموت..
يا الله.. (ديولة) مجانين فقد تشبه شلال بثورية جيفارا ولكن تحت عباءة إماراتية لـ(تحرير) عدن ليسلمها من جديد للاستعمار، متنكراً لنضال والده ورفاقه وتضحياتهم الذين طردوا الغزاة من اليمن في 30 نوفمبر1967م..
اليمن أمام مخطط استعماري قديم جديد اُبتُليت به بالأمس وتُبتلى به اليوم، وقد تدفع عدة أجيال ثمن التعصبات المقيتة غالياً، إذا لم تتحرك القوى الوطنية بمختلف توجهاتها للتصدي بقوة لهذه المغامرات والحماقات..
وحريٌّ بنا اليوم التذكير بسياسة (فرّق تسد) التي اتبعها الاستعماران البريطاني والعثماني والحكم الإمامي الكهنوتي، تمثلت بتغذية الصراعات المناطقية والجهوية والمذهبية وتمكنوا عبرها من السيطرة على اليمن وسلبوا أبناءها حريتهم واستقلالهم وكرامتهم وحولوا شعبها إلى مجرد عبيد ومرتزقة وقتلة يأكلون لحوم بعضهم البعض كما هو حاصل اليوم.
وبعد مضيّ عقود على انتصار الثورة اليمنية 26 من سبتمبر 1962م والـ14 من أكتوبر 1963م، ونيل الاستقلال الناجز في 30 نوفمبر 1967م وإعادة تحقيق الوحدة اليمنية في 22مايو 1990م.. نجد من يحاول أن يعيدنا إلى تلك المراحل القاتمة السواد..
ومع ذلك نقول إن القرارات التي خرج بها ما يسمى بمؤتمر حضرموت هي تحصيل حاصل لتركة من الصراعات التي يجري توظيفها لتحقيق مصالح شخصية وتمس الثوابت الوطنية التي من المفترض تجريم كل من يحاول المساس بها.. ومع ذلك فقد طلع بن بريك بدون بريك.. مثل بن دغر عندما حرر حضرموت من العلماء والإقطاعيين!!
لا يجب أن نقلل من خطر الصراعات المناطقية أبداً فقد اسقطت اليمن بيد الاستعمار والاستبداد واغتالت أحلام وتطلعات اليمنيين بعد انتصار ثورة سبتمبر وأكتوبر بسبب عدم فرض هيبة الدولة على بعض مراكز القوى والتي مثلت بيئة غير طبيعية لتوالد مراكز قوى طفيلية تجاوزت السقف الذي لم تقترب منه على الإطلاق كل مراكز القوى المعروفة..
نجد اليوم إن من الضرورة التذكير والتأكيد أن الصراع الذي تفجر بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني في تسعينيات القرن الماضي كان صراعاً يحمل ثارات الحرب بين الاشتراكية والرأسمالية ولم يكن صراعاً مناطقياً او طبقياً بين الأغنياء والفقراء أو بين رأسماليين وبروليتاريين ..إلخ، غير أن اللافت أن الاشتراكي عمل على تأجيج النزعة المناطقية والشطرية لتحقيق مكاسب حزبية فهرب من هزيمة مشروعه الانفصالي في معركة 1994م أمام إرادة الشعب اليمني في الشمال والجنوب ورمى بذلك على أبناء الجنوب لإحداث شرخ في المجتمع اليمني الواحد .
واضح إن الاشتراكي وبحكم إدارته للصراع المناطقي خلال فترة حكمه للمحافظات الجنوبية كان يعي أنه لا يمكن القضاء على منجز يمن الـ22 من مايو 1990م إلا عبر إعطاء الصراعات السياسية بُعداً مناطقياً وانضم إليه بعد ذلك حزب الإصلاح والناصريون واستحضروا من في القبور لإضافة بُعد طائفي ومذهبي لهذا الصراع الذي يعد السلاح المدمر للوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي، وبواسطته جروا الشعب الى معارك عبثية بعيداً عن المعارك الوطنية المصيرية.
ليس من المصادفة أن يأتي إعلان ما يسمى بمؤتمر حضرموت في الوقت الذي يواجه فيه أكثر من 80? من أبناء الشعب اليمني في الشمال والجنوب مجاعة قاتلة ولا يجد معظمهم ما يسدون به رمقهم، فيما الملايين من الموظفين مشغولون بالبحث عن المرتبات ليل نهار.. وتزامناً مع ذلك تشهد الساحة اقتتالاً داخلياً شديد الضراوة تحت شعارات مقززة تهدد بإسقاط الدولة اليمنية الموحدة والقضاء على كل المنجزات التي حققها الشعب اليمني خلال نصف قرن من الزمن، إضافة إلى كل تلك الجحافل من الجيوش المعتدية والمرتزقة والإفراط في إبادة الشعب اليمني.. وكل ذلك دليل على أن المؤامرة كبيرة وبشعة وان العدو لن يرحم أحدا.
ليس أمام القوى الوطنية خيارات متاحة بما في ذلك استمرار التوقف طويلاً في المنطقة الرمادية أو إيثار الصمت الانتهازي أو.. الخ، وعليها أن تقوم بواجباتها في هذه المرحلة الحرجة وألا تظل ترمي بالمسؤولية على الآخرين فالجميع صاروا على مركب واحد فلا يجب أن تقرر مصيره ووجهته الفئران!!
علينا ألا نغالط أنفسنا بعد اليوم..فما يحدث هو محاولة لإسقاط ممنهج للدولة الوطنية من قبل مراكز قوى تكرس بشكل بشع المناطقية والسلالية وتستهدف ضرب الهوية اليمنية الواحدة.. كفى العيش على أضغاث الأحلام والاعتقاد أن المستهدف هو المؤتمر وأنصار الله..
دعوكم من المزايدين بالشعارات الزائفة فقد استلموا ثمن خياناتهم ولم يعد يعني لهم اليمن إلا العودة إلى قفص المحاكم والموت..ثم ها هي الحقائق أمامكم واضحة بعيداً عن التغني بنعيم اليمن الاتحادي المزعوم.. فأي يمن هذا الذي يشيد على آهات ودموع وجماجم وجثث المسحوقين من أبناء الشعب اليمني.. أي يمن هذا الذي يشكل من خلال هذا الفرز والعصبيات المقيتة.. فالمقصود بالأقلمة تقسيم اليمن الذي سيتحول إلى خطر وجودي وعندها لن يكون هناك يمن؟!
مؤسف جداً أن تطل قرون الهويات والمشاريع الصغيرة من المقابر بكل هذا الصلف ولا تجد من يقبرها من جديد ليحصن اليمن من نار فتنة قد لا تبقي ولا تذر.. حقيقة.. لا نحتاج إلى عباقرة فإذا كان المتآمرون يعيدون تنفيذ مخططات الاستعمار والإمامة.. فلماذا لا تواجههم القوى السياسية والاجتماعية بنفس المشروع الوطني وسلاح ثوار سبتمبر وأكتوبر..؟
نعتقد أن على المجلس السياسي الأعلى أن يبادر لإجراء حوار داخلي مع كل القوى في الساحة وعدم الرهان في الحل على الحوار مع عناصر الخارج لأنها أصبحت مرتهنة لأجندة إقليمية ودولية واضحة ومكبلة بالقرار “2216” أكثر من غيرها، على عكس بعض القوى التي تتمترس اليوم مناطقياً وتكابر بالاستقواء بذلك لمجرد المكابرة، في الوقت الذي لا يحتمل مثل هذا النهج بعد ان بات الخطر واضحاً للجميع، واصبح هناك من بات يدركه ويرسل رسائل عن استعداده لاتفاق يحفظ ماء الوجه ونسمع أصواتها ترتفع تدريجياً رفضاً للمخطط الانفصالي الذي يجري تنفيذه..
ولعل الأهم ذكره أن على المجلس السياسي أن يتبنى سياسات لمواجهة المخططات التمزيقية وان يشكل قيادة سياسية وعسكرية وأمنية لمواجهة الاستعمار وعملائه والتصدي لمخططاتهم بقوة، فالدفاع عن وجود اليمن ووحدته وسيادته واستقلاله مرتبط بالقضاء على المناطقيين والانفصاليين وسحق كل من تسول له نفسه العبث بالثوابت، والاصطفاف الوطني الصحيح من كل الأطراف ينبغي أن يوجه نحو ردع العدوان الخارجي.
خلاصةً.. يجب أن يدرك الكل أن صمود العاصمة صنعاء انتصار لليمنيين جميعاً ولمشروعهم الوطني وفي صدارته بناء الدولة اليمنية الديمقراطية المدنية الحديثة على أنقاض كل المشاريع الصغيرة والمتمظهرة اليوم في دويلات الميليشيات..
فهذا هو اليمن الذي ننشده لجيل الحاضر وأجيالنا القادمة.. المعركة مصيرية.. نكون أو لا نكون.