كفاح شعب وتاريخ وطن (2)
عبدالوهاب الضوراني
(إلى شهداء الوطن الأبرار الذين أرووا بدمائهم الطاهرة ترابه)
يقول المثل الفرنسي “الثورات في العالم يخطط لها الدهاة وينفذها الأبطال ويستغلها الجبناء، هذا المثل مأخوذ من الثورة الفرنسية الشهيرة التي اندلعت في النصف الأخير من الألفية الثانية وقادها في الباستيل الديمقراطيون الديجوليون المهمشون ضد البلاشفة والحكام الكاتدرائيون أصحاب القبعات الزرق والتي قامت على ظلال المشانق التي كانت تنصب في ساحة الشانزليزيه وكتدرائية نوتردام التاريخية الثوار الديجوليون الأحرار الذين قدموا حياتهم وفلذات أكبادهم قرابين من أجل انتصار الثورة الفرنسية، هذا المثل ينطبق أيضا على الثورة اليمنية التي قامت على سواعد وجماجم العظماء من الرجال واستفاد منها التافهون والجبناء من أبواق السلطة الذين شغلهم الشاغل والوحيد هو إقامة امبراطورياتهم الوهمية ومشاريعهم على أكتاف الآخرين وفوق الرمال المتحركة، وكان شعبنا وسيظل على الدوام مثلا أعلى يحتذى به في المقاومة والصمود والوقوف على قدميه كالجبال الرواسي وأشد شموخا وكبرياء حتى عندما يكون في أسوأ حالات التمزق والتخبط والانهيار التي يكون فيها أكثر عزما وثباتا وأمضى قوة وتصميما في التصدي ومقاومة كل أشكال الدسائس والمؤامرات ودرء الأخطار التي كانت تحيق بالوطن وثورته وسيادته وسلامة أراضيه والتي كانت تنهال عليه من مختلف المحاور والجبهات خصوصا من المناطق الحدودية الشمالية والمشتركة التي أحالتها السعودية إلى قواعد ومستعمرات وتحصينات عسكرية ودفاعية لتكريس أسوأ أشكال الهيمنة والاحتلال ويكون أكثر صمودا ووقوفاً أيضا على قدميه ورأسه ملامساً عنان السماء وهو يرزح تحت وطأة الاحتلال وتعاقب الغزوات والحملات العثمانية والصليبية والفارسية المتعاقبة على اليمن ومقدراته والذي ولى إلى غير رجعة ومن ثم تولي عصر الأئمة والمماليك الذين جاءوا على إثرهم مباشرة ونصبوا أنفسهم كما أسلفنا حكاما وأئمة وأوصياء بالتعاقب والتقادم على اليمن وشعبه الصامد والعظيم والذي ضاق بهم وبأنظمتهم وجورهم ذرعاً ووقف لهم أبناؤه وأحراره ومناضلوه بالمرصاد وقاد ضدهم نوعا من حملات المقاومة المكثفة والتمرد والعصيان حتى بزغ فجر الـ26 من سبتمبر الأغر عام 62م الذي اندلعت فيه شرارة الثورة متوهجة ومتأججة في هذا اليوم التاريخي والفارق من تاريخ اليمن المعاصر الذي تغير فيه مجرى الزمان والمكان والإنسان وانتصرت في رحابه إرادة الشعب الذي كان متعطشا ومتلهفا لاستنشاق نسائم فجر الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة والمعاصرة وكان كما قال الشهيد الزبيري رحمه الله “يوم من الدهر لم تصنع اشعته شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا” وكان بالفعل يوما مشهودا واستثنائيا في حياة اليمنيين انبثق ألق فجره الوضّاء والمتألق بفضل همم وسواعد العظماء من الرجال والفتية الأوفياء والمؤمنون من خيره ما أنجبه وجاد به وطن الحكمة والإيمان الذين “صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا” وانتهاء بالثورة الشعبية الكبرى وغير المسبوقة في تاريخ اليمن المعاصر والتي نقتطف ثمار انتصاراتها الباهرة واليانعة اليوم والذي كان تواجدها وتوقيتها اضطراريا بل وحدثا وطنيا واستثنائيا أيضاً له دلالاته وخصوصياته وله دواعيه شكل تحولاً تاريخياً وايدلوجياً بالغ الأهمية في حياة اليمنيين، كان بمثابة البوصلة لتحديد مسار سفينة الزمان والمكان ورسم معالم خارطة الطريق نحو المستقبل والحياة المعاصرة، وقبل أن نتطرق ونخوض في مفردات وتفاصيل تلك المرحلة الانتقالية والجوهرية في حياة اليمنيين وحاضرهم ومستقبلهم ومؤشراتها يجب أولا الوقوف بعض الوقت أمام جملة من المؤشرات والأهداف الاستراتيجية والأولويات التي قامت من أجلها والتي كانت بمثابة عودة الروح إلى الجسد اليمني الذي كان في حالة احتضار ويكاد يلفظ أنفاسه نتيجة تدهور الأوضاع المؤسفة والمتسارعة التي عصفت بالبلاد خلال العقد المنصرم وأشاعت أجواء الفوضى والبلبلة والاضطرابات في أنحاء الوطن وشحت فيها أرزاق الناس الذين تقطعت بهم السبل وأصبحوا في الشتات وشعاب الجبال تحصدهم المجاعة وتفتك بهم الأمراض القاتلة الذين طحنتهم آلة الحرّة المدمرة كما طحنت واكتسحت في طريقها الأخضر واليابس فوق الأرض بدءاً من أحداث 2011م الذي تفجر فيها الموقف وسارت الأوضاع على إثرها من سيئ إلى أسوأ وانتهاء بنفس العام الذي اندلعت فيه ثورة الشباب أو ما كان يطلق عليها بالثورة الشعبية الكبرى والتي جاءت بعد أن كانت شوارع أمانة العاصمة وغيرها من المدن والمحافظات اليمنية الأخرى في حالة غليان متواصل نتيجة موجة القلاقل والاضطرابات التي كانت سائدة في أرجاء الوطن وخروج المواطنون بالملايين على إثرها مباشرة للميادين والساحات العامة في مظاهرات احتجاجية للإعراب عن استيائهم وتنديداتهم للفساد الذي كان مستشريا داخل الجهاز الإداري ومؤسسات الدولة وللمطالبة أيضاً بإدخال العديد من الاصلاحات الهيكلية في مختلف القطاعات الخدمية ومواقع العمل والإنتاج والمطالبة أيضاً بإسقاط النظام الذي كان قائما في ذلك الوقت واستئصال شأفة رموزه مما أدى أيضاً للإعلان عن حالة الطوارئ في أرجاء البلاد وإنشاء اللجان الشعبية والثورية تحت قيادة اللجنة الثورية العليا التي تشكلت فجأة بقيادة جماعات أنصار الله لإنقاذ الموقف وضبط الأوضاع التي كانت متدهورة في البلاد وتسير من سيئ إلى أسوأ والذي كان تواجدها على خشبة المسرح السياسي وفي هذا الوقت بالذات ضروريا واستثنائيا أيضا لضبط الأمن العام والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة وإعادة المياه التي كانت راكدة مجددا إلى مجراها الطبيعي والخروج من النفق المظلم التي كانت دلالاته ومؤشراته واضحة وملموسة على الأرض ونفوس الناس وتصرفاتهم السيئة والطائشة أيضا.
وقبل الخوض في تفاصيل ومفردات هذه المرحلة بالذات يجب أولاً الوقوف أمام جملة من المفارقات والأولويات التي واكبت كل مرحلة من مراحل مسيرة كفاح أبناء شعبنا على حدة خصوصاً مرحلة ما قبل وبعد الثورة السبتمبرية والذي يأتي في طليعة تلك الأولويات باعتبارها مرحلة تحولية ومصيرية لها أهميتها وتندرج من حيث المبدأ في طليعة مسيرة النضال الوطني الذي خاضه شعبنا بالدم وسويداء المهج على مدى قرون وحتى اليوم وما تلى تلك المرحلة من أحداث وتحولات ومؤامرات خارجية كانت في منتهى الخطورة والتي كان يقف لها شعبنا دائما بالمرصاد حتى تسنى للثورة والنظام الجمهوري الجديد الوقوف على قدميهما فوق أرض صلبة وقواعد سليمة وثابتة وارتفع علم الوطن خفاقا في سماء الوطن الكبير، لأن كل مرحلة من تلك المراحل لها خصوصياتها واهتماماتها وجديرة بالوقوف أمام مؤشراتها وثوابتها الوطنية والذي كان انتصارها انتصارا للحق والعدل والإرادة الوطنية والتخلص أيضا من كوابيس كل مظاهر العبث والفساد الذي كان سائداً ويقوم بممارسته والترويج له عادة حكومة الرياض بالتواطؤ مع حلفائها من المرتزقة وقوى المعارضة في الداخل التي كانت تبذل كل ما بوسعها لإسقاط الثورة اليمنية بين عشية وضحاها والتي تأتي حركة التمرد والعصيان التي أعلنها المنشق قاسم منصر وحفنة من القبائل المرتزقة جزءاً من تلك التدابير والمؤامرات المتعثرة والتي تعتبر من حيث التقييم والإحصاء أول انتفاضة وأول معارضة قبلية تتعرض لها الثورة والنظام الجمهوري الذي كان لا يزال في طور الإنشاء والتأسيس التي أعلنها منصر وحلفاؤه الذي كان مواليا للسعودية ويدين بالطاعة أيضا لبيت حميد الدين وأزلام النظام الذي كانت تربطه بهم في مؤتمر خمر التصالحي الذي عقد بين حكومتي صنعاء والرياض في إحدى المناطق الحدودية المحايدة والذي باء بالفشل نتيجة تعنت وسوء تصرف الطرف السعودي المشارك في المؤتمر الذي تزعمه في أعقابه مباشرة تمردا وانقلابا على الشرعية والدستور في البلاد كان ممولا ومدفوعا من حكومة الرياض ضد المشير السلال قائد الثورة والإطاحة بنظامه وتحريك الشارع اليمني أيضا للقيام بموجة من القلاقل والمظاهرات الاحتجاجية وأعمال التخريب لاستهداف كبار الشخصيات والقادة العسكريين ورجالات الدولة كذريعة للإعراب عن التنديد والشعور بالاستياء وعدم الارتياح لقيام الثورة وإسقاط نظام الأئمة وبيت حميد الدين في اليمن خصوصاً وأن الشعب اليمني والسواد الأعظم نتيجة العزلة التي كانت مفروضة وما كان يعانيه اليمنيون في الماضي من مظاهر التهميش والانغلاق لم يكن قد استوعب بعد فكرة الثورة والنظام الجمهوري جيداً والذين كانوا يعتبرونه نوعا من الأنظمة التكفيرية والشاذة التي تتلقى الأوامر والتعليمات عادة من بعض الأنظمة الماركسية والمتشددة في موسكو ودول حلف وارسو والمعسكر الاشتراكي مما أدى بالتالي إلى حدوث انقسام هائل في الشارع اليمني بين مؤيد للثورة والنهج الديمقراطي وبين معارض ورافض الفكرة من حيث المبدأ من أساسها.