دفاعا ً عن الهويـّة

أحمد الحبيشي

في تاريخ العالم المعاصر ارتبط حق تقرير المصير بإرادة الشعوب في الاستقلال لا عن الاستعمار بل عن هوية مفروضة عليها بالقوة في إطار دولة اتحادية متعددة القوميات والأعراق .. بيد أن الطريق الحاسم لبلوغ هذا الهدف كان يتم من خلال السعي للحصول على تأييد دولي ودعم أجنبي لهذا الحق .
في الحالة اليمنية المعاصرة عرفت بلادنا هذا الشعار في بدايات القرن العشرين أثناء المقاومة الوطنية للاحتلال العثماني وتأسيس المملكة المتوكلية اليمنية التي كانت أول دولة تحمل اسم اليمن ، وكذلك في أربعينيات القرن العشرين على يد الجمعية العدنية التي كانت تسعى للدفاع عن عروبة عدن والتحرر من هيمنة النخب والجاليات الأجنبية لدول الكومنولث على الوظائف الإدارية والفعاليات الاقتصادية والتجارية في المدينة .. لكن شعار عدن للعدنيين الذي جسد مفهوم الجمعية العدنية لحق تقرير المصير أخطأ الزمان والمكــان ، حيث جوبه بمعارضة مستعجلة من قبل الحركة الوطنية اليمنية التي كانت تطالب بالحق في الاستقلال عن الاستعمار، والحق في استعادة الهوية اليمنية المسلوبة ،لا بتقرير مصير عدن خارج هويتها الوطنية اليمنية!!
نجح الوطنيون اليمنيون ــ بفضل عدالة قضيتهم وصدق إيمانهم بحقيقة الوطن اليمني الواحــد ــ في إلحاق الهزيمة بشعار حق عدن في تقرير المصير ، والذي كان يراد له أن يكون مدخلاً لطمس هويتها اليمنية , ومنطلقاً لشعارات مماثلة لتقرير ” مصائر ” السلطنات والإمارات المتعاهدة مع الاستعمار البريطاني ، الهدف منها في نهاية المطاف هو سلب الهوية الوطنية اليمنية وتلفيق هويات بديلة زائفة !!
ثمة تاريخ طويل وزاخر بالمآثر الكفاحية العظيمة التي اجترحها السياسيون والمثقفون والأدباء والكتاب والفنانون والطلاَّب والعمال والمزارعون والتجار وعلماء الدين الوطنيون في مجرى الدفاع عن الهوية الوطنية اليمنية , والتطلع إلى محو و إلغاء الخارطة التي فرضها المستعمرون والأئمة والسلاطين , واستبدالها بخارطة الحلم الوطني التي رسمت معالمها ثورتا26 سبتمبر و 14 أكتوبر، وتتوّجت بانتزاع الاستقلال عام 1967م ، واستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م العظيم .
كان هذا التاريخ من صنع الشعب اليمني وطلائعه الوطنية ، ولم يكن موروثاً عن خرائط جيوسياسية من صنع إرادات دولية واتفاقات استعمارية.. أما الذين يراهنون كثيراً على ما تردده وسائل إعلام العدوان السعودي هذه الأيام حول مشاريع امبريالية لإعادة النظر في تلك الخرائط , فأنهم يخطئون في العنوان حين يتوهمون بأن اليمن يصلح لمثل هذه المشاريع .. لأن خارطة الجمهورية اليمنية الموحدة صـُـنعت في اليمن بإرادة الشعب اليمني الحرة , وعــُّـمدت بدماء الشهداء الأماجد من أبنائه الميـّـامين الذين ناضلوا في سبيل الحرية والاستقلال والوحدة .

حين يقرأ ويسمع المرء كلاماً منحطاً كهذا الذي تُطالعنا فيه بعض الأبواق المحسوبة على “اليسار القديم ” عبر فضائيات دول العدوان والاحتلال ، يدرك مدى السقوط السياسي والأخلاقي لهذا النمط من السياسيين الفاشلين في مستنقع اللاوعي ., واغترابهم عن الواقع والتاريخ ، وهروبهم المخزي من مواجهة الحقيقة .. إذْ يصعب على العقل الحي تعاطي شعارات مهترئة وأوهام مريضة بهدف إحياء أفكار خاسئة ومشاريع ميتة ولا تاريخية.
انه مرض التعلق بأوهام وطوباويات ماضوية تهدر البعد التاريخي للزمن , بإصرارها على العودة إلى كهوف السياسات القديمة المندثرة , والوهم بإمكانية إعادة تعريف الزمن من خلال إعادته إلى نقطة سابقة في تاريخ قديم , وإعادة الروح إلى العظام الرميمة لشعارات ميتة مثل شعار “اليمن الزيدي واليمن الشافعي” ، و ” عدن للعدنيين ” وشعار ” لحج فوق الجميع ” وشعار “حضرموت الكبرى ” , وغيرها من المشاريع التي حاولت الاختباء خلف شعار ” حق تقرير المصير ” , ثم انتهت إلى مزبلة التاريخ تحت ضربات كفاح الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة من اجل الحرية والاستقلال والوحدة .
حين يكون النظام القيمي هشاً , تكون مخرجاته من ذلك الطراز الذي تضيع فيه الحدود بين الثوابت والمتغيرات ، ويتحول من خلاله (اليسار القديم) إلى فرق وشيع وأجنحة تتبارى في التسابق على اغتيال المبادئ ، والإسراف في الفصل بين السياسة والأخلاق , وصولاً إلى العبث بالإنسان ، والتفريط بالثوابت والتضحية بالحقيقة ، وصولا إلى العدوان على الوطن والهويّة والتاريخ.

قد يعجبك ايضا