عدوان إلى متى ؟
أحمد الحبيشي
لعل أبرز ما تميّزت به احتفالات شعبنا بمرور عامين على الصمود في وجه الحرب العدوانية التي تقودها السعودية ضد بلادنا بمشاركة مباشرة وغير مباشرة من 17 دولة ، هو صدور حكم قضائي بإعدام الخائن عبدربه منصور هادي وعدد من أتباعه الخونة ، لدورهم في استدعاء جيوش العدوان والاحتلال ، وتغطية جرائمها بحق الشعب والوطن.
لا يمكن أن ينسى اليمنيون دور التدخلات السعودية في إغراق اليمن بالأفكار الوهّابية التكفيرية والحروب الداخلية والنزاعات الق بلية ، وسعيها لشق الصف الجمهوري وتنظيم المؤتمرات الانشقاقية في داخل اليمن والسعودية ابتدءا بمؤتمر خمر 1965م ومؤتمر الطائف 1966م، مرورا بالمصالحة مع الملكيين عام 1970م ، وانتهاءً بالمؤامرات التي استهدفت عرقلة بناء الدولة بعد قيام ثورة 26 سبتمبر والنظام الجمهوري عام 1962م، وقيامها باغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي عام 1977م بمسبب نزوعه للتمرد على مطالب السعودية بالتوقف عن تطوير الجيش وتعزيزه بأسلحة حديثة ، وتوجهاته لتحرير القرار الوطني من الارتهان للهيمنة السعودية.
كما واصلت السعودية بعد اغتيال الرئيس الحمدي تآمرها على الرئيس علي عبدالله صالح بعد وصوله إلى الحكم عام 1978م بمختلف الوسائل الداخلية والخارجية ، وصولا إلى دورها في إشعال حرب 1994م وحروب صعدة الستة ، وتخريب الوحدة الوطنية وتشويه صورتها بعد تلك الحروب.
ولا يمكن أن ينسى اليمنيون دور عبدربه منصور وعلي محسن الأحمر بالتنسيق مع الأوليغارشيات القبلية والدينية ومراكز القوى العسكرية ، في دعم ورعاية المجموعات الإرهابية والمتطرفة ورعايتها ميدانيا ، بعد كل تلك تلك الحروب ، وصولا إلى مشاركتهما في دعم جرائم العدوان السعودي على اليمن والمشاركة قي ارتكابها وتغطيتها !!
قبل العدوان السعودي على اليمن ، تعددت خلال الأعوام الأخيرة الجرائم الإرهابية التي طالت عددا كبيرا من المرافق الحيوية وأبراج الكهرباء وأنابيب النفط والمواقع العسكرية والأمنية ، وأودت بحياة عدد أكبر من الضباط والجنود وكوادر الدولة والمواطنين في مختلف المحافظات ، وسط غضب شعبي عارم ، قابله صمت مريب من النخب السياسية والحزبية الحاكمة خلال الفترة الماضية ، وعجز غير مسبوق من الحكومة الانتقالية الفاشلة و قيادات الأجهزة الأمنية والعسكرية والمحلية خلال حقبة الرئيس الهارب عبدربه منصور !!
يخطئ من يعتقد أن بلادنا وحدها هي التي تخوض حرباً مع الإرهاب الذي يمثله دواعش تنظيم (القاعدة) لأن المشهد السياسي والأمني والإعلامي الراهن في العالم العربي والإسلامي يشير إلى حروب ضارية ومتواصلة تخوضها مصر وسوريا وتونس والجزائر والعراق ولبنان وموريتانيا ونيجيريا والنيجر وباكستان ضد الإرهاب الذي تمارسه جماعات ضالة تريد فرض أفكارها ومعتقداتها السياسية بالعنف والسلاح، عبر تفجير المباني والمنشآت الثقافية، والاعتداء على منتسبي الأجهزة الأمنية وفرض أنماط سلفية متشددة ومنغلقة من السلوك على المجتمع، انطلاقا من ثقافة تكفيرية ضالة يعتقد ضحاياها بصواب ما يتلقونه من تفسير أحادي للشريعة الإسلامية على أيدي بعض شيوخ التطرف و التكفير الذين يوهمون أتباعهم الضالين بأن تلك الأفكار والمعتقدات تحظى بإجماع (جمهور علماء المسلمين)، الأمر الذي يستوجب استخدام القوة لمواجهة الطائفة الخارجة عن الطاعة والمفارقة للجماعة والممتنعة عن تطبيق الشريعة في الدولة والمجتمع، كشرط لتغيير المنكر وحراسة الدين بحسب تفكيرهم الضال .
المثقف الشمولي هو نتاج طبيعي للثقافة الشمولية التي تحصر نفسها ووظيفتها في نسق الأفكار لا في الوقائع، ثم تقفز فوق الواقع وتهمل تفاصيله وأحداثه.. بمعنى ان المثقف الشمولي هو الذي يستخدم الآيديولوجيا للقيام بوظيفة حراسة الأفكار.. والمعروف ان حراس الأفكار يفشلون على الدوام في سد جميع الثغرات التي تتسلل منها رياح التغيير التي تصيبهم بالذعر.
عندما يتمترس المثقف وراء أفكاره ويدعو إلى تطبيق نموذجه، يتحول بالضرورة إلى داعية يشرح أفكارا جاهزة ولا يفكر لكي ينتج أفكاراً جديدة.. ولذلك فإن الدعاة يخسرون دائماً المستقبل لأنهم يشتغلون على القولبة والنمذجة في واقع تتغير أنساقه ووجهات تطوره باستمرار، ويحتاج تبعاً لذلك إلى إعادة اكتشاف مفاعيله على نحو مستمر أيضاً.. أمّا صناعة الأفكار فهي صنو لصناعة الواقع.. والذين يعيدون باستمرار قراءة الواقع، يستطيعون تغيير وتطوير أفكارهم والمشاركة الفاعلة والمتجددة في عمليات التغيير التي تحدث في عالم الحقيقة الواقعي.. وبقدر ما تتغير طريقة التعاطي مع الأفكار، يتغير مفهوم المثقف للحقيقة التي تظل على الدوام نسبية ومتغيرة، ويصبح أكثر قدرة على المساهمة في إعادة صياغة الواقع و تغييره من جديد.
لا ريب في أن التطرف يحتاج إلى مواجهة بوسائل سياسية وثقافية وأمنية مختلفة.. وعندما يكون التطرف اشتغالاً في مجال الأفكار لا بد من مواجهته بوسائل النقد والحوار النقدي.. اما عندما يتحول إلى إرهاب دموي فلا يكون أمامنا من طريق آخر للتعامل معه سوى طريق إخضاع الجريمة الإرهابية ومرتكبيها الذين أفرزتهم ثقافة التطرف للقوة المشروعة.. أي قوة الدستور والقانون. .
إننا لم نتعرض في اليمن لعدوان سعودي أمريكي غادر مسنوداً بإرهاب مدمر فحسب.. بل لقمع متجسد في أفكار وهّابية متعصبة تغذي منابع الإرهاب وتصنعه.. وحين تتحول هذه الأفكار المتعصبة الى جرائم إرهابية يرتكبها بعض الجهلة من ضحايا التعبئة الخاطئة التي يمارسها حرّاس هذه الأفكار، ينهض القانون بوسائل سلطة الدولة لمواجهة الجريمة الارهابية المنظمة ومرتكبيها.. لكن ينبوع الجريمة لا يتوقف عن إعداد المزيد من المجرمين المزودين بأحزمة ناسفة، والتمهيد لجرائم إرهابية جديدة.
والحال أن سلطة الدولة لا تكون فاعلة خارج هذا السياق.. فهي لا تنفع لمواجهة سلطة الثقافة القائمة على التعصب والتطرف، الأمر الذي يستوجب نقد هذه الثقافة وتفكيكها، وهي عملية لا بد أن تتم بالأدوات الفكرية على أساس من الصراحة والعلنية والوضوح وعدم المداهنة.
تهدف هذه العملية إلى تفكيك العلاقة بين التعصب والقمع.. وفي تقديري أن العلاقة بينهما لا تختلف عن العلاقة بين السبب والنتيجة، فالتعصب يولّد القمع، والقمع يبقى مغلقاً في مدار التعصب.. وأخطر ما في هذه العلاقة هو قيامها على نهج إتباعي نقلي لثقافة تلح وتصر على ضرورة الإجماع وترفض الاختلاف ولا تعترف بالتنوع والتعدد والمغايرة، وتقرن الدخول إلى الفرقة الناجية بالخضوع المطلق لما يؤمن به أمير أو شيخ الجماعة.
وعندما يعتقد المتعصبون أنهم ينتمون إلى الفرقة الناجية، وأن من لا يشاركهم أفكارهم المتعصبة ينتمون إلى أهل البدع والرأي والشرك من الفرق الضالة التي يسري فيها الكفر بالله والمعصية للجماعة، يتحول التعصب تبعاً لذلك الاعتقاد إلى ثقافة تبرر قمع المختلف والمبتدع والسعي إلى استئصالهما، تطبيقاً لقول أبي إسحاق الشاطبي (إن الناجين من النار مأمورون بمقاومة أهل البدع والشرك والرأي والضلال، والتنكيل بهم وبمن أنحاش إلى جانبهم بالقتل وما دونه).
يذكرنا إصرار بعض النخب السياسية على البحث عن ذرائع لتبرير الجرائم الإرهابية التي ارتكبها المتطرفون في اليمن، بمواقف مماثلة لبعض الذين يحترفون ممارسة العمل السياسي تحت عباءة الدين في العالم العربي حين كانوا يسعون من خلال كتاباتهم في الصحف العربية، إلى البحث عن ذرائع لجرائم قتل المدنيين الأبرياء على أيدي الجماعات المتطرفة التي كانت ــ ولا تزال ـــ تبرر جرائمها ضد المدنيين الأبرياء بذريعة ما تسمى بأحكام قتال الطائفة الممتنعة، وبضمنها فكرة «التترس» الدخيلة على الإسلام، والتي تُجيز قتل المدنيين من الشيوخ والرجال والنساء والأطفال المتترس بهم من قبل الكفار في المدن والقرى والتجمعات السكنية والمصالح الحكومية التي تديرها الطائفة الممتنعة عن تطبيق الشريعة، والزعم بأن هؤلاء المدنيين سيبعثون يوم القيامة على نيّاتهم، فإن كان مسلما ذهب الى الجنة، وان كان كافراً أو مرتداً استقر في النار.
ومن المعروف ان هذه الفكرة التي لا يعترف بها رجال الدين المستنيرون والمؤسسات الإسلامية المعتبرة، انتشرت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، على تربة التزاوج الحاصل بين الأفكار المتطرفة للجماعات الجهادية الأفغانية والأفكار المتطرفة للجماعات التي خرجت من جبة الأخوان المسلمين والفكر الوهابي في الجزيرة العربية واليمن ودول الخليج و مصر وسوريا وشمال إفريقيا، ثم انتشرت في العالم العربي والإسلامي بعد عودة الأفغان العرب من أفغانستان إلى بلدانهم، وهي الفكرة نفسها التي أجاز بها شيوخ التكفيري في حزب التجمع اليمني للإصلاح ، اقتحام مدينة عدن في أسرع وقت ممكن حتى ولو تم «فتحها» على جثث سكانها المدنيين من الأطفال والشيوخ والنساء في فتواهم الشهيرة أثناء حرب 1994م!!
هكذا نكون أمام جرائم دموية ناتجة عن ثقافة قمعية ومتطرفة لا تعترف بالمغايرة أو الحوار أو نقد ما يُسمّى (إجماع جمهور العلماء) وهو إجماع لا يحتمله العقل، ولم يتحقق ولن يتحقق عبر التاريخ!!
يقيناً أن جرائم العدوان والحصار والإرهاب التي ألحقت باليمن أضراراً سياسية واقتصادية وأمنية وبيئية خطيرة ،تستلزم مواجهة شاملة كمهمة وطنية بالدرجة الأولى، ناهيك عن إخطار الإرهاب المباشرة على الأمن والسلم الدوليين..
ويبقى القول أن فشل العدوان في تحقيق أهدافه بعد عامين من الصمود البطولي لشعبنا ، يشير إلى دخوله مأزقا حادا على الرغم من أنه استخدم قوةً نارية كبيرة وأسلحة متطورة ومجرّمة دوليا ، تفوق ما تم استخدامه قي الحرب العالمية الثانية ، وما رافق ذلك من ارتكاب مجازر إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم معادية للإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي ، ولا تسقط بالتقادم.