*عبدالله النخلاني.. رحلة عشق مع المعرفة والقراءة:
محمد القعود
1
اعتاد صباح كل يوم أن يذهب إلى مقهى مدهش بميدان التحرير بصنعاء، ويرشف الشاي ويتجاذب أطراف الحديث مع أصدقائه ورواد المقهى من كبار السن والشباب.. وما هي إلا لحظات حتى يخرج من حقيبته أحد الكتب القديمة، أو مجلة أو صحيفة قديمة جداً، تلفت أنظار الحضور، وتجعلهم يتصفحون المحتويات والصور القديمة التي تعيد الجميع عشرات السنين الخوالي… وحين يبدأ النقاش تجده يذكر الوقائع والأحداث والمقولات والآراء والأفكار والمعلومات التي اختزنها عقله على مدار عقود من الزمن.. وتكتشف حينها أنك أمام أحد الرجال العشاق للمعرفة والقراءة والاطلاع، واقتناء الكتب والمجلات القديمة ، النفيسة والنادرة.. وتعجب أكثر عندما تعرف أن هذا الإنسان المفعم بالبساطة يملك مكتبة عامرة بالنفائس وأنه شق طريقه رغم الظروف الصعبة، وأنه استطاع أن يعلم نفسه بنفسه، وأن يواصل رحلة كفاحه مع الحياة، ومع عشقه الكبير، عشق المطالعة وحب المعرفة وصداقة الكتب والمجلات القديمة وأن يقصده الكثير من الباحثين والدارسين للاستفادة من مكتبته القديمة..
إنه الأستاذ والعم عبدالله علي النخلاني، الذي يبلغ من العمر 70 عاماً، والذي عمل لأكثر من ثلاثين عاماً في الخطوط الجوية اليمنية حتى تم إحالته إلى التقاعد.. ولكنه لم يتقاعد من القراءة ورفقة المعرفة وصحبة الكتب الرائعة، الصحبة التي لم يمل منها ولم يهجرها حتى اللحظة.
2
بدأ أول خطوة نحو عالم المعرفة والثقافة والمطالعة من “المعلامة” عند أحد الفقهاء حيث بدأ بالتعرف على الحروف والكلمات من خلال “الشخبطة” في لوح خشبي أسود ومن خلال خط الكلمات المبهمة على جدران البيوت، فعشقها قبل أن يعرف معانيها ودلالاتها.. مما جعله يصرّ على السير نحو عالم المعرفة وسحر الكلمات التي كانت تجذبه إليها وتدعوه للابحار نحو عوالمها المدهشة.
عشقه للمعرفة والاطلاع والتعلم دفعه إلى محاولة اقتناء أول قلم ودفتر في حياته ولو كان ذلك سيحرمه من رغيف الخبز ذات صباح غابر..
ففي ذلك الصباح.. كانت معدته تشكو الجوع، حيث اعطاه زوج شقيقته مبلغاً بسيطاً جداً عبارة عن “بقشتين” لكي يشتري خبزاً للفطور والغداء ولكنه سارع واشترى بذلك المبلغ قلماً ودفتراً من أحد دكاكين شارع باب موسى عام 1960م بمدينة تعز وحينما عرف زوج شقيقته بذلك شكاه إلى شقيقته التي عاتبته ولامته على تصرفه، الذي حرمه من الرغيف وجعله ينفق المبلغ في أمر لا فائدة منه، حسب رأيها..!!
ومع أول قلم ودفتر كانت بداية الخطوة التي خطاها عبدالله ذلك الطفل الذي أًصر قبل أكثر من خمسين عاماً على أن يلتحق بموكب النور والمعرفة والعلم ويهجر وإلى الأبد عالم الجهل والأميّة!!
وبكلمات مختصرة ومختزلة وعميقة يبوح ويسرد العم عبدالله رحلته مع المطالعة والكتب والتي تصل إلى خمسين عاماً.
يقول عن رحلته مع المطالعة: القراءة أول طريق للمعرفة.. ومن خلال القراءة المتواصلة عرفت مدى ما يقدمه الكتاب للإنسان من منفعة وتعلمت من خلال رحلتي الطويلة مع الكتاب أن هناك عوالم وأمكنة وأزمنة وأحداثاً وشخصيات كثيرة ومتعددة مدهشة وغريبة ومفيدة لها حضورها وأهميتها في مسيرة الحياة.. إنها رحلة ممتعة .. رحلة لا مثيل لها ولا نهاية لها.. إنها رحلة المعرفة التي لا تنتهي.
ويشير العم عبدالله إلى أن هناك الكثير من الكتب التي لها مكانة في وجدانه والتي تأثر بها، ومنها كتاب “الملوك” للرحالة العربي أمين الريحاني الذي أدهشه بأسلوبه وتعبيره إلى جانب الكثير من الكتب والإصدارات الثقافية القديمة التي كانت تقدم كل ما يفيد القارئ ويضيف إلى رصيده المعرفي الكثير والكثير.
ويقول إنه ما إن بدأ يتعلم أسرار الكلمات ومعاينها ويلم بأولى ابجديات القراءة والكتابة حتى انتابته رغبة شديدة للحصول على أول كتاب في حياته.. ولكن كيف يتم له ذلك الأمر وهو مازال فتى يعمل في “سوق الشنيني الشعبي بتعز” كعامل بسيط وبأجر زهيد مما كان يجعله يصاب بالإحباط والكآبة..؟!
لكن تلك الرغبة دفعته إلى الخروج عن طوره والإقدام على عمل لم يكن يتوقع أبداً إن يعمله.. لقد رأى أحد الكتب في أحد دكاكين السوق فقام تحت إغواء المعرفة بسرقة ذلك الكتاب وضمه بكل شوق إلى صدره.. أنه أول كتاب في حياته.. وأول إبحار له فوق سطوره الموَّاجة بالمعاني والكلمات المعبرة، وأول قراءة لكتاب في حياته.
هذا الكتاب كان عن الرئيس الأمريكي جورج واشنطن ومع الكتاب الأول كانت أول حالة حزن يسببها له الكتاب بسبب القراءة..!!
ويقول الأستاذ عبدالله: عندما قرأت هذا الكتاب وجدت أن جورج واشنطن كان متأثراً لحالة جنوده الذين كانوا يمشون حفاة ويلفِّون أقدامهم بأوراق الأشجار بدلاً من الأحذية.. ذلك المنظر في صباي جعلني أحزن؟!
ومع الحزن كانت أول رحلة له مع الكتاب الذي امتلكه لأول مرة في حياته ولكنها كانت حالة حزن مؤقتة .. سرعان ما تبددت مع بهجة القراءة والمطالعة والمعرفة وآفاقها الشاسعة..!!
ولأن الكتب في ذلك الوقت كانت نادرة كان يبذل الجهد المضني من أجل الحصول عليها وعلى المطبوعات وخاصة المصرية التي كانت تصل إلى اليمن ومعظمها كان يصل بصورة سرية وكان القارئ اليمني يجد صعوبة في الحصول عليها.. ويقول العم عبدالله إنه في البداية كان يحاول أن يقلد الآخرين في شراء واقتناء الكتب رغم الصعوبة والظروف التي كانت تواجهه وتحول دون اقتناء العديد منها ثم صارت عادة مزمنة لديه وصارت عادة ليس لتقليد الآخرين بل للاطلاع والاستفادة منها والنهل من ينابيعها العذبة التي جعلته يفهم كل ما حوله وكل ما يحتويه هذا الكون.
3
قادته رحلته مع الكتاب إلى معرفة المعاني النبيلة للوطن .. وكيف يكون حب الإنسان لوطنه، ولذلك سارع إلى الالتحاق بالحرس الوطني والدفاع عن ثورة 26 سبتمبر الخالدة، حيث توجه مع زملائه إلى منطقة حرض “قفل حرض” حيث خدم في خنادق البطولة والشرف هناك .. وعندما تم حصار العاصمة صنعاء في أواخر الستينيات كان من ضمن المدافعين وأحد أفراد المقاومة الذين هبوا للدفاع عن عاصمة الثورة والجمهورية.
العم عبدالله النخلاني أصبح يملك في منزله مكتبة كبيرة تضم الكثير من الكتب والإصدارات الثقافية والصحفية واغلبها قديمة جداً ونادرة يطل التاريخ المعاصر لليمن والعالم من بين صفحاتها.. إنها مكتبة نفيسة ووثائقية وتعد مرجعاً هاماً للباحثين والمهتمين ومنظمة بصورة رائعة تجعل من يطلع عليها يعجب بهذا الإنسان الذي استطاع أن يحتفظ بمكتبة هامة ورائعة ونفيسة معظم محتوياتها لا توجد لدى أي جهة ثقافية مهتمة.
إنها مكتبة تم جمعها وتزويدها بكل نفيس ونادر على مدى عشرات السنين .. وتعد بحقٍ ارشيفاً ثقافياً ووطنياً وتاريخياً، وارشيفاً نادراً لعشرات الإصدارات المختلفة والتي صدرت منذ عشرات السنين.
4
يقول عن بعض محتويات مكتبته: في مكتبتي أقسام خاصة للمجلات العربية القديمة المختلفة اليمنية والعربية والتي صدرت منذ أوائل القرن الماضي وحتى السبعينيات منه، والتي ظللت أقتني الكثير منها من مصادر خاصة أو من هواة المطالعة القدماء ويصعب حصرها الآن لكثرتها وتنوعها بالإضافة طبعاً إلى الكتب القديمة والنادرةبالإضافة إلى العديد من الاسطوانات الفنية القديمة لمجموعة من الفنانين اليمنيين القدماء والصور الفوتوغرافية للكثير من المعالم والشخصيات اليمنية.
ويرى العم عبدالله أن زمان كان العصر الذهبي للكتب والصحف، وذلك لأنها كانت جادة وتحمل مضامينها الفائدة والثقافة والإبداع الحقيقي وليس لها هدف سوى نشر الثقافة والمعرفة، أما معظم كتب اليوم وصحفه، فلا تهدف سوى إلى البحث عن الكسب المادي، ونشر كل ما هو غث وغير مفيد للقارئ والمجتمع.. ومع ذلك يؤكد أنه ما يزال هناك الكثير من الكتب والإصدارات التي تحاول احترام القارئ وعقله وتحاول أن تصمد في وجه ذلك النوع الرديء من الإصدارات البرّاقة.
تصوير/حامد فؤاد