مصر والسعودية.. فشل الحلول الوسط والوقوف على حافة الصدام

 

إسلام أبو العز •

انتقلت العلاقات المصرية- السعودية في منحنى هبوطها البادئ منذ بداية 2015 إلى حافة الصدام. فمؤشر العلاقات الذي بدا وقتها أنه بسبب خلافات يمكن معالجتها سريعاً ومعظمها متعلق بمواقف متباينة تجاه طرف ثالث، سرعان ما اتضح أنها في قلب مصالح متعارضة لكل من البلدين، حيث إرادت المملكة اختزال مصر في خانة التابع للقرار السياسي السعودي الخارجي لتحقيق مصلحتها، نظير استمرار الدعم السعودي للقاهرة، والذي أصبح دعماً مشروطاً منذ تولي الملك سلمان.
وعلى أن الطرفين طيلة العام الماضي لم يريدا الوصول إلى الصدام حول رؤيتهما المتباينة تجاه مختلف ملفات المنطقة، وخاصة أن الرياض سارت نحو مزيد من التورط في الإخفاق المزمن خاصة في اليمن وسوريا، في ظل ظرف عالمي يميل عكس مصلحتها وعلى رأسه الفتور بينها وبين واشنطن، الذي دخل في الشهر الماضي بعد انتخاب دونالد ترامب إلى مربع الأزمة بالنسبة للمملكة، فيما مثل هذا الظرف بما فيه التغيرات في الداخل الأمريكي فرصة للقاهرة لتحسين واستثمار موقف يستعيد ثقل وثقة اهتزت بعد 2011م، وتصدعت في 2013م. وبالتالي كان حد الأمان بالنسبة للبلدين هو الوقوف على أرضية مشتركة تجاه الملفات الإقليمية مع الحفاظ من جانب مصر على خصوصية موقف فرضتها وقائع وثوابت أبرزها الأمن القومي، وعلاقة ذلك بحرب اليمن والحرب في سوريا، وقبل ذلك الحفاظ على شرعية النظام الجديد المستمدة من الإطاحة بحكم الإخوان، الذين رأت فيهم الرياض منذ تولي سلمان ونجله مقاليد الحكم والقرار أن التحالف معهم ومع الدول الراعية لهم أفضل من الصدام كما حدث إبان عهد الملك السابق، عبدالله بن عبد العزيز، وذلك لأن الاصطفاف الطائفي الذي يشكل العمود الفقري لسياسة السعودية الخارجية مؤخراً، يفرض واقعاً تغلب فيه الطائفية على منطق السياسة، حيث أصبحت الطائفية هي المحرك وكل دوافع “السياسة” السعودية، ولذلك كان في صراع الرياض مع طهران أولوية تغليب اللامنطق الطائفي على المنطق السياسي، وليس استخدام الأول كأداة من ضمن أدوات السياسة.
هذا الأمر بشكل غير مباشر كان له مردود فعل سلبي على النظام المصري، الذي أصبح في خانة رد الفعل و”الامتنان” للمساعدات السعودية طيلة 2015، ووجد نفسه في تحالف غير مباشر مع ألد خصومه الإقليميين في تحالف “عاصفة الحزم”، ومطالب أن يعقد مصالحة مع من كانت الإطاحة بهم سبب رئيسي لشرعيته، بل أن الأمر وصل إلى إصرار سعودي لتذيل القاهرة لموقف الرياض في مختلف القضايا في المنطقة، والتعدي على الدور المصري التقليدي حتى في إدارة العلاقات “العربية” مع إسرائيل، أي علاقة تبعية لا تحالف أو حتى شراكة. أضف على هذا كله أن السعودية أصبح دعمها للقاهرة منذ بداية 2015م مشروطاً بسبب ظروف ذاتية وموضوعية قلصت “المال السياسي” السعودي، والذي يعد أبرز أدوات سياسة المملكة الخارجية، وتراكم إخفاقات نتجت عن عشوائية وارتجال طيلة العامين الماضيين، وبالتالي فإنه من جهة أخرى بخلاف التباين بين البلدين تجاه بعض الملفات والقضايا الخارجية، والتماس السلبي لتحقيق مصلحة أحدهم –السعودية- على حساب الآخر، فإن القاهرة وجدت أن التماهي التام مع ما يمكن أن يطلق عليه مجازاً “السياسات السعودية” لن يكون سوى تخريب لأي احتمال مستقبلي في استقرار داخلي وخارجي، وخاصة أن الرياح الدولية تأتي على عكس ما تشتهيه سفن المملكة، وأن المقابل الذي تطلبه الرياض نظير دعمها المادي “المشروط” للقاهرة يكلف أكثر مما يستحق، وبالتجربة أيضاً أدى استرضاء المملكة من جانب مصر إلى مفاقمة أزمات داخلية للنظام كان في غنى عنها، مثل أزمة تيران وصنافير؛ فاتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين إبان زيارة سلمان في أبريل من العام الجاري لم تكن سوى محاولة ترضية ووقف على حل وسط بين البلدين بعد عام كامل من التباين بينهم بدأ بتولي الأخير للحكم هناك.
المستجد على مسار العلاقات بين مصر والسعودية هذا العام هو انحدار منحنى التباين من خلاف تجاه رؤية كل من البلدين تجاه قضية خارجية، إلى الإضرار بمصالح وأمن أحدهما –مصر- من جانب الآخر، سواء اجتراح الرياض لأوراق ضغط على القاهرة لاستعجال موقف خارجي يبدأ من التأييد والتماهي في القنوات الخارجية والدبلوماسية، وصولاً لإرسال قوات مصرية تحارب في معارك المملكة في اليمن أو سوريا على عكس المصلحة ومقتضيات الأمن القومي المصري! وهو الأمر غير المنطقي الذي وضعته الرياض في معادلة صفرية شبيهة بوجوب معادلة التصالح مع الجماعة التي كانت الإطاحة بها سبب شرعية النظام الحالي الرئيسي.
هذا المتغير المستجد على العلاقة بين البلدين تجلى في تسارع وتيرة الوصول لحد التصادم، بداية من تملص السعودية من مساعدتها الاقتصادية لمصر، والتحجج ببعض الأمور مثل تصويت مصر لصالح المشروع الروسي في مجلس الأمن في سبتمبر الماضي، وقطع الإمدادات البترولية، إلى الانتقاد العلني وحتى السخرية من جانب شخصيات سياسية سعودية لرموز الحكم في مصر وعلى رأسها عبد الفتاح السيسي، وصولاً إلى إيجاد فجوة جعلت التوسط للقاء يجمع الملك والرئيس في الإمارات بداية الشهر الماضي أمراً في غاية الصعوبة.
في سياق أعم، شكلت متغيرات كثيرة في المنطقة والعالم على مؤشر توتر العلاقات بين مصر والسعودية، بداية من الانكفاء السعودي في اليمن وسوريا، مروراً بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني، وأخيراً فوز المرشح المناوئ للمملكة، دونالد ترامب، برئاسة الولايات المتحدة، وذلك في توقيت حرج يشهد ذروة تأزم العلاقات بين واشنطن والرياض منذ نشأة الأخيرة، ليس فقط لعدم ضبط التوافق بين البلدين فيما يخص سياسات واشنطن في المنطقة، ولكن بشكل أعقد وعلى مستوى ثنائي متمثل في تصاعد معارضة الغطاء السياسي الذي كفلته واشنطن على مدار العقود الماضية للسعودية، كونها دولة راعية للإرهاب ومتورطة بشكل أو بآخر في استهداف أمريكيين في الداخل والخارج، وصولاً إلى تشريع قانون يتيح محاكمة الحكومة السعودية وأمراء آل سعود في تهم متعلقة بالإرهاب وهجمات 11 سبتمبر. ليأتي ترامب ويضع في أولوياته إنهاء سياسة التحالف بين البلدين على أساس تأمين الحماية والقوة العسكرية والسياسية للمملكة نظير تأمين السعودية النفط الرخيص للولايات المتحدة.
هذه المتغيرات السابقة أفضت إلى تفاقم التباين بين القاهرة والرياض إلى حد الخلاف العلني والأزمة السياسية بين البلدين، فالأولى التي اعتمدت سياسة عدم التصعيد والوقوف على حلول وسط –حتى وإن أدت إلى التنازل عن أراض مصرية للمملكة- بدا لها مؤخراً أن الأخيرة لن ترضى إلا بمعادلة تبعية كاملة من جانب مصر نظير المساعدات المالية واستمرارها، وليست فقط تبعية أو تذيل الموقف المصري للسياسة السعودية تجاه ملف بعينه مثل اليمن أو سوريا، ولكن إجبار القاهرة على اصطفاف إقليمي يضم الدوحة وأنقرة يعمل في بعض مفاعيله ضد مصلحة القاهرة وبموافقة ورضا “الحليف” السعودي.
ويمتد الأمر السابق إلى محاولة سعودية لتقييد التحركات الخارجية المصرية على مستوى العلاقات الثنائية بينها وبين دول كبرى مثل روسيا والولايات المتحدة وفق أجندة وأولويات سعودية أرادت إرجاء هذه التحركات المصرية ورهنها بتبعية القاهرة للقرار السعودي أمام موسكو وواشنطن، بما في ذلك العلاقات العسكرية بين القاهرة وموسكو، حيث جاءت الأزمة الأخيرة المتعلقة بوقف إمدادات الوقود نتيجة لتوسيع التعاون العسكري بين مصر وروسيا تحت عنوان مناورات “حماة الصداقة”، والتي عولت الرياض على “منح” مثل هذه الامتيازات لروسيا في المنطقة مستقبلاً إذا ما تساهل الكرملين مع ما تريده المملكة في سوريا، كرسالة بأن الموقف الإقليمي “العربي” بما فيه الموقف المصري لا يخرج عن طوع الرياض وبوصلة اتجاهاتها. فيما لوحت السعودية إزاء التصعيد الأمريكي بمختلف درجاته ضدها بنفس ورقة “الاصطفاف العربي” خلف السعودية، دون اعتبار لمصلحة أي من المصطفين خلفها بما فيهم مصر، التي اقتنعت مؤخراً بأن المملكة لا تريد تحالفاً أو شراكة أو اصطفافاً وتفاهماً إزاء ملف أو أكثر، ولكن تبعية شاملة تتخلى فيها القاهرة حتى عن ما كانت تضطلع به كدور إقليمي تقليدي، مثل القضية الفلسطينية والعلاقات العربية مع إسرائيل، وصولاً إلى التدخل الصارخ في الشأن الداخلي المصري وعمل مؤسساته مثل الأزهر والإعلام، وقبل ذلك محاولة إحراج النظام شعبياً بوقف إمدادات الوقود في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية، وأخيراً إحياء أو تفعيل ما كان ولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع ونجل الملك، محمد بن سلمان، يسعى إليه حتى قبل وفاة الملك عبدالله وتولي والده، والمتمثل في اضطلاع المملكة في دعم معارضة مصرية وتنظيم صفوفها، مكونة من إخوان الخارج وبعض الوجوه الليبرالبية المحسوبة على نظام الإخوان.
ويتبقى الاحتمال الأقرب في العام القادم متعلقاً بمدى استمرار انتهاج كل من مصر والسعودية للسياسات السابقة، وارتهان ذلك في مداه المتوسط والقريب، وكذلك وفاعليته بموقف الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه الرياض، والتي إذا ما كانت سلبية وتصعيدية فإن حاجة الرياض للقاهرة ستكون أولوية مُلحة وعاجلة وفاعلة أكثر من حاجة الرياض لأنقرة أو الدوحة في إدارة الملفات الإقليمية وعلى رأسها الملف السوري واليمني، ومن ناحية أخرى فإن القاهرة يبدو أنها أدركت مؤخراً أن في صالحها التعويل على تصفية الأزمة بينها وبين الرياض -للعودة إلى معادلة الشراكة والتحالف لا التبعية والتذيل التي أرادت الأخيرة فرضها منذ تولي الملك سلمان- مرة واحدة وبدون انتكاسة جديدة وآثار جانبية ضارة في الداخل والخارج، مثلما حدث بعد زيارة سلمان في إبريل الماضي، وذلك من خلال تسويف حلحلة الأزمة بينهم في انتظار ما ستقدم الإدارة الأمريكية الجديدة حيال السعودية، والمتوقع بنسبة كبيرة أن يكون سلبياً لدرجة غير مسبوقة، مما سيجعل المملكة تتخلى عن إصرار تبعية القاهرة لها، والاقتناع أخيراً بأن النظام الحالي في مصر لن يكون له بديل في الداخل أو في الخارج يقدم أفضل مما قدم للسعودية مستقبلاً في ظل إدارة ترامب وفي ظل انكفاء استراتيجية السعودية في المنطقة.
• كاتب صحفي مصري “البديل”

قد يعجبك ايضا