بن جدو و”الجزيرة” !!؟
أحمد يحيى الديلمي
يُحسب للإعلامي العروبي القدير الأستاذ غسان بن جدو رئيس مجلس إدارة مؤسسة الميادين الإعلامية أنه أول من رفع الجرس في عنق قناة الجزيرة القطرية وأفصح عن الشُبهات التي تحيط بأدائها ، وتُصبغ خطابها بالتذاكي والاحتيال والتلاعب بمفردات وألفاظ اللغة لتنميق الصورة وتسويق الشعارات وصياغة الأخبار بديناميكية استخبارتية تقدم القناة للمتلقي العربي بأنها الخندق الأول لتبني قضايا الأمة والدفاع عنها ورمز من رموز التنوير في العالم العربي .
كان عدد من الكوادر قد غادروا القناة في زمن مبكر منهم من التحق بقنوات أخرى وآخرين استقالوا أو عادوا للعمل في استديو القناة بلندن مسقط رأس القناة الحقيقي ، المهم أن الجميع تركوا القناة من دون الإفصاح عن الأسباب أو الإشارة إليها باستحياء ، هذا الأمر اختلف مع الأستاذ غسان فلقد وضح أسباب الابتعاد عن القناة لأنه عمل فيها سنوات بإخلاص وأمانة ملتزماً بقيم الأمة ونهجها القومي الرافض لبقاء الكيان الصهيوني في خاصرتها ، فكان أداؤه مخالفاً تماماً لمن التحقوا بالقناة عبر حركة الإخوان المسلمين ، فلقد اتسمت برامجهم بالإثارة والإمعان في جلد الذات وإحياء النعرات الطائفية والانقسامات المذهبية مع تلميع أي نظام له صلة بحركة الإخوان المسلمين كما حدث مع اوردغان رئيس تركيا الحالي ، فلقد بادرت الجزيرة إلى تلميعه وتمجيد تجربة حزب العدالة والتنمية قبل وصول الرجل إلى رئاسة الحكومة، حدث نفس الأمر مع مصر في فترة حكم الإخوان المسلمين بعد أن نالت الحركة رضا أمريكا وأصبحت البديل المقبول الموافق على تحجيم القضية الفلسطينية وتقريب وجهة النظر مع دولة الكيان الصهيوني وصولاً إلى مرحلة التطبيع .
بهذا التوجه دشنت الجزيرة القناة مرحلة جديدة اقتضت تبادل الأدوار بين الحكومات والأشخاص ، مهدت الطريق لفرض قوة حضور حركة الإخوان المسلمين بعد أن تبنت الوهابية فكانت المؤهلة لسد الفراغ في الساحة بعد أن تمادت الحكومات في قمع القوى السياسية الأخرى وغياب الفكر الديني الصحيح. ولأن الحركة قلدت التوجه الوهابي في الاعتصام باحتكار الحقيقة وتكفير الحكام والمواطنين غير المعتنقين لفكر الجماعة والمذهب ، فلقد وجدت المناخ المناسب للتواجد وقوة الحضور .
المهم أن الأستاذ غسان كانت لديه الشجاعة الكافية لإعلان أسباب الابتعاد وتوجيه الانتقادات للأساليب الملتوية التي تتبعها القناة للترويج لفكرة الاعتدال والرفض المطلق لقوى الممانعة المتخندقة في صفوف مقاومة العدو الصهيوني . الموقف ذاته توقعت أن يُقدم عليه الأستاذ غسان في أول لقاء جمعني به بفندق موفمبيك صنعاء ، كانت المناسبة انعقاد مؤتمر الديمقراطيات في الدول الناشئة ، الفكرة ولدت من رحم ما سُمي حينها بتحالف دعم الديمقراطيات الناشئة ، وعُقد المؤتمر تحت مظلة الأمم المتحدة وبرعاية مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية وقد رافقت الحدث زفة إعلامية كبيرة حظيت باهتمام دولي مثير مقابل صمت وامتعاض بعض دول المنطقة وفي المقدمة السعودية .
وبعض الساسة المحليين والعرب الرافضين لمبدأ الحوار والتطبيع مع الكيان الصهيوني التقوا مع السعودية في تجاهل الحدث بمبرر آخر رأى أن التظاهرة مجرد زفة وموكب جنائزي هدفه إحداث شرخ في جدار الرفض المطلق للتطبيع مع الكيان الصهيوني لتشييع قيم وشعارات المقاطعة وكل أنواع الصمود والمقاومة واستقطاب المثقفين والسياسيين العرب لتجاهل فكرة عزل ومقاطعة هذا الكيان والانصياع لمسمى الواقعية السياسية .
أتحفنا بهذا الكلام مفكر عربي شارك في التظاهرة ، حيث قال : “الحوار مع اليهود لا يعتبر تطبيعاً ، التطبيع يعني التبادل التجاري والأخذ والعطاء أما الحوار فهو ضروري حتى مع الأعداء ، بالذات بعد أن ثبت للكثيرين عدم جدوى الاستمرار في الصراع . التمادي يعني الاستمرار في حرب أبدية لا نهاية لها .
“وطالما أنه يمكن حل هذا الصراع عن طريق العقل والحوار المتوازن الندي وهنا تأتي أهمية انعقاد مثل هذه التظاهرات الحوارية بدلاً عن التخندق في المتارس وتبادل الشعارات والشتائم .
“يجب أن نسلم بأن إسرائيل حقيقة وكيان وجد ليبقى ، وأصبحت واقعاً لابد من الاعتراف بوجوده شئنا أم أبينا ، وعلى المفكر العربي أن يتحرر من الوهم والشطحات العقيمة التي وعدت بأن تُلقي بإسرائيل في البحر ، بعد ستة عقود لم يحدث شيء ، كلما تعالت الشطحات شجعت إسرائيل على التوسع والاستيطان والإمعان في تهويد الأرض .. التمسك بخيار القوة يخدم ما تروجه الصهيونية العالمية التي تظهر العربي في شكل إنسان متوحش متربص باليهود يريد الفتك باليهود بخلفية دينية” .
تعالت أصوات عدد من الصحفيين ممن كانوا في بهو الفندق بالضجيج والاحتجاج ، ثم سكت الجميع عندما تحدث الأستاذ غسان بن جدو بكلمات قصيرة وفق بين الآراء فبدأ في كامل رجاحة العقل عربي التوجه قومي الهوى.. لم يفته مجاملة اليمن البلد المضيف والبلدان المشاركة فقال:” مؤتمر صنعاء تظاهرة عالمية إيجابية يعني تضييق الهوة بين المواطن ومراكز صنع القرار لتشجيع الجميع على المزيد من الممارسة الديمقراطية”.
من تلك اللحظة أيقنت أن الرجل سيغادر قناة الجزيرة وهو ما حدث فعلاً ، فقد رفض الصمت والقناة تمارس ما يشبه العهر السياسي في التآمر على قضايا الأمة ، وفي المقدمة قضية الشعب الفلسطيني ومحور الممانعة والمقاومة فكان تخليه في اللحظة المناسبة إذ كان البديل قناة الميادين بما هي عليه من المصداقية والانحياز التام إلى قضايا الأمة وكل المظلومين في هذا العالم .
أخيراً أقول، الناس بحاجة إلى من يعبر عن أحلامهم المستحيلة ورغباتهم المكبوتة لكي يمارسوا ديمقراطية مطلقة في اختيار القناة و المذيع بحرية تامة محتمين بجدران منازلهم التي تمنع التصنت لتلقي المعلومة بعيداً عن الاستغفال والتضليل والحسابات الضيقة ، من دون الحاجة إلى قنوات التوصيل الموجهة التي أفسدت الحياة والذوق . لمراعاة إرادة المتلقي واحترام مشاعره نحن بحاجة إلى خطاب شفاف صادق للحفاظ على وحدة العقل باعتباره جزءاً من الأمن القومي بمفهومه الواسع .
التحية للأستاذ غسان، وتحية لكافة القنوات التي تحترم عقل الإنسان وتخاطبه بصدق وتجرد وموضوعية .. والله من وراء القصد ..