عرض/ خليل المعلمي
كانت اليمن وستظل محل أنظار العالم من الشرق أو الغرب، قصدها علماء الآثار والباحثون والرحالة والمغامرون من جميع بقاع العالم للتعرف على مكنونات هذا البلد الفريد والتعرف على حضارته وعاداته وتقاليده وتاريخه العريق، تنقلوا بين مناطق مختلفة من عدن إلى حضرموت ومن المخا إلى صنعاء ومارب، وخرجوا برؤى ودراسات انتربولوجية وتاريخية وكتبوا عن هذا البلد في مجالات عدة.
لقد سعى الكاتب والناقد هشام علي بن علي في جمع عدد من الدراسات والقراءات التي تبحث في صورة اليمن كما رآها هؤلاء المستشرقون والباحثون وقدم لنا قراءة في هذه الكتابات في كتاب اختار له الاسم “رؤية اليمن.. قراءة في الكتابات الاستشراقية والانتربولوجية”، تضمن ثمانية أجزاء ومقدمة.
دراسات الاستشراق
حاول الناقد هشام علي في هذا الكتاب التعرض لعدد من الكتب الغربية التي تناولت اليمن أو قدمت رؤية لليمن من خلال الرحلات والمذكرات أو دراسات الاستشراق والانتربولوجيا وقد قصر اهتمامه على الدراسات الحديثة، خاصة ما يتعلق بالانتربولوجيا والاستشراق، أي الكتابات التي تخلصت من كثير من منهجيات الاستشراق والتقليدي وعيوب الانتربولوجيا السابقة التي كانت تعتبر الآخر غير الأوروبي بدائياً بربرياً وتقيم خطابها على هذا الأساس.
اليمن كما يراه الآخر
يشير المؤلف في هذا الجزء من الكتاب إلى أسماء كثيرة جاءت إلى اليمن أو عبرت اليمن نحو بلاد أخرى، كتب بعضهم عنها في مذكراته أو أبحاثه، وحمل بعضهم بعضاً من آثارها أو نقوشها إلى بلدانهم، وحفظ آخرون في الذاكرة تفاصيل رحلة أسطورية، قام آخرون بوصف بلاد اليمن ورسموا مشاهد لمدنها وقراها، وفي زمن السينما حمل المخرج العالمي بازوليني كاميرا التصوير إلى اليمن حيث عوالم ألف ليلة وليلة السحرية وكتب في دفتر ملاحظاته كثيراً من الرؤى الشعرية عن هذه المدن العابرة للزمن.
وفتح اتجاهاً لقراءة الكتابات الانتربولوجية عن اليمن خاصة الحديثة منها في فترة ما بعد الاستعمار، حيث بدأ يعيد التفكير في قضية معرفة الآخر ويبحث عن طريقة مختلفة في التعبير عنها، طريقة تتحرر من الماضي الاستعماري والمركزية الغربية والهيمنة.
وقدم المؤلف قراءة لإحدى الكتب التي تم ترجمتها وإصدارها تحت عنوان “اليمن كما يراه الآخر” ،ألفته الباحثة “لوسين تامينيان” وهي أمريكية الجنسية أردنية الأصل، وأوضح أن ما يلفت الانتباه فيه هو الطابع التجزيئي الذي يغلب على كثير من الدراسات المجموعة فيه، فهي في غالبها فصول أو أجزاء من كتب أو بحوث مطولة.
واستعرض المؤلف المقالات التي احتوى عليها الكتاب موضحاً أن محررة الكتاب قامت بعزل ما هو تاريخي وسياسي في هذه الدراسة وحولت الانتربولوجيا إلى استعراض افقي للمجتمع الحضرمي، جردت هذا الانقسام المجتمعي من بعده التاريخي ودور علاقات القوى في المجتمع وحولت الرأسمال الرمزي لفئة السادة إلى مفهوم مطلق، رغم اهتزازه حين انتقل الحضارم إلى مجتمع آخر في أندونيسيا.
وأضاف أنه من خلال هذه الدراسات يتضح صحة الإشارة إلى قدرة القبيلة على إعادة إنتاج نفسها وإعادة تشكيل الوعي القبلي والعمل على استمراره في فضاءات أخرى متخفية مثل النشاط السياسي أو التجاري أو الصراعات العقارية وغيرها.
تمثيل الذات وتمثيل الآخر
في هذا الجزء يضعنا المؤلف أمام رؤيتين لليمن الأولى تندرج ضمن تمثيلات الذات والثانية تقع في سياق تمثيلات الآخر، حيث وضعت أمام نسقين ثقافيين مختلفين ينتمي الأول إلى اليمن فيما ينتمي الثاني إلى الآخر الأجنبي.
ويقول المؤلف: في تصديره لكتاب “رؤية اليمن بين حبشوش وهاليفي” يحدد الأستاذ يحيى علي الإرياني أوجه الاختلاف بين رؤيتين، رؤية اليهودي اليمني حاييم حبشوش ورؤية جوزيف هاليفي اليهودي الفرنسي رغم اتفاق الاثنان في الانتماء للديانة اليهودية، إلا أن رؤية هاليفي تقع في سياق تمثيلات الآخر وترتهن لقناعة مسبقة ومنحازة ضد ما هو عربي وإسلامي، ويبدو انحياز الارياني واضحاً إلى جانب تقرير حبشوش الذي يجده متوهجاً بالموضوعية والصدق بينما يقع تقرير هاليفي في الزيف والخداع، ولم يكن انتماء الرجلين إلى ديانة واحدة كافياً لردم الاختلاف بين الرؤيتين.
الرحلة العربية
اختار المؤلف عنوان “الرحلة العربية” وهي عنوان للرحلة التي أطلقها ملك الدنمارك إلى اليمن في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حيث انطلقت هذه الرحلة من كوبنهاجن إلى القسطينية، فالاسكندرية وبعد قضاء عامين في مصر انطلقت البعثة في سفينة حجاج إلى جدة ومن جدة ابحروا في مركب صغير إلى ميناء اللحية في اليمن ومن هناك بدأوا رحلتهم داخل الأراضي اليمنية.
يقول المؤلف: لقد شارك في هذه الرحلة خمسة أشخاص هم “فون هافن” دانمركي، “فورسكال” سويدي، “نيبور”، “كرامر” طبيب البعثة، “باورنفانيد” رسام البعثة، إضافة إلى خادم عسكري سويدي اسمه “برججرين”، وقد واجهت هذه الرحلة صعوبات منذ انطلاقها حتى وصولها إلى اليمن حيث فتكت الملاريا بأعضاء الفريق، فقد مات “فون هافن” في المخا، وتبعه “فورسكال” في يريم وفي طريق عودتهم عبر الهند مات اثنان من أعضاء البعثة في البحر بسبب الملاريا أيضاً، ثم مات طبيب البعثة “كرامر” بعد وصوله إلى بومباي، ولم يعد من أعضاء هذه البعثة سوى نيبور الذي قام بتدوين يوميات هذه الرحلة ورصد نتائجها العلمية في كتابين أصبح لهما شهرة كبيرة، وهما “وصف بلاد العرب”، و”وصف رحلة إلى بلاد العرب والبلدان المجاورة.
وقد سعى المؤلف إلى تتبع هذه الرحلة ودلالاتها العلمية والتاريخية والاستراتيجية واستخلاص المضامين العميقة التي يمكن أن تختفي في تفاصيل الرواية، وأكد أن هناك عاملين اثنين حددا هذه البعثة الأول هو روح التنوير والمعرفة والكشوف الجغرافية التي ميزت أوروبا أبان ذلك العصر، أما الثاني هو الوجه الآخر للمعرفة الاستشراقية وهو السياسة والصراع من أجل اكتساب مواقع استراتيجية وخطوط بحرية.
داخل أسواق صنعاء
أشار المؤلف في هذا الجزء إلى ما قدمه الباحث الفرنسي “فرانك مرييه” من دراسة مهمة عن مجتمع صنعاء من خلال بوابتها الرئيسية “أسواق صنعاء” باعتبار السوق بوابة المدينة وعتبتها الأولى، مركز تجارتها وفضاء لتشابك علاقتها مع محيطها القبلي المحلي ومع العالم الخارجي.
ويقول: لقد جمع الباحث الفرنسي في مقارابته للسوق الصنعانية مناهج عديدة وتاريخية وسوسيولوجية واثنولوجية وتعدد المناهج على هذا النحو يعكس اتساع الموضوع الذي يقوم بدراسته فالسوق هو مكان لاختزال المجتمع وتكثيف التاريخ ويهتم “مرييه” بالتحولات التي جرت داخل أسواق صنعاء، الناس والمهن والحرف وأشكال المعاملات التجارية وغير ذلك من المظاهر الاجتماعية والحضرية، كما يبحث في علاقة السوق والجماعات الحضرية داخله بالسلطة السياسية وبالمحيط القبلي، وبالعلاقات الناشئة بين المدينة والريف، كما يولي اهتماماً بامتدادات صنعاء القديمة خارج أسوارها أي بالمراكز الحضرية والتجارية التي اتخذت تنمو وتتوسع منذ مطلع السبعينيات بالقرن الماضي لتشكل مدينة صنعاء في الوقت الحالي.
واستطرد الحديث عن “قانون صنعاء” الوثيقة التاريخية التي استفاد منها الباحث الفرنسي، حيث تعود هذه الوثيقة إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، وتقدم معطيات تفصيلية عن التنظيم الإداري للمدينة وللسوق، كما تهدف الوثيقة إلى قوننة العلاقات الاقتصادية وتحديد صلاحيات الهيئات الحرفية والجماعات الأخرى والدفاع عن الملكية المشتركة وعن أمن المدينة.
عدن العربية
يأخذنا المؤلف إلى عنوان جديد “عدن العربية” وهو عنوان لكتاب ألفه الكاتب الفرنسي “بول نيزان” ونشره في العام 1932م، حيث قرر السفر إلى عدن وهو في العشرين من عمره فكان شاباً متمرداً على المجتمع والثقافة والعصر، وكانت له معرفة عميقة بالحركة الدادانية والسريالية وبالماركسية.
ويوضح أن هذا الكتاب يضعنا أمام سؤال يتعلق بطبيعة القراءة لهذا الكتاب الذي يوحي من خلال عنوانه وبعض فصوله أنه كتاب ينتمي إلى أدب الرحلات وبالتالي يظهر في ثناياه محاولات لتمثيل الآخر، العربي العدني كما يذكر العنوان، بينما تقول فصوله الأولى والأخيرة بشكل مختلف من الأدب أو النقد السياسي لا يتعلق بعدن والسفر إلى عدن، بل بأوروبا والنظام الرأسمالي، وفي عدن لا نجد العرب إلاّ عابرين، إن “نيزن” يتحدث عن الأوروبيين الذين سكنوا هذه البلاد من الانجليز والايطاليين والفرنسيين وكذلك من الأمريكان، وهذا ما يوضحه “نيزان” في خاتمة الكتاب فهو يكتشف فرنسا في عدن وهو يتساءل هل كان عليه السفر آلاف الأميال إلى عدن ليعرف طبيعة النظام الرأسمالي في فرنسا؟.
الاستشراق مؤنثاً
خصص المؤلف هذا الجزء من الكتاب للحديث عن الاستشراق المؤنث كما اسماه، مؤكداً أن للمرأة إسهام في رواية الآخر وتمثيلها حيث وصل إلى اليمن في بدايات القرن العشرين وفي فترات متقاربة ثلاث نساء أوروبيات يعتبرن رائدات كل في مجال عملها وهن: “جاكلين بيرت” في بحوثها الأركيولوجية، و”فريا ستارك” في مسارها العابر بين حضرموت وعدن والبصرة وغيرها من بلاد الجزيرة العربية وكانت تمزج السياسة بالتاريخ والجغرافيا وتقيم عددا من التحالفات القبلية والسياسية، و”كلوديا فايان” الطبيبة الفرنسية التي جاءت في مهمة إنسانية وارتبطت باليمن وأهلها ارتباطاً حميماً وعبرت عن ذلك الارتباط في كتاب أصبح وثيقة هامة عن اليمن في النصف الأول من القرن العشرين.
دولة الخط وهيمنة النص
يعتبر المؤلف كتاب “دولة الخط” للباحث الفرنسي “بريكلي ميسك” كتاباً منفرداً في الكتابات الغربية عن اليمن فهو لا ينحو منحى استشراقياً تقليدياً ولا يلتزم بمعطيات الانتروبولوجيا والاثنولوجيا ولكنه يهتم بتفكيك نصوص الشريعة والتاريخ والفتاوى وأحكام القضاء، كما تظهر في المجتمع اليمني ويعزز مدى علاقتها بالناس وعلى خلاف الخطاب الاستشراقي السائد الذي يهتم بقراءة النصوص ويقوم بإعادة إنتاج المجتمع والتاريخ على ضوء تلك النصوص وعلى وجه الخصوص النصوص التي ترتبط بالشريعة والدين.
ويؤكد أن الكتاب يقدم دراسة متميزة وجديدة من نواحي متعددة فهي تحاول دراسة السلطة الناشئة عن هيمنة النصوص وتبحث في العلاقة بين النص والتاريخ وتنظر إلى الشريعة كخطاب اجتماعي وكنص مفتوح يكتب وتتم إعادة كتابته بما ينشأ عليه من حواش وهوامش وإضافات.
الاستشراق والفن
في الجزء الأخير من الكتاب وتحت هذا العنوان “الاستشراق والفن” يشير الكاتب هشام علي بن علي إلى أن صورة اليمن تكونت في المخيلة الغربية متشحة بألوان الأسطورة والحلم وبتكوينات المقدس والمجهول بوصف الرحالة والمغامرين، وامتزج النص الاستشرافي بلوحات وتجريدات لجأ إلى تشكيلها بعض المستشرقين والرحالة والفنانين.