> في مسرحية »جلفدان هانم« 2-1
الثورة نت/هشام علي
لا تحاول هذه السطور إحياء الذكرى المئوية لميلاد الأديب علي أحمد باكثير، في ندوة تزخر بالدراسات والأبحاث المتعددة، التي تتناول شتى مجالات الإبداع التي طرقها باكثير، وتقرأ إنتاجه الأدبي والفني من زوايا واتجاهات متنوعة، نظرية ونقدية، فكرية وسياسية، وإيديولوجية، ولها أن تجد في كتابات باكثير ما يفيض ويتجاوز حدود النظريات والإيديولوجيات والأفكار.
لا تحاول هذه السطور أن تدخل في سياق القراءات المتعددة لأدب باكثير، وربما لشخصيته وتجربته التي يمكن أن تمثل نصا روائيا أو عملا مسرحيا لم يكتبه باكثير بل عاش وقائعه تجربة حياة ومعاناة عمر ولم تكن الهجرة والاغتراب أو الحصار في الوطن وحدهما سبب تلك المعاناة كانت الكتابة أو التأليف هي المعاناة الأكثر مشقة والأشد عناءٍ صعوبة أن تكون كاتبا ذلك هو القدر الشاق وذلك هو الحلم الذي يحرك ايقاع الشوق والألم في تجربة باكثير وذلك أيضا هو الوعي الشقي الذي خرج يحمل أثقاله من بلاد الأحقاف بعد تجربة قصيرة ومريرة.
لقد اخترت في هذه السطور البحث عن “المؤلف” في شخص علي أحمد باكثير ليس عن حق المؤلف أو “الحق الضائع” الذي ناقشه باكثير بطريقة درامية رائعة في مسرحية “جلفدان هانم” وهو ما يشكل أساس القراءة ومحورها، إلا أن البحث عن الحق الضائع في ميراث جلفدان هانم تجاوز النص وحدوده، فكانت هوامش القراءة تغري بالتفتيش في سياقات أخرى تتجاوز تلك الحدود وتفتح المجال لاحتمالات متعددة للتأويل.
وربما يبدو مفارقا أن نبحث عن المؤلف في زمن ما بعد الحداثة إذا كان ثمة حد زمني فاصل بين الحداثة وما بعدها وأعلن فيه النقد “موت المؤلف” وحرر النص من سلطة الأبوة ليفتح المجال أمام احتمالات القراءة والتأويل ولكن هذا الموضوع ليس هدفا لهذه السطور فالمؤلف أو الكاتب أو المثقف، هو موضوع القراءة الموازية لنص المسرحية المذكورة أو أنها قراءة تتقاطع مع المناسبة التي نجتمع لأجلها مع زمانها ومكانها ونحن نحتفي بمرور قرن على ميلاد علي أحمد باكثير ونحتفي كذلك بعودة باكثير إلى سيئون البيت الذي عاش فيه سنوات قليلة ثم أخرج منه بعد معركة فكرية عنيفة مع التيارات التقليدية التي واجهت مشروعه التنويري بقوة وشراسة خرج باكثير في إثرها من مدينته خائفا يترقب وقد وجد في الكتابة والإبداع راحة القلب ويقين العقل بعد أن دخل مصر آمنا وعاش فيها مكرماً.
تنشأ الحكاية الرئيسية في مسرحية جلفدان هانم حول سيدة ثرية من أصول تركية كانت تحب أديباً تركياً في شبابها لكن أسرتها رفضت زواجها به لأنه في منزلة أدنى من مقام عائلتها.
ثم انتقلت إلى مصر بعد زواجها من ثري مصري ليست له أية علاقة بالأدب.
ظلت جلفدان مخلصة لذكرى الحب الضائع، وقد أنشأت في قصرها مكتبة ضخمة، ضمت كتباً في الأدب من كل صنف ومن كل لغة، كانت غاية مناها أن يصبح حفيدها الذي أسمته ضياء، على اسم ذلك الأديب التركي، أن يصبح أديباً كبيراً مثل ذلك الأديب الذي وضعت صورته في واجهة المكتبة، وقد سعت لتحقيق أمنيتها بكل ما تملك من ثروة ومال، إلا أن جهودها لم تنجح، فقد كان الحفيد مغرماً بالزراعة وكان يرغب في الالتحاق بكلية الزراعة، ولذلك فشل مراراً في كلية الآداب أدركت جلفدان هانم أن الأدب لا يمكن أن يدرس في الجامعات، ورأت بعد نصيحة كاتب حساباتها أن الحب وحده هو ما يشعل موهبة الكتابة الأدبية، هيأت لحفيدها هذا المناخ الجديد، وزوجته وهي غير راضية بالفتاة التي يحبها، وانتظرت ولادة الأديب دون جدوى.
الرحلة إلى أوروبا والدراسة في جامعاتها هي الحل، كانت تلك النصيحة الأخيرة، وهناك يكتشف عالماً آخر ونساء مختلفات ، فتتفجر في داخله كوامن الإبداع، يرحل ضياء إلى ألمانيا حيث يقضي أربع سنوات، يعود بعدها بشهادة دكتوراه في العلوم الزراعية، يقدمها لجدته على أنها شهادة في الأدب، وتضعها هذه الأخيرة التي لا تقرأ الألمانية في إطار فاخر وتعلقها في جدار المكتبة إلى جانب صورة ضياء وصفي، الأديب التركي الذي كان سبباً في كل هذا الحب للأدب إلا أن الشهادة ليست نهاية الأدب في تعلق جلفدان بالأدب، فهي لا زالت تحلم بتلك القصص التي يكتبها حفيدها، إنها تريد مؤلف قصص وروايات، وهذا ما لم يتحقق حتى الآن، وهنا تتجه الحكاية نحو ذلك الشاب المجهول صهر ضياء، الذي يتردد دائماً على مكتبة القصر، ويستعير من كتبها ما يشاء كان عاطف، وهذا هو اسم المؤلف المجهول، مولعاً بالقراءة وكان يسطر في دفاتره الخاصة كثيراً من القصص والمقالات، التي ظلت جميعها حبيسة الأدراج وفي لحظة شيطانية، أطلق صديق للطرفين فكرة تبادل الأدوار، المال مقابل الأدب هكذا تم بيع القصة التي كتبها عاطف لتنشر باسم ضياء، مقابل مبلغ من المال ظلوا يتفاوتون في تحديده بطريقة تثير الألم والضحك معاً.
احتفظ عاطف بكل الحقوق المالية للمؤلف، بينما اكتفى ضياء بالحق الأدبي، أصبح اسمه يتصدر غلاف القصة التي حملت عنوان ” الجنة البائسة” وأقامت له جدته حفلا كبيراً للاحتفال بولادة المؤلف الذي انتظرته طويلاً، أحست جلفدان هانم أنها حققت هدفها في الحياة، وأخلصت لذكرى حبها الضائع هاهي تقف أمام صورته وتتمتم : ” هأنذا يا حبيي قد أحييت ذكراك .. هذا حفيدي الذي سميته باسمك قد صار أديباً نابها تتحدث عنه الصحف والأوساط الأدبية كما كانت تتحدث عنك.. الحمدلله.. الآن استطيع أن أموت قريرة العين راضية النفس”.
هكذا تبدو الحكاية وقد سارت بهدوء نحو نهايتها ، لكن جلفدان هانم التي قررت أن تموت قريرة العين، تركت لحفيدها ميراثاً هائلاً من القلق، دون أن تقصد ذلك، فقد رسخ في ذهنها أن حفيدها أصبح مؤلفاً كبيراً يشار له بالبنان والحفيد المؤلف هو الجدير بثروتها بعد وفاتها لذلك كتبت في وصيتها هذا الشرط: ( أن يأخذ حفيدها كامل ميراثها على شرط أن يكون أدبياً قصصياً يكتب عن الفلاحين ويدعو إلى رفع مستواهم).
تفجر هذه الوصية عدداً من المفارقات، فالحفيد ضياء أعلن في الصحف أنه ليس مؤلف قصة ” الجنة البائسة” ويذكر اسم مؤلفها الحقيقي ” عاطف” لكن هذا الأخير لم ينل أية فائدة من هذا الاعتراف، وظل الجميع يربط تلك القصة بمؤلفها المنتحل ضياء ولم يتمكن عاطف من نشر أية قصة من قصصه الأخرى.
من جهة أخرى، كان ضياء يحمل في ذهنه مشروعاً لتطوير وتنمية إحدى القرى التعاونية ومساعدة الفلاحين وقد عمل بعد عودته من ألمانيا على تحقيق هذا المشروع وبذل جزءاً من ماله لهذا الغرض ودفع نجاح المشروع التعاوني الدولة لاعتماده ودعمه، وبهذا العمل يكون ضياء قد حقق نصف الشرط الذي نصت عليه الوصية، وفشل في تحقيق النصف الآخر ، أي أن يكون أديباً ومؤلفاً وهو ما جعل المحكمة التي نظرت في قضية ميراث جلفدان هانم تحكم ضد ضياء وتمنح ذلك الوريث القادم من تركيا نصف الثروة.
لم تكن خدمات ضياء ومشروعه لإصلاح أوضاع الفلاحين وتنمية المجتمع الريفي كافية لنقض الحكم فالمحامي ” لم يستطع أن يقنع القضاء بأن الغاية مقدمة على الوسيلة وأن الذي يرفع مستوى الفلاحين بالعمل المثمر أنفع للفلاحين من الذي يكتب عنهم القصص والروايات”.
ولولا ثبوت التزوير في وثائق ذلك القريب التركي لذهبت الثروة لصالحه، هكذا كان التزوير في وثائق التأليف ووثائق ذلك الوارث التركي المزيف، سببأ لنقض ذلك الحكم الذي صدر في ميراث ” جلفدان هانم” الثرية التي أرادت شراء الأدب بالمال.
يساهم باكثير في هذه المسرحية في مناقشة قضية حقوق المؤلف، بطريقة فنية لم يسبق أن تعرض لها أديب عربي على هذا النحو الدرامي والذين بحثوا موضوع حق المؤلف، وقد كانوا بعدد أصابع اليدين، إنما بحثوها في كتابات ومقالات تمتلئ بالشكوى أو تتحدث عن ضرورة وأهمية وجود قوانين تحفظ للمؤلف حقوقه الأدبية والمادية ويمكن أن نذكر مقالاً رائداً للأديب اللبناني نجيب الحداد (1867-1899) نشره في إحدى الصحف المصرية، حيث أنه عاش حياته الأدبية في مصر، كان المقال بعنوان ” الحق الضائع” وقد ذكر فيه ” أن المؤلفين يقدمون إنتاجاً عقلياً وفنياً، يعد عصارة روحهم ، ومع هذا تضيع حقوقهم ، رغم أنها أعظم الحقوق”.
نشر مقال نجيب حداد قبل أكثر من قرن من الزمان، وفي منتصف القرن الماضي كتب طه حسين مقالاً عن ” حق المؤلفين ” في جريدة الجمهورية، وكان مواكباً للنقاش الدائر في مصر آنذاك، حول أهمية إصدار قانون خاص بحق المؤلف، إذ أن المواد الموجودة في القانون المدني كانت تنص على هذا الحق وتعيد مسائله التفصيلية إلى القانون الخاص الذي لم يصدر.
في مسرحية ” جلفدان هانهم ” يتعرض باكثير لموضوع حقوق المؤلف وقد تمكن من مناقشة تفاصيل هذا الحق، بطريقة فنية تعبر عن قدرة عالية في الكتابة، فقد تناول قضية قانونية بكل تفاصيلها دون أن يدرك القارئ أي ملل فهولا يذكر مواد أو بنوداً قانونية لكنه يقودنا إلى استخلاص هذه الحقوق، من خلال الحوار الذي يدور بين الشخصيات ومن خلال وقائع المسرحية التي حصرها في قضية محددة، وهي وصية” جلفدان هانم” والشرط الذي وضعته لتنفيذها يتضمن حق المؤلف جانبين، الأول مادي والثاني معنوي ويرتبط الحق المادي بفترة زمنية تمتد طوال عمر المؤلف ومدة زمنية مضافة بعد وفاته يحددها القانون بينما تكون الحقوق الأدبية والمعنوية دائمة على الإطلاق.
وعلى هذا الحق تنشأ مواد مثل أبوة النصوص والحق في تمويل العمل الأدبي إلى شكل آخر من أشكال الإبداع، تناول باكثير هذه المواد والقضايا الخاصة بحق المؤلف في سياق النص المسرحي، ويمكن أن نشير إلى مواضيع وجودها على النحو التالي:
أ- الحق المالي للمؤلف: في المشهد الأول من الفصل الثاني نرى الحوار الذي يتنازل بموجبه مؤلف قصة ” الجنة البائسة” بحقه المعنوي لعديله ضياء وصفي، مقابل مبلغ من المال للكاتب بالإضافة إلى تكفله بدفع تكاليف الطباعة والدعاية للكتاب بعد تشره وتظل الحقوق المالية محفوظة للمؤلف الأصلي في طبعتها الأولى وطبعاتها اللاحقة.
ب- الحق الأدبي: في المشهد الثاني من الفصل الثاني، أثناء الحفل الذي تقيمه السيدة جلفدان بمناسبة صدور قصة حفيدها، يظهر المؤلف الحقيقي عاطف وقد غادر قاعة الاحتفال، ليتوارى خلف الستار، ويجلس باكياً متألماً ويتمتم جريمة ارتكبها في حق الأدب.. وفي حق التاريخ .. وفي حق نفسي ” أجل لقد قتلت نفسي .. قتلت نفسك يا عاطف ..يئن أنيناً خافتاً”.
ت- ويمضي المشهد في حوار بين عاطف وزوجته يبث فيه آلامه ومشاعره الأليمة في هذا اليوم الذي يشهد إعلان وفاته ويسمع نعيه في كل الكلمات التي تفيض في مدح المؤلف الزائف ضياء وصفي.
وحين تحاول زوجته التخفيف عنه فتقول له إن الجميع يمجدون قصتك ويمدحون مؤلفها يسألها عاطف” من هو مؤلفها؟ أنا أم ضياء وصفي؟ وتجيب الزوجة: ضياء وصفي طبعاً يقول عاطف: أهو ذا النعي سمعته من فمك ” في أسى” وآه عليك يا عاطف تسمع نعيك من فم امرأتك؟ باكثير في هذا المقطع من المسرحية أهمية الحق الأدبي ويظهر الإحساس المؤلم الذي يشعر به المؤلف حين يجد حقه ضائعاً، وإن كان قد قبض المال مقابل ذلك أن المال لا يستطيع أن يخلق الإبداع، يصرخ عاطف في وجه زوجته قائلاً: هذا المجد الأدبي الذي أخذه مني ضياء هل كان يحلم في مثله قط هو أو أجداده؟والله لو دفع كل الثروة التي تملكها جدته جلفدان هانم لما استطاع أن يظفر به لو لم يجد مغفلاً مثلي باع له مجده بثمن بخس ”
هكذا يصور باكثير الحق الأدبي للمؤلف الذي لا يقدر بأموال الدنيا كلها فعلاقة الكاتب بأدبه أبوة بالدرجة الأساسية.