بلغة المرام للعلامة ابن المطهر
المقالح عبدالكريم
1
في مقدمة كتابه : ” بلغة المرام في الرحلة إلى بيت الله الحرام ” يضيء لنا العلامة ابن المطهر المسافات والدروب .. فهو عندما قرر أداء فريضة الحج .. تأرجح محتارا أيهما الأنسب : طريق البر أو البحر .. لذا راح يسأل أهل الخبرة والمجربين .. وهو ما عدد الآراء ونوع الأخبار .. حتى استنتج في نهاية المطاف (إنه لم يتمكن أحد من طريق الحجاز المعتادة .. بل عزم بعض الحجاج من طريق الساحل ) أي برا بمحاذاة الساحل أو البعض الآخر من طريق البحر ) وهو ما أختاره رحالتنا ..!!
2
1211هـ هو تاريخ الرحلة .. الذي يوافقه ميلادياً : 1787م .. وهكذا مابين مغادرة رحالتنا ابن المطهر لصنعاء يوم الخميس (لعله حادي عشر من شهر شوال ) وعودته إليها في (آخر نهار الخميس لعله عاشر صفر من سنه 1212)ثمة موسوعة علمية متباينة المعلومات … استأثر على معظمها السفن والمراكب وما يتصل بهما .
كما تعد هذه الرحلة وثيقة تاريخية نادرة .. تحفظ بالكلمات : وصفا وانطباعا وتحليلا .. مشاهد ووقائع هامة عاصرها الرحالة خلال القرن الثامن عشر الميلادي .. وعايشها عبر مختلف محطات رحلته ..سواء على مستوى الأمكنة والبشر : علاقات ومؤثرات وتأثيرات .. أو على مستوى منتوج الإنسان من آلات ومستخدمات وأطعمة .. وصولا إلى المعتقدات الدينية السائدة حينها خلال موسم الحج .. هذا غير الأساطير المتداولة عن البحر وما يتصل به من نشاط بشري كالصيد اللؤلؤ من البحر ..!!
أما تسجيل الرحلة : مسارات وأحداث ومواقف ..فكان بعد العودة منها .. ما إن فرغ من دراسة كتابي : سبل السلام وبلوغ المرام وقد جاء تصنيف الرحلة ( إقتداء ببعض من دون رحلاته من الإعلام السابقين ) حسب المؤرخ الحبشي .. الذي يخبرنا أن غالبية أولئك الإعلام من أهل المغرب .. حيث ( رأيناه يرجع في رحلته هذه إلى رحلة العبدري ).
3
من الصور الجوهرية التي أجاد رحالتنا في صياغتها وعرضها لنا .. تلك المتعلقة بمسقط رأسه : اليمن . بلده الأم .. الذي حملة معه طوال أيام الرحلة .. وذلك ضمن اتجاهين : داخلي وخارجي .
في الاتجاه الأول .. والمتعلق بخارطة الرحلة ضمن الحدود اليمنية ..ذهايا وإيابا ..نطالع في خط البداية توكيد رحالتنا : أن خروجهم من صنعاء كان (سفرا لم يشاب بسؤ ) حتى داهمتهم شائعة مكدرة مع تقدمهم في الطريق وتحديداً عند أطراف حراز .. حيث حصل (بعض تشويش بسبب أنه بلغ انتهاب جماعة ممن تقدم من الحجاج ) فكان أن تطوع بعض الأشخاص لحراستهم لكن (مقابل شيء من المال ) حسب المؤرخ الحبيشي .. !!
وما بين صنعاء والحديدة .. تجنب رحالتنا ذكر محطات الطريق حتى بياته في محل يقال له “الجرين ” .. وذلك يوم الخميس 18 شوال أي بعد أسبوع من مغادرتهم صنعاء- بعد أن تعذر عليهم دخول “شجين ” بسبب غزارة الوابل المطري الذي طوفن الأرض كلها ..!!
4
في الحديدة .. وطوال اثني عشر يوما .. كان جدول رحالتنا اليومي حافلا جداً .. توزع بين التطواف في أرجائها واقتضاء حاجاته .. وقد دون الكثير من الصور لبندر الحديدة .. عاقرا مقارنة بينه وبندر المخا.. مفرداً في ذات الوقت .. مساحة وافرة لأسماء الإداريين حينها .. مثل العامل على بندر الحديدة سندروس المنصور (وهو من الموالي ) وقد زاره رحالتنا في أول وهولة .. فوجد الرجل في شغل شاغل .. يتابع عملية بناء دارة أما حاكم البندر فهو الفقية القاضي أحمد بن إسماعيل حنش والكاتب صلالح بن يحيى العلفي .. وأمير البحر الفضية عبدالله بن أحمد الخولاني .. وحسب المؤرخ الحبشي ..فإن هذا الأخير قد استحق كثير الثناء والاشادة من رحالتنا ..!!؟
وكانت مغادرة بندر الحديدة إلى جزيرة كمران يوم 12 ذو القعدة وهناك كعادته مع الأمكنة الجديدة .. تجول في انحاء الجزيرة ووصفها بكل ما فيها من بشر وشجر وحجر.
واياباً.. ينزل رحالتنا في ” اللحية ” ويمكث فيها أربعة أيام (في أحسن حال وانعم بال) ليغادر إلى صنعاء ( يوم الخميس سلخ شهر محرم سنة 1212)..
5
وخارج اليمن .. في هذا الاتجاه نجد غزارة معلوماتية فائقة .. تتعلق جلها بالشخصيات اليمنية وما يتكوكب حولها من أقمار ونجوم.. والتي تبدأ بعادات اليمينين يومذاك في السفر بحرا .. وهو مشهد شائق صور رحالتنا تفاصيله في نهاية الرحلة لدى إيابهم إلى جدة ..وهم يبحثون عن مركب يقلهم إلى الوطن .. حيث لم يتيسرلهم إلا مركب “حوري “زاوية حادة مثيرة .. يضيء جوانبها رحالتنا بقوله : (وأهل اليمن يتجنبون الركوب مع الأغراب لئلا يحصل منهم مخالفة وهم غير مدولين لا يخافون تبعه ) وهو ما يحيلنا إلى الملاحين اليمنيين .. والذين يتبزون نظرائهم خاصة في ما يتعلق بالوصول إلى الشواطئ اليمانية .. أما غيرهم فإنهم (يسافرون حيث يريدون لا يمنعهم شيء إلا الوصول إلى البنادر اليمنية .. فإنه لايتم لهم الوصول إليها إلا برجل من أهلها .. وهذه من الألطاف .. كفى الله سبحانه كل شر من يخشى شره .. فلا يهم الدخول إلى مرسى جدة واللحية ونحوهما ولا الخروج إلا برجل من أهل اليمن .. بل الظاهر أنه لايتم لهم السفر من جدة إلى المخاء على جهة الاستقلال ولا الوصول إلى محل في مرسى جدة .. بحيث إذا ارسي أصاب كذلك إذا قد صار لايتم له الخروج منه على جهة ..ويقال أنها قد هلكت في مرسي جدة بسبب ذلك عدة مراكب) ويتدخل المؤرخ الحبشي .. يوضح هذه الفقرة .. يقول (وهذا ما يعرف عند أهل الملاحة بالشعب المرجانبة .. وهي عبارة عن أحجار .. إذا مر عليها المركب تحكم … فلا سيتطيع تجنبها إلا أناس لهم خبرة بمواضعها .. وهم غالبا من أهل اليمن ).
6
وإلى الحجاج اليمنيين .. والذين كانوا يتجمعون في جدة ..قبيل الانطلاق إلى مكة المكرمة .. لكن مع كثير من المهانة التي شهد عليها رحالتنا .. الذي حسب المؤرخ الحبشي ( ساءهُ كثيرا معاملة جنود الشريف لحجاج اليمن ) حتى أنهم لم ينتفعوا برسالة التوصية التي حملها رحالتنا معه من عامل الحديدة إلى بشا جدة الذي ( أظهر بعض عناية وأرسل لنا أمير بحر سنبوق ومعه جماعة من أهل فحلة) لكنهم كانوا غلاظ الطبع والمعاملة.. وكما يضيف رحالتنا.. فإن الأغراب عموماً يلاقون ملاقاة عظيمة من جنود الشريف.. لدرجة أنه( إذا توفى الله أحدهم ولو خادماً أو غريباً كانت ذريعة واضحة في أخذ مال غيره ويكفي كون الجميع من اليمن أو من العجم وإزاء ذلك يتخذ رحالتنا موقفاً متحفظاً لكل ما يحصل ويجري أمامه.. وذلك عندما أتاه رسول من باشا جدة يعلمه أنه قد خصص له بيت فيها.. فما كان منه- انسجاماً مع موقفه أولاً ومبادئه أخيراً إلا أن رفض ذلك العرص .. مقرراً متابعة رحلتى إلى مكة المكرمة ( فأعتذرت محبة العزم آخر ذلك اليوم )!!
7
ولأن السفر والإقامة خارج الوطن.. يستلزم من الإنسان التسوق من حين إلى آخر.. في أسواق البلد الذي قصده.. فإنه كثيراً بوعي أو بدون وعي لا بد أن يجري عملية مقارنة بين الوضعين.. هنا وهناك.. وهو تماماً ما قام بهر حالتنا.. حتى أنه أعطانا لمحة موجزة لكن كافية عن أكثر ما يهم الحجاج خلال الموسم من أطعمة ومأكولات وأسعار!!
يقول رحالتنا: ( البضائع ضعيفة قليلة وأما الطعام وغيره فموجود.. وأسعار مليحة القدح الحنطة بقرش والذرة قدح ونصف بقرش فرانصي وإن كان القدح عندهم عبارة عن ربع قرش ” اما الفرانصي فهو ريال.. كذلك السمن يأتي بالقرش الحجر أربعة أرطال والعسل خمسة أرطان.. والرأس الغنم بثمن قرش إلا قريب البحر فإنه أرتفع قليلاً وهذا خير كبير بالنسبة إلى القحط الشديد في هذا العام ).
وفي لقطة استرجاع / فلاش باك مكاني.. ينقلنا رحالتنا إلى موطنه اليمن والذي تركه وهويئن تحت وطاة الفاقة الشديدة.. نجده يمدنا بمرارة ما يعتمل طي جوانحه.. مصوراً لنا حجم المعاناة التي ترزح تحتها البلاد بما ومن فيها.. مورداً أسعار سلع محددة كالحبوب.. متحدثاً عن حصول وفيات كثيرة بين البشر والحيوانات..!!
في مكة المكرمة.. وتحديداً داخل بيت الله الحرام.. تتجلى شخصية العالم بشكل أوضح وأعمق لدى رحالتنا.. والذي لم يكتف بوصف كل شيء.. محدداً القياسات والمسافات.. مفصلاً في كل صغيرة وكبيرة.. بل إنه قام برسم تمثيلي – من بُعدين- للكعبة المشرفة وأبواب الحرم.. التي عددها كلها في سرده .. منتقلاً بعد ذلك إلى المقامات ( وسطح بئر زمزم عليه مقام الشافعي من جهة الشرق ومقام الحنفي من جهة الشمال .. ومن جهة اليمن مقام المالكي ومن جهة الغرب مقام الحنبلي) وهو مارأه رحالتنا من البدع الداعية إلى تفريق المسلمين ( وهذا مما يدعو الناس إلى التفرق المنهي عنه وتعدد الجماعات خصوصاً في المغرب بدعة مجمع على كراهيتها بل تجريمها)!!
ورغم هذا الموقف الجدي والحازم الذي يصدر عن رحالتنا .. إلا أنه كعادته يلطف الجو ويزيل شيئاً من حرامته بتذيدله نادرة لطيفة .. حيث يخبرنا أن احدهم ( سأل رجلاً من أهل اليمن عن مقام الزيدية أين يكون؟! فقال له: أعلم ولكن إن رأيت تستأجر لنا مقام الحنبلي)..!!
9
وكما مقارنات الأسعار.. سرعان ما يجد رحالتنا منظراً آخراً يزج به في ثانية جديدة بين هنا وهناك.. ففي عرفات يوم الوقفة.. تثيره مظاهر خروج والى مكة.. الشريف غالب بن مساعد.. مع حاشيته .. وهذا ليس المهم.. المهم هنا أن والى مكة كان يحمل غليون التدخين..؟! يقول رحالتنا ( ولاخشية عندهم في استعمال التتن .. ستعمله الشريف والوضيع كسائر المباحات.. وفي ديارنا يعني اليمن يختلف الحال فيه وفي نشقه.. فعند بعضهم حرام وبعضهم يتجنبه تقشفاً وهو عنده مباح)..!
ورغم أن رحالتنا يدرك تماماً أن الشرع لا يحرم التدخين.. إلا أنه يرى أن الطبيعة السليمة تقبح هذا الفعل .. حسب المؤرخ الحبشي..!؟
10
وأخيراً.. أخبار الوطن.. والتي وصل منها المؤسف والمحزن وهم عرفات.. حيث أبلغهم الفقيه محمد النسري بوفاة القاضي العلامة علي بن محمد الشوكاني.. وكذلك العلامة عبدالله بن المنصور ..؟!
* انسكاب:
( ولقد رأيت حال نزول ذلك المطر.. ما يقرب من النهر كأفواه القرب مع عواصف تستميل ما مرت به حتى كاد يقع على الأرض.. ولقد مضت بعض دوابنا من باب العشة حتى صارت لدينا بغير اختيار وإنما هو من جهة الإلقاء.. وما كان بأقرب ما جرفت ما فوقنا.. ومر السيل من تحتنا.. وبتنا في أشد ليلة )..!!؟
* الخولاني:
* ( اعتنى في تحصيل مانحتاجه.. مع مشارفة تامة على سائر الحجاج والوفاد.. ولقد كان لوصوله إلينا وسؤاله عما نحتاح إليه واستمراره على ذلك مع ما نحن عليه من الغربة ومشقة السفر أثراً عظيماً أزال شظف العيش وتعب الطريق).
* البلدة:
( فإنا عزمنا وأهل اليمن في اشد حال.. قد اجتمع عليهم مشقة العدم وارتفاع الأسعار ارتفاعاً مجاوزاً.. بلغ القدح الحنطة خمسة قروش حجراً والقدح الطعام أربعة قروش.. وقد نضبت الآبار والغيول وحصل موت كثير.. وكثرموت الدواب في الطرقات من الجوع.. فربما رأى رجل رجلاً منهم فظن أنه قد مات.. فإذا طعم لقمان وسقي قليلاً من الماء أفاق وقام في الحالة يمشي ويطلب الزيادة.. ووقعت الرجفات والزلازل التي غارت بسبها الأنهار.. وظهرت حيوانات أعتقد بعض الناس أنها ذئاب.. وكان ظهورها في بلاد البستان وسنحان وهمدان والسر وقاع صنعاء.. ومازالت تختلف في خلال هذه الجهات وتعدوا على السفر في الطرقات حتى يخشى الناس منها وقتلت جماعة).